بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب "روضة النّاظر وجنّة المناظر" لابن قدامة
الدّرس: الثّالث والسّتون
*** *** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ شيخُ الإسلامِ موفَّقُ الدِّينِ ابنُ قدامةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "روضةِ النَّاظرِ":
فصلٌ
إذا قالَ بعضُ الصَّحابةِ قولًا، فانتشرَ في بقيَّةِ الصَّحابةِ، فسكتُوا: فإنْ لم يكنْ قولاً في تكليفٍ فليسَ بإجماعٍ.
– الشيخ : يعني شيءٌ، قولاً لا يتعلَّق بتكليفٍ، قد يكون في أمورٍ اعتقاديَّةٍ، قد يكون، أو في أمرٍ قاله بعضهم وانتشرَ لكن ما له تعلُّقٌ بوجوبٍ أو تحريمٍ، لعلَّ هذا مرادُه، لا يتعلَّقُ بتكليفِ الأحكام التَّكليفيَّةِ المعروفةِ الخمسةِ: وجوبٌ، واستحباب..
– القارئ : فإنْ لم يكنْ قولاً في تكليفٍ فليسَ بإجماعٍ.
وإنْ كانَ: فعن أحمدَ -رضيَ اللهُ عنهُ-
– الشيخ : يعني: وإنْ كان بتكليفٍ، يتعلَّقُ بتكليفٍ.
– القارئ : وإنْ كانَ: فعن أحمدَ -رضيَ اللهُ عنهُ- ما يدلُّ على أنَّهُ إجماعٌ، وبهِ قالَ أكثرُ الشَّافعيَّةِ.
– الشيخ : ولعلَّ هذا الَّذي يعبِّرونَ عنه بالإجماعِ السُّكوتيّ.
– القارئ : وقالَ بعضُهم: يكونُ حجَّةً، ولا يكونُ إجماعًا.
وقالَ جماعةٌ آخرونَ: لا يكونُ حجَّةً ولا إجماعًا، ولا يُنسَبُ إلى ساكتٍ قولٌ، إلَّا أنْ تدلَّ قرائنُ الأحوالِ على أنَّهم سكتُوا مضمرينَ للرِّضى، وتجويزِ الأخذِ بهِ.
وقد يسكتُ مِن غيرِ إضمارِ الرِّضى لسبعةِ أسبابٍ
– الشيخ : عجائب! …
– القارئ : وقد يسكتُ مِن غيرِ إضمارِ الرِّضى لسبعةِ أسبابٍ:
أحدُها: أنْ يكونَ لمانعٍ في باطنِهِ لا يطلعُ عليهِ.
الثَّاني: أنْ يعتقدَ أنْ كلَّ مجتهدٍ مُصيبٌ.
الثَّالثُ: ألَّا يرى الإنكارَ في المُجتهَداتِ، ويرى ذلكَ القولَ سائغًا لمَن أدَّاهُ اجتهادُهُ إليهِ، وإنْ لم يكنْ هوَ موافِقًا.
الرابعُ: ألَّا يرى البدارَ في الإنكارِ مصلحةً؛ لعارضٍ مِن العوارضِ ينتظرُ زوالَهُ، فيموتَ قبلَ زوالِهِ، أو يشتغلَ عنهُ.
الخامسُ: أنْ يعلمَ أنَّهُ لو أنكرَ: لم يُلتفَتْ إليهِ، ونالَهُ ذلٌّ وهوانٌ، كما قالَ ابنُ عبَّاسٍ حينَ سكتَ عن القولِ بالعولِ في زمنِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "كانَ رجلًا مهيباً فهِبْتُهُ".
السَّادسُ: أنْ يسكتَ؛ لأنَّهُ متوقِّفٌ في المسألةِ؛ لكونِهِ في مهلةِ النَّظرِ.
السَّابعُ: أنْ يسكتَ؛ لظنِّهِ أنَّ غيرَهُ قد كفاهُ الإنكارَ، وأغناهُ عن الإظهارِ؛ لأنَّهُ فرضُ كفايةٍ ويكونُ قد غلطَ فيهِ؛ وأخطأَ في وهمِهِ.
– الشيخ : لا إله إلَّا الله، والله كلُّها معقولةٌ، كلُّها هذه من أسبابِ السُّكوتِ من غيرِ رضىً، كلُّها معقولةٌ.
– القارئ : ولنا:
أنَّ حالَ السَّاكتِ لا يخلو مِن سبعةِ أقسامٍ:
– الشيخ : سبعةٌ بسبعةٍ
– طالب: عندًنا ستةٌ
– القارئ : ولنا:
أنَّ حالَ السَّاكتِ لا يخلو مِن سبعةِ أقسامٍ:
أحدُها: أنْ يكونَ لم ينظرْ في المسألةِ.
الثَّاني: أنْ ينظرَ فيها
– الشيخ : ها، لم ينظرْ في المسألة
– القارئ : أحدُها: أنْ يكونَ لم ينظرْ في المسألةِ.
الثَّاني: أنْ ينظرَ فيها فلا يتبيَّنُ لهُ الحكمُ.
وكلاهما خلافُ الظَّاهرِ؛ لأنَّ الدَّواعيَ متوفِّرةٌ، والأدلَّةَ ظاهرةٌ، وتركُ النَّظرِ خلافُ عادةِ العلماءِ عندَ النَّازلةِ، ثمَّ يفضي ذلكَ إلى خلوِّ العصرِ عن قائمٍ للهِ بحجَّتِهِ.
الثَّالثُ: أنْ يسكتَ تقيَّةً، فلابدَّ أنْ يُظهِرَ سَبَبَها، ثمَّ يُظهِرُ قولَهُ عندَ ثقاتِهِ وخاصَّتِهِ، فلا يلبثُ القولُ أنْ ينتشرَ.
الرَّابعُ: أنْ يكونَ سكوتُهُ لعارضٍ لم يظهرْ.
وهوَ خلافُ الظَّاهرِ، ثمَّ يفضي إلى خلوِّ العصرِ عن قائمٍ للهِ بحجَّتِهِ.
الخامسُ: أنْ يعتقدَ أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ. فليسَ ذلكَ قولًا لأحدٍ مِن الصَّحابةِ.
ولهذا: عابَ بعضُهم على بعضٍ، وأنكرَ بعضُهم على بعضٍ مسائلَ انتحلُوها.
ثمَّ العادةُ: أنَّ مَن ينتحلُ مذهبًا يناظرُ عليهِ، ويدعو إليهِ، كما نشاهدُ في زمنِنا.
السَّادسُ: ألَّا يرى الإنكارَ في المجتهداتِ.
وهوَ بعيدٌ لما ذكرْناهُ.
فثبتَ أنَّ سكوتَهُ كانَ لموافقتِهِ.
ومِن وجهٍ آخرَ: أنَّ التَّابعينَ كانُوا إذا أشكلَ عليهم مسألةٌ، فنُقِلَ إليهم قولُ صحابيٍّ منتشِرٌ وسكوتُ الباقين: كانُوا لا يجوِّزونَ العدولَ عنهُ، فهوَ إجماعٌ
منهم على كونِهِ حجَّةً.
ومِن وجهٍ آخرَ: أنَّهُ لو لم يكنْ هذا إجماعًا: لتعذَّرَ وجودُ الإجماعِ؛ إذ لم يُنقَلْ إلينا في مسألةٍ قولُ كلِّ علماءِ العصرِ مصرّحًا بهِ.
وقولُ مَن قالَ: "هوَ حجَّةٌ وليسَ بإجماعٍ" غيرُ صحيحٍ؛ فإنَّا إنْ قدَّرْنا رضى الباقينَ كانَ إجماعًا، وإلَّا فيكونُ قولُ بعضِ أهلِ العصرِ، واللهُ أعلمُ.
مسألةٌ: يجوزُ أنْ ينعقدَ الإجماعُ عن اجتهادٍ وقياسٍ، ويكونُ حجَّةً.
وقالَ قومٌ: لا يُتصوَّرُ ذلكَ؛ إذْ كيفَ يُتصوَّرُ اتِّفاقُ الأمَّةِ معَ اختلافِ طبائعِها، وتفاوتِ أفهامِها على مظنونٍ؟
أم كيفَ تجتمعُ على قياسٍ، معَ اختلافِهم في القياسِ؟
وقالَ آخرونَ: هوَ مُتصوَّرٌ، وليسَ بحجَّةٍ؛ لأنَّ القولَ بالاجتهادِ يفتحُ بابَ الاجتهادِ
– الشيخ : كونُه متصوَّراً فهذا كونُه واقعاً، ليسَ كلُّ متصوَّرٍ يكونُ واقعاً.
– القارئ : لأنَّ القولَ بالاجتهادِ يفتحُ بابَ الاجتهادِ ولا يجبُ.
ولنا: أنَّ هذا إنَّما يُستنكَرُ فيما يتساوى فيهِ الاحتمالُ.
أمَّا الظَّنُّ الأغلبُ فيميلُ إليهِ كلُّ واحدٍ، فأيُّ بُعْدٍ في أنْ يتَّفقُوا على أنَّ النَّبيذَ في معنى الخمرِ في التَّحريمِ؛ لكونِهِ في معناهُ في الإسكارِ؟
وأكثرُ الإجماعاتِ مستنِدةٌ إلى عموماتٍ، وظواهرَ، وأخبارِ آحادٍ، معَ تطرُّقِ الاحتمالِ.
وإذا جازَ اتِّفاقُ أكثرِ الأممِ على باطلٍ -معَ أنَّهُ ليسَ لهم دليلٌ قطعيٌّ ولا ظنِّيٌّ- لِمَ لا يجوزُ الاتِّفاقُ على دليلٍ ظاهرٍ، وظنٍّ غالبٍ؟!
وأمَّا منعُ تصوُّرِهِ بناءً على الخلافِ في القياسِ: فإنَّا نفرضُ ذلكَ في الصَّحابةِ، وهم متَّفقونَ عليهِ، والخلافُ حدثَ بعدَهم.
وإنْ فُرِضَ ذلكَ بعدَ حدوثِ الخلافِ فيستندُ أهلُ القياسِ إليهِ، والآخرونَ إلى اجتهادٍ فيه يظنّونَهُ ليسَ بقياسٍ وهوَ في الحقيقةِ قياسٌ، فإنَّهُ قد يظنُّ غيرَ القياسِ قياسًا وكذلكَ العكسُ.
وإذا ثبتَ تصوُّرُهُ: فيكونُ حجَّةً لما سبقَ مِن الأدلَّةِ على الإجماعِ.
فصلٌ: الإجماعُ ينقسمُ إلى مقطوعٍ ومظنونٍ
– الشيخ : إلى آخرِه. اللهُ المستعانُ.
– القارئ : الإجماعُ السكوتيُّ هذا -أحسن الله إليكم- حجَّةٌ؟
– الشيخ : أمَّا دعوى أنَّه إجماعٌ هذا ليسَ بظاهرٍ، بل مثل ما ذُكِرَ السُّكوت له عللٌ كثيرةٌ، له أسبابٌ، لكن ما دام.. يعني نرجعُ إلى قولِ الصَّحابيِّ ما دام أنَّه قال قولاً ولم يُعرَفْ له مخالفٌ نرجعُ إلى أنَّه قولُ صحابيٍّ، وقولُ الصَّحابيِّ على ما هو الرَّاجح أنَّه حجَّةٌ إذا لك يخالفُه دليلٌ أقوى منه أو أصحّ منه من كتابٍ وسنَّةٍ، لكن دعوى أنَّه يكون إجماعاً هذا ليسَ بظاهرٍ.
– طالب: هو حجَّةٌ ليس بإجماعٍ؟
– الشيخ : لعلَّه كذا.