الرئيسية/شروحات الكتب/روضة الناظر وجنة المناظر/(62) من فصل هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع إلى فصل اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث

(62) من فصل هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع إلى فصل اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: الثّاني والسّتون

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ شيخُ الإسلامِ موفَّقُ الدِّينِ ابنُ قدامةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في: "روضةِ النَّاظرِ" في تتمَّةِ كلامِهِ على مسائلِ الإجماعِ:
مسألةُ: إجماعِ أهلِ كلِّ عصرٍ حجَّةٌ، كإجماعِ الصَّحابةِ، خلافاً لداودَ

– الشيخ: لا إله إلَّا الله، لكنَّ إجماعَ الصحابةِ يقولُ ابنُ تيميةَ: الإجماعُ الَّذي ينضبطُ هو إجماعُ الصَّحابةِ -رضي الله عنهم-، أمَّا إجماعُ غيرِهم فإنَّ هذا لا يكادُ ينضبطُ؛ لانتشارِ.. اتِّساعُ البلادِ وانتشارُ العلماءِ، لكن كلّ ما يُحكى في الإجماعاتِ -في الغالب- أنَّه قولٌ أكثر.. أو أدقُّ عبارةً أنْ يُقالَ: "لا نعلمُ فيهِ"، لا نعلم.. كما يقولُ الموفَّق كثيراً: "لا نعلمُ فيهِ خلافاً"، فهذه عبارةٌ دقيقةٌ وجيِّدةٌ، "لا نعلمُ فيه خلافاً"، لكنَّ الحكمَ بأنَّ هذا إجماعٌ وأنَّ جميعَ علماءِ الأمَّة في هذا العصر أجمعُوا على هذا، هذا لا يكادُ يُوقَفُ عليه.
 

– القارئ: إجماعُ أهلِ كلِّ عصرٍ حجَّةٌ، كإجماعِ الصَّحابةِ
– الشيخ: نظريّاً صحيحٌ
– القارئ: كإجماعِ الصَّحابةِ، خلافًا لداودَ، وقد أومأَ أحمدُ -رحمَهُ اللهُ- إلى نحوِ ذلكَ
– الشيخ: كأنَّه "إلى نحوِ ذلكَ" يعني: إلى نحوِ ما قالَ داودُ، احتمال، ما في تعليق على هذه الجملةِ "إلى نحو ذلك"؟
– القارئ: نعم، "خلافًا لداودَ" قالَ: وأحمدُ في إحدى الرِّوايتينِ عنه وبعضُ أهلِ العلم حيثُ ذهبوا إلى أنَّ الإجماعَ المحتجَّ به مختصٌّ بالصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم.
– الشيخ: نعم.
– القارئ: خلافًا لداودَ، وقد أومأَ أحمدُ -رحمَهُ اللهُ- إلى نحوِ ذلكَ؛ لأنَّ الواجبَ: اتِّباعُ سبيلِ المؤمنينَ جميعِهم، والصَّحابةُ وإنْ ماتُوا: لم يخرجُوا مِن المؤمنينَ ولا مِن الأمَّةِ.
ولذلكَ: لو أجمعَ التَّابعونَ على أحدِ قولي الصَّحابةِ، لم يصرْ إجماعًا، ولا ينعقدُ الإجماعُ دونَ الغائبِ، فكذلكَ الميِّتُ.
ومقتضى هذا ألَّا ينعقدَ الإجماعُ -أيضًا- للصَّحابةِ، لكنْ لو اعتبرْنا ذلكَ: لم ينتفعْ بالإجماعِ، فاعتبرْنا قولَ مَن دخلَ في الوجودِ، دونَ مَن لم يُوجَدْ.
أو نقولُ: الآيةُ والخبرُ تناولَا الموجودينَ الَّذينَ كانَ وجودُهم حينَ نزولِ الآيةِ؛ إذْ المعدومُ لا يُوصَفُ بإيمانٍ، ولا أنَّهُ مِن الأمَّةِ.

– الشيخ: لكن إذا وُجِدَ صارَ من أهلِ الإيمانِ ومن الأمَّة، فالمعدومُ غيرُ معتبرٍ في الإجماع، لكنْ إذا وجدت الجيلَ وُجِدَ، إذا فُرِضَ أنَّ أهلَ العصرِ أجمعوا فهو حجَّةٌ كما قرَّرَ المؤلِّفُ، المؤلِّفُ بنى مسألتَه على هذا، إجماعُ أهلِ كلِّ عصرٍ، يعني: حجَّةٌ.
 

– القارئ: ولأنَّهُ يُحتمَلُ: أنْ يكونَ لبعضِ الصَّحابةِ في هذِهِ الحادثةِ قولٌ لم نعلمْهُ يخالفُ ما أجمعَ عليهِ التَّابعونَ، فلا ينعقدُ إجماعُهم بخلافِهِ.
ولنا: ما ذكرْناه مِن الأدلَّةِ على قبولِ الإجماعِ، مِن غيرِ تفريقٍ بينَ عصرٍ وعصرٍ.
والتَّابعونَ إذا أجمعُوا: فهوَ إجماعٌ مِن الأمَّةِ، ومَن خالفَهم سالكٌ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ.
ويستحيلُ -بحكمِ العادةِ- شذوذُ الحقِّ عنهم -معَ كثرتِهم- كما سبقَ.
ولأنَّهُ إجماعُ أهلِ العصرِ فكانَ حجَّةً كإجماعِ الصَّحابةِ.
وما ذكرُوهُ باطلٌ:
إذْ يلزمُ على مساقِهِ: ألَّا ينعقدَ الإجماعُ بعدَ موتِ مَن ماتَ مِن الصَّحابةِ في عصرِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وبعدَهُ، بعدَ نزولِ الآيةِ، كشهداءِ أحدٍ، واليمامةَ، ولا خلافَ في أنَّ موتَ واحدٍ مِن الصَّحابةِ لا يحسمُ بابَ الإجماعِ.

– الشيخ: لا يخرمُ؟
– القارئ: لا يحسمُ، من الحسمِ.
– الشيخ: "لا يحسمُ" أيش؟
– القارئ: بابَ الإجماعِ.
– الشيخ: إي، "لا يحسمُ" كأنَّه لا يمنعُ يعني.
– القارئ: كما بطلَ -على القطعِ- الالتفاتُ إلى اللَّاحقينَ: بطلَ الالتفاتُ إلى الماضينَ، فالماضي لا يُعتبَرُ، والمستقبلُ لا يُنتظَرُ.
وكلِّيَّةُ الأمَّةِ حاصلٌ لكلِّ الموجودينَ في كلِّ وقتٍ، ويدخلُ في ذلكَ الغائبُ، لأنَّهُ ذو مذهبٍ تمكِنُ مخالفتُهُ وموافقتُهُ بالقوَّةِ، والميِّتُ لا يُتصوَّرُ في حقِّهِ وفاقٌ ولا خلافٌ، لا بالقوَّةِ ولا بالفعلِ.
بل الطِّفلُ والمجنونُ لا يُنتظَرُ؛ لأنَّهُ بطلَ منهُ إمكانُ الوفاقِ والخلافِ، فالميِّتُ أولى، وما ذُكِرَ مِن احتمالِ مخالفةِ واحدٍ مِن الصَّحابةِ، يبطلُ بالميِّتِ الأوَّلِ مِن الصَّحابةِ فإنَّ إمكانَ خلافِهِ لا يكونُ كحقيقةِ مخالفتِهِ.
وهذا التَّحقيقُ؛ لأنَّهُ لو فُتِحَ بابُ الاحتمالِ لبطلَتْ الحججُ؛ إذْ ما مِن حكمٍ إلَّا ويُتصوَّرُ تقديرُ نسخِهِ، ولم يُنقَلْ.
وإجماعُ الصَّحابةِ يُحتمَلُ أنْ يكونَ واحدٌ منهم أضمرَ المخالفةَ وأظهرَ الموافقةَ لسببٍ، أو رجعَ بعدَ أنْ وافقَ.
والخبرُ يُحتمَلُ أنْ يكونَ كذبًا، فلا يُلتفَتُ إلى هذهِ الاحتمالاتِ.
فصلٌ:
وإذا اختلفَ الصَّحابةُ على قولينِ، فأجمعَ التَّابعونَ على أحدِهم:
فقالَ أبو الخطَّابِ، والحنفيَّةُ: يكونُ إجماعًا.
لقولِهِ عليهِ السَّلامُ:
(لا تزالُ طائفةٌ مِن أمَّتي على الحقِّ) وغيرِهِ مِن النُّصوصِ.
ولأنَّهُ: اتِّفاقٌ مِن أهلِ عصرٍ، فهوَ كما لو اختلفَ الصَّحابةُ على قولَينِ ثمَّ اتَّفقُوا على أحدِهما.
وقالَ القاضي، وبعضُ الشَّافعيَّةِ: لا يكونُ إجماعًا؛ لأنَّهُ فتيا بعضِ الأمَّةِ؛ لأنَّ الَّذينَ ماتُوا على القولِ الآخرِ مِن الأمَّةِ لا يبطلُ مذهبُهم بموتِهِم.
ولذلكَ يُقالُ: خالفَ أحمدَ، أو وافقَهُ، بعدَ موتِهِ فأشبهَ ما إذا اختلفُوا على قولَينِ، فانقرضَ القائلُ بأحدِهما.
فإنْ قيلَ:
إنْ ثبتَ نَعْتُ الكلِّيَّةِ للتَّابعينَ، فيكونُ خلافُ قولِهم حرامًا، وإنْ لم يكونُوا كلَّ الأمَّةِ فلا يكونُ قولُهم إجماعًا.
أمَّا أنْ يكونُوا كلَّ الأمَّةِ في شيءٍ دونَ شيءٍ فهذا متناقضٌ.
قلْنا: الكلِّيَّةُ تثبتُ بالإضافةِ إلى مسألةٍ حدثَتْ في زمنِهم.
أمَّا ما أفتى بهِ الصَّحابيُّ: فقولُهُ لا يسقطُ بموتِهِ.
ولو ماتَ القائلُ فأجمعَ الباقونَ على خلافِهِ، كانَ إجماعًا.
ومِن وجهٍ آخرَ: أنَّ اختلافَ الصَّحابةِ على قولَينِ: اتِّفاقٌ منهم على تسويغِ الأخذِ بكلٍّ منهما، فلا يبطلُ إجماعُهم بقولِ مَن سواهم.
فصلٌ:
إذا اختلفَ الصَّحابةُ على قولَينِ: لم يجزْ إحداثُ قولٍ ثالثٍ في قولِ الجمهورِ.
وقالَ بعضُ الحنفيَّةِ، وبعضُ أهلِ الظَّاهرِ: يجوزُ؛ لأمورٍ ثلاثةٍ:
أحدُها: أنَّ الصَّحابةَ خاضُوا خوضَ مجتهدينَ، ولم يصرحُوا بتحريمِ قولٍ ثالثٍ.
الثَّاني: أنَّهُ لو استدلَّ الصَّحابةُ بدليلٍ، وعلَّلُوا بعلَّةٍ: جازَ الاستدلالُ والتَّعليلُ بغيرِهما؛ لأنَّهم لم يصرِّحُوا ببطلانِهِ، كذا هنا.
الثَّالثُ: أنَّهم لو اختلفُوا في مسألتَينِ، فذهبَ بعضُهم إلى الجوازِ فيهما، وذهبَ الآخرونَ إلى التَّحريمِ فيهما: فذهابُ التَّابعيِّ إلى التَّجويزِ في أحدِهما، والتَّحريمِ في الأخرى: كانَ جائزًا، وهوَ قولٌ ثالثٌ.
ولنا: أنَّ ذلكَ يوجبُ نسبةَ الأمَّةِ إلى تضييعِ الحقِّ، والغفلةِ عنهُ؛ فإنَّهُ لو كانَ الحقُّ في القولِ الثَّالثِ: كانَتْ الأمَّة قد ضيَّعَتْهُ وغفلَتْ عنهُ، وخلا العصرُ عن قائمٍ للهِ بحجَّتِهِ، ولم يبقَ منهم عليهِ أحدٌ وذلكَ محالٌ. وقولُهم: "لم يصرِّحوا بتحريمِ قولٍ ثالثٍ".
قلْنا: ولو اتَّفقُوا على قولٍ واحدٍ، فهوَ كذلكَ، ولم يجوِّزُوا خلافَهم.
فأمَّا إذا علَّلُوا بعلَّةٍ، فيجوزُ بسواها؛ لأنَّهُ ليسَ مِن فرضِ دينِهم الاطِّلاعُ على جميعِ الأدلَّةِ، بل يكفيهم معرفةُ الحقِّ بدليلٍ واحدٍ، وليسَ في الاطِّلاعِ على علَّةٍ أخرى نسبةٌ إلى تضييعِ الحقِّ، بخلافِ مسألتِنا.
وأمَّا إذا اختلفُوا في مسألتَينِ فإنَّهم: إنْ صرَّحُوا بالتَّسويةِ بينَ المسألتَينِ: فهوَ كمسألتِنا، لا يجوزُ التَّفريقُ.
وإنْ لم يصرِّحُوا بهِ: جازَ التَّفريقُ، لأنَّ قولَهُ في كلِّ مسألةٍ موافقٌ لمذهبِ طائفةٍ.
ودعوى المخالفةِ للإجماعِ ههنا جهلٌ بمعنى المخالفةِ، إذْ المخالفةُ: نفيُ ما أثبتُوهُ، وإثباتُ ما نفَوهُ، ولم يتَّفقْ أهلُ العصرِ على إثباتٍ أو نفيٍ في حكمٍ واحدٍ، ليكونَ القولُ بالنَّفي والإثباتِ مخالفًا، ولا يلتئمُ الحكمُ مِن المسلمينَ، بل نقولُ: لا يخلو الإنسانُ مِن خطأٍ ومعصيةٍ، والخطأُ موجودٌ مِن جميعِ الأمَّةِ، وليسَ محالًا، إنَّما المحالُ: الخطأُ بحيثُ يضيعُ الحقُّ حتَّى لا تقومَ بهِ طائفةٌ.
ولهذا: يجوزُ أنْ تنقسمَ الأمَّةُ في مسألتَينِ إلى فريقينِ، فتخطئُ فرقةٌ في مسألةٍ، وتصيبُ فيها الأخرى، وتخطئُ في المسألةِ الأخرى، وتصيبُ فيها المخطئةُ الأولى. واللهُ أعلمُ.
فصلٌ

– الشيخ: حسبُك، وكلُّ هذا الكلامِ -سبحان الله- قلتُ من قبل: كلُّه نظريٌّ، ولهذا ليسَ فيه تطبيقاتٌ -كما يقال- يعني قليلٌ أنا ما أذكرُ من مسائلِ التفريعِ هذه القول الثالث إلَّا في مسألةِ العمريَّتين وفرضوها، وقال بعضُهم: "يجوزُ إحداثُ قولٍ ثالثٍ ملفَّقٍ من الرأيَينِ"، واللهُ أعلمُ.
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :الفقه وأصوله