شرح نونيّة ابن القيم – المسمّاة: (الكافية الشّافية)
الدّرس الرّابع
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، قالَ الإمامُ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تتمّة كلامه على مقدّمة (الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة النّاجية):
فصلٌ:
وهذه أمثالٌ حسانٌ مضروبةٌ للمعطِّلِ والمشبِّهِ والموحِّد..
– الشيخ: يضرب في هذا الفصل أمثال، والأمثال هي مِن طرق البيان للمعاني والحقائق، تُقرّبُ الأمور المعنويّة المعقولة، لأنّها تتضمّن تشبيه المعقول الذي لا يُشاهَد بالمحسوس، فيأخذُ العقلُ مِن هذه الأمثال صفات مِن المشبَّه تكون للمشبَّه به، والله تعالى قد ضربَ في كتابه الأمثالَ وامتن بذلك ونوّه بهذا:
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43]
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}[الروم:28]
{ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}[النحل:75]
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ}[النحل:76]، وهكذا.
– القارئ: وهذه أمثالٌ حسانٌ، مضروبةٌ للمعطِّل والمشبِّه والموحِّد، ذكرتها قبل الشّروع في المقصود، فإنّ ضربَ الأمثال ممّا يأنسُ به العقل لتقريبها المعقول مِن المشهود..
– الشيخ: المشهود هو المحسوس.
– القارئ: وقد قالَ الله تعالى -وكلامهُ المشتملُ على أعظم الحجج وقواطع البراهين-: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43]
– الشيخ: مِن شواهد ذلك: أنّ الله تعالى ضربَ للقرآن والوحي النّازل مثلاً بالماء النّازل الغيث: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثَالَ}[الرعد:17] الأمثال تتضمّن التّشبيه، وتتضمّن إثبات -كما قلنا- وصفَ المعقول بالصّفات والمعاني القائمة بالأمور المُشاهَدة.
– القارئ: وقد اشتملَ منها على بضعةٍ وأربعين مثلاً..
– الشيخ: القرآن، يعني أكثر مِن أربعين مثلاً في القرآن.
– القارئ: وكانَ بعضُ السّلف إذا قرأ مثلاً لم يفهمه يشتدّ بكاؤه، ويقولُ: لستُ مِن العالمين. وسنفردُ لها إن شاء اللهُ كتابًا مستقلاً، متضمّنًا لأسرارها ومعانيها، وما تضمّنته مِن فنون العلم وحقائق الإيمان، وبالله المستعان وعليه التّكلان..
– الشيخ: هذا وعدٌ مِن المؤلِّف بأنّه سيؤلّف في شرح أمثال القرآن كتابًا؛ يوضّح فيه معانيها ومراميها ودلالاتها، ولعلّه فعل، لكن لا أذكر أنّ هذا الكتاب موجودٌ أو مطبوعٌ، لكنّه شرح بعض هذه الأمثال في بعض مؤلفاته خصوصًا: "إعلام الموقّعين"، فإنّه ذكر جملةً مِن أمثال القرآن وتكلّم عليها.
وكذلك في "الجيوش الإسلاميّة" تكلّم على بعض تلك الأمثال، مثل الأمثال التي وردت في سورة "النور" وفي سورة "البقرة".
– القارئ: المثلُ الأوّل: ثيابُ المعطّل ملطّخةٌ بعذرة التّحريف، وشرابُهُ متغيّرٌ بنجاسة التّعطيل، وثيابُ المشبّه مضمّخةٌ بدم التّشبيه، وشرابُهُ متغيّرٌ بفرثِ التّمثيل، والموحِّدُ طاهرُ الثّوب، والقلب، والبدن، يخرجُ شرابهُ مِن بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشّاربين..
– الشيخ: هذا المثل واضح، هذا المثل تضمّن تشبيه التّعطيل والتّمثيل بالأقذار والنّجاسات، هذا مجمله، هذا شبّهه بالعذرة، وهذا شبّهه بالدّم، و"العذرةُ" أخبثُ وأنجسُ مِن الدّم، فلهذا ميّز بين المشبِّه والمعطِّل.
أمّا الموحّدُ: فهو طاهرٌ قلبًا ولسانًا وبدنًا، وشرابُهُ صافٍ خالصٌ، مشبَّهٌ باللبن، اللبنُ الذي يخرج بين فرث ودمٍ، فهو مذهبٌ صافٍ خالصٌ مِن شوب الأقذار والنّجاسات، فشرابهُ لبنٌ خالصٌ صافٍ، يخرجُ مِن بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
ولاشكّ أنّ هذا تعبيرٌ وتصوير محقَّقٌ، فالإيمانُ والتّوحيد طُهرٌ، ونزاهةٌ وبراءةٌ، والاعتقادات الباطلة فيها الخبث، الله وصف المشركين بالنّجاسة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[التوبة:28]
فالشركُ والكفرُ والتّعطيلُ: اعتقاداتٌ خبيثةٌ قذرةٌ عفنةٌ، والخُبْث المعنويّ أسوأُ مِن الخُبْث الحسّيّ؛ لأنّ هذا أثرهُ على الظّاهر، وخُبْث الاعتقادات والأعمال على الباطن، على قلب الإنسان وروحه، والثّياب توصَف بالطّهارة أو بالنّجاسة، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]، طهّر أعمالك، فالأعمال كالثّياب، منها الطّاهر النّقي النّظيف، ومنها ما هو مُلطّخ بالقذر.
– القارئ: المثلُ الثّاني: شجرةُ المعطّل مغروسةٌ على شفا جرفٍ هار، وشجرةُ المشبِّه قد اجتُثتْ مِن فوقِ الأرض ما لها مِن قرار، وشجرةُ الموحِّد أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السّماء، تُؤتي أُكلها كلّ حينٍ بإذن ربّها، ويضربُ الله الأمثال للنّاس لعلّهم يتذكّرون..
– الشيخ: هذا المثل الثّاني كذلك، شجرةُ المعطّل مغروسةٌ على شفا جرفٍ هار: يعني على وشك السّقوط، وشجرةُ المشبّه قد مُجتثّة مِن الأرض ما لها مِن قرار: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}[إبراهيم:26]
فيُعلم بهذا أنّ مذهب كلّ مِن المشبّه والمعطّل: مذهبٌ ليس هو فيه على يقين وعلى بصيرة، وعلى ثبات، لا.
أمّا الموحّد: فمذهبهُ مثلُ هذه الشّجرة، أغراسُها في أصلها، السّامقة في فرعها، وهذا المذهب ذكره الله لكلمة التّوحيد، فكأنّ هذا المثل الذي ذكره "ابن القيم" مقتبَسٌ مِما ضربه الله لكلمة التّوحيد وكلمة الشرك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء}[إبراهيم:24]، هذا مثلُ كلمة التوحيد.
وكلمة الشرك: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}[إبراهيم:26]، فهذا يمثّل الثّبات والنّفع والسّمو، ثباتٌ، ورسوخٌ، وسموّ، ونفعٌ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم:25].
أمّا شجرةُ التّعطيل، وشجرةُ الشّرك، وشجرةُ التّشبيه: فهي فاقدةٌ لهذا كلّه، فلا ثباتَ ولا سموّ ولا نفعَ، ليس لها ثمرة إلا الثّمرُ المرّ، الذي لا لذّةَ فيه ولا غذاء، فهذا المثل مُقتبَسٌ مِن ذلك المثل الذي ذكره الله.
هذه الشّجرة التي لها هذه الصّفة -أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السّماء- هي النّخلة، فهي التي فيها هذا الثّبات والرّسوخ، تأمّل هذه النخلة مع ما تحملهُ مِن الثّمر الكثير، تحرّكها الرّيح: وهي راسخة, وهي تحمل هذه الثمار، تأمّلوها عندما تهب الرّيحُ وعليها الثّمر الكثير، سبحان الله.
وكما مثَّل الله كلمة التّوحيد بتلك الشجرة التي تصدقُ على النخلة: مثّلَ النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المؤمنَ أيضًا بالنّخلة في ثباتهِ وكثرة خيره ومنافعه.
– القارئ: المثلُ الثّالث: شجرةُ المعطّل شجرة الزّقوم، فالحلوقُ السّليمة لا تبلعها، وشجرةُ المشبّه شجرةُ الحنظل، فالنّفوسُ المستقيمةُ لا تتبعها، وشجرةُ الموحِّد طوبى يسيرُ الرّاكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها..
– الشيخ: هذه قريب مِن الذي قبله، لكن يتضمّن هذا تشبيه شجرة المعطِّل بشجرة الزّقوم، التي هي طعام أهل النار، أعوذ بالله، أخبث طعام: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}[الصافات:65] يقول الله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا*وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}[المزمل:12-13] طعامٌ لا تستسيغه حلوقهم؛ مِن خبثه وعظيم شرّه وألمه.
وشجرةُ المشبِّه بالحنظلة، والحنظلة معروفة الآن، شجرٌ مرٌّ أشدَّ المرارة، وشجرةُ الموحِّد هي مثل "طوبى"، وهي شجرةٌ في الجنّة، فمثّل شجرة المعطِّل بشجرة الزقوم -شجرة أهل النار-، وشجرة المشبِّه بالحنظلة، وشجرة الموحِّد شبهها بطوبى، الشجرة العظيمة، التي جاء في وصفها أنّ ظلّها لا يقطعه الراكب، يسير مائة عام.
– القارئ: المثلُ الثّالث: شجرةُ المعطّل شجرة الزّقوم، فالحلوقُ السّليمة لا تبلعها، وشجرةُ المشبّه شجرةُ الحنظل، فالنّفوسُ المستقيمةُ لا تتبعها، وشجرةُ الموحِّد طوبى يسيرُ الرّاكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها.
المثلُ الرّابع: المعطّلُ قد أعدّ قلبَه لوقاية الحرّ والبرد، كبيت العنكبوت..
– الشيخ: كأنها: أعدّ لقلبه لوقايةِ الحرّ والبرد كبيت العنكبوت، أو بيت العنكبوت: يعني أن مذهبهُ لا يغني عنه شيئًا، ولا يقيه شرّاً، بل هو بيتٌ واهٍ ضعيفٌ، لا يُنتفع به، فقلبهُ ليس في مأمنٍ، ولا في مكانٍ مريح، فلا أمن ولا راحة.
– القارئ: والمشبِّه قد خُسِفَ بعقله، فهو يتجلجلُ في أرض التّشبيه إلى البَهموت..
– الشيخ: قالوا "البهموت" إنّه أسفل الأرض، يعني أنه في غاية مِن السّقوط السّفول والانحطاط، أبعد ما يكون مِن السّمو، فقلبُ المشبِّه والمعطِّل كلٌّ منهما في هلاكٍ وضياعٍ وخسران.
– القارئ: وقلبُ الموحَّد يطوفُ حولَ العرشِ، ناظرًا إلى الحيّ الذي لا يموت..
– الشيخ: المؤمنُ أفكارهُ سامية، يفكّر في معالي الأمور، ويطلبُ معالي الأمور، ويتذكّر ربَّه، ويفكِّر في شأن ربّه، وفي علوّه، وفي كماله، وفي إلهيته وربوبيته، أحيانًا يقول بعضهم: "إن قلب العبد المؤمن الموحّد يطوف حول العرش، وقلب الكافر والمتّبع لهواه يطوفُ حول الحُش", كذا يعبّر بعضُهم، هذا قلبه في صعود وفي سمو وفي المطالب العالية، وهذا في سفول حول الخبائث.
– القارئ: المثلُ الخامس: مصباحُ المعطِّل قد عصفتْ عليه أهويةُ التّعطيل: فطُفئ وما أنار، ومصباحُ المشبِّه قد غرقتْ فتيلته في عكر التّشبيه: فلا تُقتبس منهُ الأنوار، ومصباحُ الموحِّد: يوقدُ مِن شجرةٍ مباركةٍ، زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّة، يكادُ زيتُها يضيء، ولو لم تمسسهُ نار..
– الشيخ: أيضًا مما تُضرب به الأمثال: النّور، فالنّور مطلبٌ في هذه الحياة وفي الآخرة، ولهذا يذكر الله النور: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}[الحديد:12]
فالناسُ في هذه الدنيا منهم مَن هو في نور وهدى، يمشي به في الناس، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}[الحديد:28]، وفي الآية الأخرى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}[الأنعام:122].
والآخر في ظُلمة، فالمؤمنُ في نورِ في الدّنيا والآخرة، ولهذا ضربَ ابنُ القيّم للمشبِّه والمعطِّل والموحِّد، ضرب لهم ذلك المثل، فالمشبِّه والمعطِّلُ: كلٌّ منهما في ظلمةٍ، مصباحهُ لا ينفعه، هذا قد انطفأ مصباحهُ، وهذا قد غرقتْ فتيلتُه في الزّيت، فلا يُقتبس منها نورٌ ولا نار، أمّا الموحّد: فمصباحُهُ يُوقَدُ مِن شجرة مباركة, كالمصباح الذي ذكره الله في كتابه.
فهذا المثل -أيضًا- مقتبسٌ مِن أمثال القرآن، الله مثَّل حالَ المؤمن والكافر في هذه الدنيا، فالمؤمنُ هو في نور، عمله فيه نور، واعتقاده نور، ولهذا مِن دعاء النّبي -عليه الصّلاة والسّلام: (اللهمّ اجعلْ في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعلْ في بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، ومِن فوقي نورًا، ومِن تحتي نورًا، اللهم أعطني نورًا).
فمِن النّاس مَن يكون كذلك في جميع أحواله، وفي جميع شؤونه هو في نورٍ وعلى هدى وعلى بصيرة، ومنهم مَن هو بخلاف ذلك، في ظلمةٍ في جميع تصرفاته؛ أقواله وأفعاله كلّها لا خير فيها ولا هدى.
– القارئ: المثلُ الخامس: مصباحُ المعطِّل قد عصفتْ عليه أهويةُ التّعطيل: فطُفئ وما أنار، ومصباحُ المشبِّه قد غرقتْ فتيلته في عكر التّشبيه: فلا تُقتبس منهُ الأنوار، ومصباحُ الموحّد يوقدُ مِن شجرةٍ مباركةٍ، زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّة، يكادُ زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار..
– الشيخ: الله تعالى ضرب هذا المثل لنور الإيمان في قلب المؤمن، {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ}[النور:35] فهذا المثلُ الذي ذكره ابنُ القيم مُقتبسٌ مِن الآيات، مِن سورة "النور" مِن ذلك المثل وغيرها مِن الآيات التي مثّلَ الله فيها الإيمان والكفر والشّرك والتّوحيد: بالظّلمة والنّور: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة:257]
– القارئ: المثلُ السّادس: قلبُ المعطِّلِ متعلِّقٌ بالعدم، فهو أحقرُ الحقير، وقلبُ المشبِّه عابدٌ للصّنم الذي قد نُحِتَ بالتّصوير والتّقدير، والموحّدُ قلبهُ متعبدٌ لمِن ليس كمثله شيءٌ وهو السّميع البصير..
الشخ: هذا مأخوذٌ مِن قولِ بعض السّلف: إنّ المعطِّلَ يعبدُ عدمًا -تقدّم- والمشبّه يعبدُ صنمًا، وأمّا الموحّدُ فهو يعبدُ إلهًا أحدًا صمدًا، يعبدُ الأحد الصّمد، فهذا المثل مرتّب ومركّب على معنى هذه المقولة.
– القارئ: المثلُ السّابع: نقودُ المعطِّلِ كلُّها زيوفٌ: فلا تروجُ علينا، وبضاعةُ المشبّه كاسدةٌ: فلا تنفقُ لدينا، وتجارةُ الموحِّد: يُنادى عليها يومَ العرضِ على رؤوس الأشهاد: هذه بضاعتنا ردّت إلينا.. – الشيخ:
كذلك أمرُ تشبيه الأعمال والأحوال بمسائل البيع والشراء والتّجارة، هذا كثير في النصوص:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ}[البقرة:16]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}[الصف:10-11] الآيات.
وذكر البيع: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}[النساء:74]
والآيات في هذا المعنى متعدّدة، تشبيهُ أحوال وأعمال القلوب والأعمال الظّاهرة بالتّجارة والبيع والشّراء، وفي الحديث: (كلُّكم يغدو، فبائعٌ نفسَهُ: فمعتقُها أو موبقُها)، وهكذا، فهذا نقوده زيوف، ليست صحيحة، مزيفة لا تنفع، لا تروجُ على النّقاد وأصحاب الخبرة في التجارة، وهذا بضاعته خاسرة رديئة، لا تروجُ عند التجار.
– القارئ: المثلُ الثّامن: المعطّلُ كنافخِ الكير، إمّا أن يحرقَ ثيابكَ، وإمّا أن تجدَ منه ريحًا خبيثة، والمشبّهُ كبائع الخمر، إمّا أن يسكركَ وإمّا أن ينجسكَ، والموحّدُ كبائع المسك، إمّا أن يحذيك وإمّا أن يبيعكَ، وإمّا أن تجدَ منه رائحةً طيبةً..
– الشيخ: وهذا المثل مُقتبسٌ مِن المثل الذي ذكره الرسول –صلّى الله عليه وسلّم- للجليس الصّالح والجليس السّوء، فهذا المثل الذي ذكره ابنُ القيم مقتبسٌ.
فالمعطّل كنافخ الكير: الذي مصيره إمّا إلى الإحراق وإمّا إلى الرائحة الخبيثة، والمشبهُ كبائع الخمر: أضاف هذا المعنى، وبائع الخمر -مِن وجه- أحسن حالاً مِن نافخ الكير، وهذا يوضّح ما تقدّم مِن أنّ المعطّل أضلّ وأخبثُ وأبعد عن الهدى، ولهذا في التّعبير السّابق: إنّ المعطل يعبدُ عدمًا، والمشبّه يعبدُ صنمًا، هذا يصوّر لنا أنّ المشبّه -وإن كان ضالاً وكافرًا- فإنّه أحسن حالاً مِن المعطّل، فالمعطّل يعبدُ عدمًا، وهذا يعبد صنمًا، والذي يعبدُ الصّنم أحسنُ في العقل ممن يعبدُ العدم، هكذا أيضًا هذا المثل فيه تطبيق هذا المعنى.
والموحّدُ يُمثَّلُ بحامل المسك -كما جاء الحديث- إمّا أن تبتاعَ منه، أو أن يهدي إليك، أو على الأقل تجد منه رائحة طيبة، لا يضرّك، بل تنتفع بما يحصل لك مِن الرائحة الطيبة.
– القارئ: المثلُ الثّامن: المعطّلُ كنافخِ الكير، إمّا أن يحرقَ ثيابكَ، وإمّا أن تجدَ منه ريحًا خبيثة، والمشبّهُ كبائع الخمر، إمّا أن يسكركَ وإمّا أن ينجّسكَ، والموحّدُ كبائع المسك، إمّا أن يحذيك وإمّا أن يبيعكَ، وإمّا أن تجدَ منه رائحةً طيبةً.
المثلُ التّاسع: المعطّل قد تخلّف عن سفينة النّجاة، ولم يركبها: فأدركه الطّوفان، والمشبِّه قد انكسرت به في اللجة: فهو يشاهد الغَرَقَ بالعيان، والموحّدُ: قد ركبَ سفينة نوحٍ، وقد صاح به الرّبان: اركبوا فيها بسمِ الله مجريها ومرساها إنّ ربّي لغفور رحيم..
– الشيخ: وهذا المثل أيضًا مصوّرٌ لحال المعطّل والمشبّه، فالأوّل: لم يركب شيئًا، أبعد ما يكون عن النجاة، أمّا ذاك: ركب، لكنّه انكسرت به السّفينة، هذا عنده طرف مِن سبب النّجاة، وإن كان مصيرهُ إلى الهلاك، لكن الأوّل لم يركب أصلاً، وهذا كلّه يصوّر ما تقدّم: مِن أنّ المعطّلَ أبعد عن هدى الله وأضلّ وأكفر، والمشبّه دونه.
وأمّا الموحّدُ: فهو النّاجي النّاجح الرّابح بكلّ الاعتبارات، فالموحّدُ مثله مثلُ الرّاكب في سفينة نوح يوم الطوفان، لم ينجُ مِن طوفان نوح إلّا مَن ركب السّفينة، {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[هود:41]، فلا طمع في النّجاة إلا لِمَن ركب هذه السّفينة.
فمصيرُ المعطِّل والمشبّه مصيرهُ الهلاك، إمّا مِن أوّل وهلة -وهذا ينطبق على المعطّل-، وإمّا بعد محاولة النّجاة بركوب سفينة، لكن انتهت بالخرقِ والانكسار.
– القارئ: المثلُ العاشر: منهلُ المعطّل كسرابٍ بِقيعةٍ، يحسبهُ الظمآنُ ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فرجع خاسئًا حسيرًا، ومشربُ المشبّهِ مِن ماءٍ قد تغيّر طعمهُ ولونهُ وريحهُ بالنّجاسة تغييرًا، ومشربُ الموحّد مِن كأسٍ كانَ مزاجُها كافورًا، عينًا يشربُ بها عبّاد الله يفجرونها تفجيرًا)
– الشيخ: وهذا المثل -أيضًا- يصوّر نفس المعنى المتقدم، لكنّه مثل اعتقادات الثّلاثة بالشّراب والسّراب:
- اعتقاد المعطّل: شرابه مثل السّراب الذي ليس فيه شيء، ولا يجد الظمآنُ منه شيئاً، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، إذًا: هذا عدم، لا شراب عنده ولا ماء.
- أمّا المشبّه: فعنده ماء، لكنّه ملوّث بالنّجاسة، قد تغيّر طعمهُ ولونهُ وريحهُ بالقذر والنّجاسات.
إذًا نفس المعنى يتكرر في هذه الأمثال، يعني ترتيب هذه المذاهب، وأنّ أخبثها: مذهبُ التّعطيل، وأهونُ منهُ وأخفُّ منه: مذهبُ التّشبيه، والثّالث مذهبُ المؤمن الموحّد: الكامل، الطّاهر، النّقي، الصّافي، المشرق المستنير، كلّ معاني الفضل والكمال مُتحقّقة، معاني السّمو والارتفاع والثبات والرّسوخ والإشراق والنّفع والطّهر، كلّها.
أمّا مذهب التّعطيل: فلا ثباتَ ولا طُهرَ، ولا نقاء، ولا شراب، ولا رِيّ، ولا نظافة، فهذا شرابُه كسرابٍ بقيعة، وهذا شرابُه كماءٍ تغيّر طعمُه، وهذا شرابُه مثلُ ما ذكر الله -سبحانه وتعالى-: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}[المطففين:28]
وفي آية أخرى: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}[الإنسان:5-6] في سورة "الإنسان" وفي سورة "المطففين"، أعد المثل .
– القارئ: المثلُ العاشر: منهلُ المعطّل كسرابٍ بِقيعةٍ، يحسبهُ الظمآنُ ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فرجع خاسئًا حسيرًا، ومشربُ المشبّهِ مِن ماءٍ قد تغيّر طعمهُ ولونهُ وريحهُ بالنّجاسة تغييرًا، ومشربُ الموحّد مِن كأسٍ كانَ مزاجُها كافورًا..
– الشيخ: كلّ هذا على سبيل التشبيه، يعني مشربهُ مثل الشّراب الذي وعد الله به عباده الأبرار: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾
وهذا تشبيه حقّ، فمذهبُهُ -مذهبُ المؤمن الموحّد- مذهبٌ نقيٌّ، طاهرٌ، فيه الرّيّ، وفيه اللذةُ، وفيه الغذاءُ وفيه الطّيبُ، كما في الآيات أخرى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}[المطففين:26-28] .
– القارئ: وقد سمّيتها بـ "الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة الناجية"، وهذا حين الشّروع في المحاكمة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العلي العظيم..
– الشيخ: رحمه الله، وجزاه الله خيرًا على هذا الجهد العظيم النّافع، يقول: سمّيتها "الكافية الشافية"، فهي بما تضمّنته مِن الحجج لمذهب أهل السنّة والجماعة، وبما تضمّنته مِن الردّ لمذاهب المبتدعين، مِن المشبّه وأهل التعطيل، في الحقيقة فيما ذكره خيرٌ كثيرٌ، مَن أحاط به وحقّقه: وجدَ فيه الكفاية، ووجد فيه ما يشفي ما في صدره مِن معرفة الحقّ ونصره وتأييده، وبغض الباطل ودحره ورده، فهو اسم -في الحقيقة- مطابقٌ لمسمّاه.