شرح نونيّة ابن القيم – المسمّاة: (الكافية الشّافية)
الدّرس الخامس
*** *** *** ***
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام ابنُ القيّم -رحمه اللهُ تعالى-:
وقد سمّيتها بـ"الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة الناجية"، وهذا حين الشّروع في المحاكمة، واللهُ المستعان وعليهِ التّكلان..
– الشيخ: أوان الشّروع في المحاكمة، ولكن قبل ذلك: هذه الافتتاحيّة البديعة التي يناسب ذكرها بين يدي الشّعر، بين يدي القصيد على طريقة الشّعراء في تصدير القصائد بالغزل.
(وهذا حين الشّروع في المحاكمة)، في المحاكمة وهي المقصودة، المحاكمة سيأتي ذكرها نصّاً وصريحًا وبتفصيلٍ.
– القارئ: واللهُ المستعانُ وعليه التّكلانُ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العليّ العظيم
قال رحمه الله تعالى:
حُكــمُ المحبَّـةِ ثابـتُ الأركـانِ ما للصُّـدودِ بفَســخِ ذاكَ يَــدانِ
– الشيخ: (يدان): يعني القدرة والقوة، ما لي بهذا الأمر يدان، يعني ما لي به قوة، وليس لي عليه قدرة، هذا أسلوب عربي مشهور، وهي دائمًا تلزم الألف.
(ما للصدود بفسخ ذاك يدان) يعني محبّة، تقرأ الأبيات ثم نعودُ إليها.
أنّى وَقاضي الحُسنِ نفّذَ حُكمَها فَــلِذا أقـرَّ بذلِـكَ الخصمـــــانِ
وأتتْ شُهودُ الـوصلِ تشهدُ أنّه حقًّا جرى في مجلسِ الإحسانِ
فتأكَّدَ الـحكمُ الـعزيزُ فـلمُ تَـجِدْ فَسخُ الوشاةِ إليه مِن سُلطـانِ
ولأجلِ ذا حُكْمُ العَذولِ تداعتِ الـ أركــانُ منهُ فَخــرّ للأذقـــــانِ
وأتى الوشاةُ فصَادَفُوا الحُكمََ الذي حَكمــوا به مُتيقّنَ البُطـــلـانِ
ما صَادفَ الحُكمُ المحَلَّ ولا هو اسـ توفى الشّروطَ فصارَ ذا بُطلانِ
فلذاكَ قاضي الحُسنِ أثبتَ مَحضرًا بفسادِ حُكمِ الهَجرِ والسُّلـوانِ
وحَكَـى لكَ الحكمَ المحالَ ونقضَهُ فاسمـع إذًا يا مَـن لهُ أُذُنـانِ
حُكـــمُ الوشـاةِ بغيـر مَـا بُرهـانِ إنّ المحبّة والصّـدودَ لِــــدَانِ
– الشيخ: (لِدَان): يعني مثلان متساويان، ولِدَة الإنسان: تِرْبُهُ الذي هو مثله في السّن، يقال: هذا لِدَةُ فلان. والوشاة: المفسدون، يزعمون أنّ الصّدود والمحبة سواء، فلهذا يعملون على إفساد وفسخ المحبّة وإحلال الهجر والصدود محلها.
واللهِ مــا هذا بحُكــمٍ مُقســــطٍ أيـنَ الغـرامُ وصـدُّ ذِي هِجــرَانِ
هذا حكم ظاهر الفساد، الغرام والحب والهجران سواء!؟ هما ضدان، والضدان لا يجتمعان.
شـتّانَ بيـن الحـالتين فإنْ تُرِدْ جَمعًا فمــا الضِّدَّانِ يجتمعــــانِ
يا وَالِهًا هـانتْ عليـهِ نفسُــــهُ إذ بـاعَهَا غَبنًا بِكُــلِّ هَــــــوانِ
أتبيــعُ مَن تَهواهُ نفسَـكَ طائعًا بالصّــدِّ والتّعذيبِ والهجـــرانِ
هذا تصوير للعاشق الذي يتعلّق بمحبوبه، الذي هو معرضٌ عنه، وهاجرٌ له، ولا يجودُ له بشيء، فهو متعلّق به، ومحبوبُه شاردٌ عنه معرضٌ عنه، وهو مهلكٌ نفسه في اتّباعه، إذًا: قد أذلّ نفسه ذلاً عظيمًا.
يا والهًا هانتْ عليه نفسُهُ إذ باعها غبنًا بكلّ هوانِ
هذا تصويرٌ لحالة أكثر الخلق، المؤثِرين للدنيا، المؤثِرين للذاتها وشهواتها، الذين تعلّقت قلوبُهم بها، سبحان الله، فيبذلُ نفسه، جهده، وطاقاته، وأوقاته، كلّها لهذه المطالب الذّاهبة الفانية المنقَّصة، هذه حالة أكثر الخلق، مثلهم كمثلِ هذا العاشق، لا إله إلا الله، يقصدُ: كلّ المعرضين عن هدى الله، مِن أهل البدع وغيرهم، المتّبعين لأهوائهم وشهواتهم، نسأل الله العافية.
فيبيعُ هذا الضّالّ الجاهل المفتون يبيعُ نفسَهُ بما يبذله مِن جهد، وتحمّل، ما يتحمله مِن مشاق، هذا أمرٌ يعرفه مَن يتدبّر واقع أكثر الناس.
يا والهًا هانتْ عليه نفسُهُ إذ باعها غبنًا بكلّ هوانِ
لا إله إلا الله، كلّ مَن آثر شيئًا مِن الدنيا فلهُ نصيبٌ مِن هذا الغبن، كلّ مَن آثر شيئًا مِن الدنيا، والخلق في هذا متفاوتون، كلّ مَن آثر شيئًا مِن حظوظ الدنيا وشهوتها فلهُ نصيبٌ مِن هذا الغَبن ومِن هذا الهوان، يا سلام سلّم.
أتبيــعُ مَن تهواه نَفْسَكَ طائعًا بالصّدّ والتّعذيبِ والهجــــرانِ
الثّمن: الصدّ والهجران. (كلّكم يغدو، فبائعٌ نفسَهُ فمعتقها أو مُوبقها)، فهذا المغبون قد أوبقَ نفسَهُ.
أجهلتَ أوصافَ المبيعِ وقدرَهُ أم كنـتَ ذا جـهلٍ بذي الأثمــانِ
واهًا لقلبٍ لا يفارقُ طيرهُ الأغـ صـانَ قائمـةً علـى الكُثبــــــانِ
قلبهُ متعلّق بمَن يهوى، لا ينقطعُ حنينُه وبكاؤه، وهو معذّبٌ به؛ تعلمون أن هذا كلّه مِن التّشبيهات والتّصويرات الجميلة لهذه الأحوال.
ويظـلُّ يَسجعُ فوقها ولغيـرهِ منهـا الثّمـارُ وكلُّ قِطْـــفٍ دانِ
يأتي على الغصن، وليس له مِن ثمره شيء.
ويبيتُ يبكي والمواصلُ ضاحِكٌ ويظلُّ يشكو وهو ذو هجرانِ
هذا ولــو أنّ الجَمــالَ مــعلّـقٌ بالنّجـمِ هَـمَّ إليــه بالطيــرانِ
مِن فرطِ افتتانه بهذا الجمال، مع الصدّ والهجران: لو كان هذا الجمال معلّق بالنّجم: همّ إليه مِن فرط تعلقه به.
للهِ زائـرةٌ بليـــلٍ لـم تَـخَـفْ عَسَسَ الأميرِ ومرصدَ السّجانِ
انتقل إلى خيال آخر، إذا تخيّل آخر.
(لله): هذا أسلوب تعجّب ومدح، على حدّ قولهم : لله درّه، لله فلان، هذا أسلوب تعجب وتعظيم.
للهِ زائـرةٌ بليــــلٍ لــم تَـخَـفْ عَسَسَ الأميرِ ومرصدَ السّجانِ
قطـعتْ بلادَ الشّامِ ثـم تيممـتْ مِن أرضِ طيبةَ مطلع الإيمـانِ
وأتتْ على وادي العقيقِ فجاوزتْ ميقاتَــهُ حِـلًّا بـــلا نُــــــكرانِ
(حلاًّ): يعني ما أحرمت، لأنّه ما هو مقصودها، مقصودها: محبوبُها، كأن هذا هو المراد، ما جاءت لعمرة.
وأتتْ على وادي العَقيقِ فجاوزتْ ميقاتَــهُ حِـلًّا بــلا نُكــــرانِ
وأتتْ على وادي الأراكِ ولم يكـنْ قَصْـدًا لهـا فَأْلًا بأنْ ستراني
(فَأْلًا) متفائلة بأن ستراه، هي زائرة له، قاصدة له.
وأتتْ علـى عرفاتِ ثم مُحَسِّـرٍ ومِنًى فكْـم نحرتهُ مِن قــربانِ
وأتتْ على الجمراتِ ثم تيمّمتْ ذاتَ السّتـورِ وربَّة الأركـــانِ
هذا وما طافتْ ولا استلمتْ ولا رمتِ الجمارَ ولا سـعتْ لِقِرَانِ
ورقتْ على أعلى الصّفا فتيمَّمتْ دارًا هُنـالك للمحبّ العـانــي
دارا هنالك للمحب: يعني نفسه، داره هناك، هذا مرمى الكلام.
أتـرى الدليـلَ أعارَها أثوابَـهُ والريحَ أعطتْها مِـن الخفقانِ
يعني تعبير عن السّرعة، (أترى الدّليل أعارها أثوابه)، أو (البريد) -لو ذكر في نسخة- لأنّ البريد مِن شأنه الإسراع.
واللهِ لــو أنّ الدّليــلَ مكانَهـا ما كـانَ ذلك منهُ في إمكـــانِ
يعني قطع هذه المسافات في هذا الوقت القصير.
هذا وَلو سارتْ مسيرَ الريحِ ما وَصلــتْ بـه ليـلاً إلـى نُعمـــانِ
سارتْ وكانَ دليلَها في سَيْرها سَعدُ السّعودِ وليـسَ بالدَّبــرانِ
وَرَدتْ جِفَارَ الدمعِ وهي غزيرةٌ فلذاكَ ما احتاجَتْ وُرُودَ الضَّانِ
وعَلَتْ على مَتْنِ الهوى وتَزوَّدتْ ذكـرَ الحبيبِ ووصلَهُ المتداني
وعَدَتْ بزوْرَتِها فأوْفَــتْ بالـذي وَعَدَتْ وكـانَ بمُلتقى الأجفــانِ
لم تَفْجَـأِ المُشتـاقَ إلّا وهــي دا خلةُ السُّتورِ بغير ما استئـذانِ
قالتْ وقد كَشَفتْ نِقابَ الحُسنِ ما بالصّبرِ لـي عن أنْ أراكَ يـدانِ
وتحدّثـتْ عنـدي حَـديثًا خِلْتُــهُ صدقًا وقـد كَذَبتْ به العَينــــانِ
(كذبت به العينان): يعني عيناها كذبت به، كأنّ عيناها تدلّ على كذبها.
فعجبتُ منهُ وقلتُ من فَرَحي به طَمَعًا ولكنَّ المنــامَ دهـانـــي
إنْ كنـتِ كاذبـةَ الذي حدَّثْتِنـــي فعليـكِ إثمُ الكـاذِبِ الفتّــــــانِ
هذه المقدّمة -كما سمعتم، وكما بين يديكم- مقدّمة: منسوجة نسجًا بديعًا مشوّقًا، مضمنًا المعاني البيانية الجليلة، على طريقة الشّعراء في تصدير القصائد في مثل هذا الغزل، وتُشبَّه بقصيدة "كعب بن زهير" -رضي الله عنه- حين ألقى قصيدته بين يدي الرّسول فيما رواه المفسّرون والمؤرخّون، فصدّره بقوله:
وهذا المكتوب تعبيرًا عن مضمون هذه الأبيات التي قرأناها، وهي محاولة كما حاول الشّرّاح في التّعبير عنها وتقريبها، وذكر مقصود الشاعر -رحمه الله-.
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
قال شيخنا عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك: استهلّ الإمامُ ابنُ القيم -رحمه الله تعالى- قصيدته العصماء العظمى النّونيّة، التي سماها (الكافية الشّافية)، استهلّها: بالغزل البريء، الذي يسمّيه الأدباء "النّسيب"، كما استهلّ كعبُ بن زهير -رضي الله عنه- قصيدته في مدح الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- والصّحابة بهذا الأسلوب، فقال في مطلع القصيدة:
بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
إلى آخره .
قال ابنُ القيم في بدء قصيدته:
حكــمُ المحبّةِ ثابــتُ الأركانِ ما للصــدودِ بفسـخِ ذاك يـــدانِ
إلى قوله:
هذا ولـو أنّ الجمــالَ معــلّقٌ بالنّجــمِ همَّ إليــه بالطيـــــرانِ
ثم إلى قوله:
إنْ كنـتِ كاذبة الذي حدَّثْتِنِـي فعليـكِ إثـمُ الكـاذب الفتّـــــــانِ
واستعملَ في هذه الأبيات مِن أنواع البيان: الاستعارات، والتّشبيه التّمثيلي، فحلّق في الخيال، وأبدع في المقال، مما حيّر الشّرّاح لهذه الأبيات في معانيها ومقصود مبانيها، فقيل: مراده بالمحبّة: محبة الله، وقيل: محبّة أهل السّنّة، أو عقيدة أهل السّنّة، وقيل: "قاضي الحسن" هو العقل، وقيل: هو حسنُ المحبوب وجماله.
فصوّر في هذه الأبيات محكمة بأركانها: مِن قاضٍ، هو الحسن أو العقل -والأول أولى-، وخصمين هما: المحبّةُ والصّدود، ووشاةٌ وشهود، فالشّهودُ أكّدوا حكم المحبّة، وهو: الوفاءُ للمحبوب ووصله، والوشاةُ هم السّاعون في نقض حكم المحبّة، وإحلال الهجر والسّلوان محلّها، فبشهودِ الوصل تأكّد الحكمُ العزيز، وهو حكمُ المحبّة.
فلمّا جاءَ الوشاةُ وجدوا حكمهم، وهو أنّ الهجرَ والمحبّة لدان، أي: مستويان، وجدوا هذا الحكم قد تحقّق بطلانه، لأنّ قاضي الحسن قد حكمَ بفساده، وأثبتَ في ذلك محضرًا، فتضمّنت هذه المحاكمة إثبات حكم المحبّة وإنفاذه، وبطلان حكم العذول الذي يلوم المحبّ الصّادق لِمَن يستحقّ تلك المحبّة، وإبطال حكم الوشاة الذين يريدون بحكمهم فسخ تلك المحبّة، وقد أثبتَ القاضي المحكّم محضرًا بإنفاذ حكم المحبّة، وفساد حكم الهجر والسّلوان الذي يسعى الوشاةُ النّمامون لإحلاله محلّ المحبّة وإبطال حكم المحبة، فوجدوا حكم المحبّة متأكّدًا لا سبيل إلى نقضه، وحكمُهم قد حكم القاضي بفسادهِ، لفقده شروط الصّحة، فصار كالبنيان الذي تداعت أركانُه، أو كالإنسان الذي خرّ على ذقنه صريعًا.
ثمّ استطردَ في هذه الأبيات، فتوجّع لقلب محبّ والهٍ قد قابله محبوبُه بالصدّ والهجران، ومع هذا قد باع نفسَهُ له لهوانها عليه، فباء بالغبن والحرمان، ومثَّل هذا القلب المفتون المحروم بطائر على غصنِ شجرة ذات ثمر، فالثّمرُ لغيره، كحظّ المواصل لمحبوبه، فهذا العاشقُ المحروم يبكي لحرمانه، والمواصلُ ضاحكٌ لوصال محبوبه، ومِن فرط حبّه لجمال محبوبه: لو كان معلّقًا بالثريا لهمّ بالطّيران إليه.
ثمّ استطردَ الشّاعر، فتخيّل زائرةً أتت إليه مِن أرض الشّام، وقطعتْ الوديان والبلدان، وتخطت العسسَ والحراس؛ لتصل إليه، ففاجأته وهو بين النائم واليقظان، ففرح بها، وحدّثته عن رحلتها، فأعجب بحديثها، ولكنّه حذّرها مِن الكذب فقال:
إنْ كنـتِ كاذبة الذي حدَّثْتِنِـي فعليـكِ إثـمُ الكـاذب الفتّـــــــانِ
وبذلك تخلّص للدخول في مقصوده بطريقة فنيّة بديعة، وحسنُ التّخلص معدودٌ في بديع الكلام وحُسن البيان، هذا وللشاعر مِن نوع هذا البيان المبني على الإبداع والخيال مواضع كثيرة في ثنايا هذه القصيدة، أكثرَ فيها مِن التّشبيهات، لتقريب المعقول للمحسوس، ومِن ذلك:
أنّه مثّل حزبَ الموحّدين وحزب المبتدعين بخصمين في مجلس حكم، يتقارعان بالحجج، أو بجيشين يتزاحفان، ويتداعون إلى المبارزة والنّزال، ويتداعى الشّجعان مِن عسكر الإيمان لاختراق صفوف عسكر الشّيطان.
فجاءت هذه القصيدة مشتملة على طابع الشّعر، فلم تكن نظمًا محضًا، بل فيها الشّعر والنّظم، وسيتبيّن هذا في موضعه إن شاء الله. انتهى.
فعجبت منه وقلتُ مِن فرحي به طمعًا ولكـنّ المنــامَ دهانـــي
إنْ كنـتِ كاذبةَ الذي حدّثْتِنـي فعليـكِ إثـمُ الكـاذبِ الفتّـــــانِ
جَهْمِ بنِ صفوانٍ وشيعتِه الأُلَى جَحـدوا صفاتِ الخالقِ الدّيانِ
الآن شرع بالمقصود: وهو بيان مذاهب النّاس في أسماء الله وصفاته، وافتراق النّاس في ذلك، وبدأ بذكر مذهب المعطّلة الذي إمامهم وزعيمهم "جهم بن صفوان"، الذي تلقّى مذهب التّعطيل وجحد الصفات مِن شيخه "الجعد بن درهم"، وكلّ منهما قد أهلكه الله، وكلّ منهما قُتِلَ بسيف الحقّ، "فالجعدُ بن صفوان" قُتِلَ -كما في قصته المشهور- قتله "خالد بن عبد الله القسري" -أمير واسط-، وقد اشتهرت قصته، رغم مَن يزعم أنّها لم تثبت، نقلها العلماء، وتكلّموا عنها، وسيشير إليها "ابنُ القيم" في هذه الأبيات الآتية.
فالأبيات الآتية ضمّنها التّنبيه على مذهب "الجهم بن صفوان" وشيعته، يعني: وطائفته، فمذهبهم: جحدُ صفات الربّ -سبحانه وتعالى-، هذا مذهبهم على سبيل الإجمال، وسيأتي مفصّلاً مع التّنبيه على نقضه وفساده.
جهمِ بن صفوانٍ وشيعته الأُلَى جحدوا صفات الخالقِ الدّيانِ
(وشيعته): يعني وطائفته
(الأُلَى): يعني "الذين": اسم موصول
بلْ عطَّلوا منهُ السّماوات العُلى والعرشَ أَخْلَوْهُ مِن الرّحمنِ
هذا تعبير على نفيهم العلو.
ونَفَـوا كـلامَ الرّبِّ جلَّ جَـلالُهُ وقَضـوا له بالخَلقِ والحِدْثَانِ
(وقضوا له بالخلق والحِدْثَان): يعني قضوا في كلام الله أنه مخلوق، يعني حكموا عليه بأنّه مخلوقٌ.
قـالوا وليس لربِّنَا سَمْـعٌ ولا بَصَـرٌ ولا وَجْـهٌ فكيـفَ يـدانِ
هذا تفصيل لنفيهم الصّفات، نفوا الصّفات الذّاتية والفعليّة، فليس له سمع ولا بصر ولا وجه فكيف يدان!.
وكذاكَ ليسَ لربِّنا مِن قـدرةٍ وإرادةٍ أو رحمــةٍ وحَنـــــانِ
كلّ ذلك لا يقوم بالله شيءٌ منه: لا قدرة، ولا رحمة، ولا حكمة، ولا فعل يقومُ به سبحانه.
كـلّا ولا وصـفٌ يقومُ به سوى ذاتٍ مُجــرّدةٍ بغيـرِ مَعَــــانِ
يعني نفوا نفيًا محضًا، وعطلّوا صفات الله تعطيلاً تامّاً، فلم يثبتوا إلّا ذاتًا مجرّدة عن الصّفات، والذّاتُ المجرّدة عن الصّفات لا حقيقة لها، لا توجد في الخارج البتّة، الذات المجردة عن جميع الصفات: ولا وجود لها إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه مِن الموجودات، وهذا ضربَ له العلماء ما يوضِّحه، كما جاء في كتاب الإمام "أحمد" في الرّدّ على الجهمية فقال: (مَن أثبتَ نخلةً، وقال: ليس لها فرعٌ ولا عشبٌ ولا كربٌ ولا جذعٌ ولا وَلا، هل أثبتَ نخلة!؟) لا، فلا يمكن، يعني وجود شيء أو ذات مجرّدة عن جميع الصّفات فيكون موجودًا وجودًا حقيقيًّا، هذا لا وجود له إلا في الذهن.
قال ابن تيمية في "التّدمريّة": "وعطّلوا الأسماء والصّفات تعطيلاً يستلزم نفي الذّات".
وحياتُهُ هـي نفسُـهُ وكلامُـهُ هو غيرُهُ فاعْجَبْ لذا البُهتانِ
(وحياته هي نفسه): هذا مِن مقولات الفلاسفة، ومقولات مَن تبعهم مِن المعطّلة، يجعلون الصّفة هي الموصوف، والصّفة هي الصّفة الأخرى، وهذا مناقضٌ للعقول، وهو التّسوية بين المختلفين، فالعقول تقتضي أنّ الصّفة غير الموصوف، والحياة صفةُ الحيّ، الصّفات هي معنى معقول يقوم بالحيّ، ولا يقال: الحياةُ هي الحي، والقدرةُ هي القادر.
فمِن أقوالهم: التّسوية بين المختلفين، فيجعلون الصّفة هي الموصوف، والصّفة هذه هي صفة أخرى، فالحياة هي القدرة، والقدرة هي المشيئة، وهكذا.
وكذاكَ قالوا مَا لهُ مِـن خَلْقهِ أحـدٌ يكونُ خـليلَهُ النَّفسانـي
وهذا فيه نفي المحبّة، فنفوا المحبّة ونفوا الخلّة، فلهذا نفوا الخلّة عن إبراهيم وعن محمّد، هذا مِن فروع نفيهم للمحبّة عن الله، فعندهم أن الله لا يُحِبّ ولا يُحَبّ، سبحانه وتعالى عما يقول الظّالمون والمفترون علوًّا كبيرًا.
وخليلُهُ المُحتاجُ عندهُمُ وفي ذا الوصفِ يَدخلُ عابدُ الأوثانِ
يفسّرون الخلّة بالحاجة، فخليله هو الفقير المحتاج، والفقر والحاجة لا تختصّ بإبراهيم، هذا معنى يشترك فيه كلّ العباد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ}[فاطر:15]، فعلى قولهم: كلّ أحدٍ هو خليلٌ لله، يعني: فقير إليه.
وكذاكَ قالـوا ما لهُ مِن خلقهِ أحـدٌ يكون خـليلَه النّفسانــي
نفوا أن يكون لله خليلٌ مِن عباده، نفوا ما أثبته اللهُ لإبراهيم ولمحمّد صلى الله عليهم وسلم، وهذا تأويلهم وتفسيرهم، لمّا نفوا الخلة -قالوا ليس لله خليل من عباده- تأولوا ما جاء في القرآن: الخلّة بمعنى الحاجة.
وخليلهُ المحتاج عندهمُ وفي ذا الوصفِ يدخلُ عابدُ الأوثانِ
فالكـلُّ مُفتقِـرٌ إليـهِ لذاتِـــهِ في أسْـرِ قبضتِـهِ ذليـلٌ عـــانِ
(وفي ذا الوصف يدخل عابد الأوثان…): هذا فيه الردّ عليهم، مِن الرّدّ عليهم أن يُقال: الحاجة والفقر هذا عامّ لكلّ النّاس، يقتضي هذا أن يكون النّاس كلّهم -حتى عباد الأوثان- يعني تثبت لهم هذه الخلّة.
ولأجلِ ذا ضَحَّى بجعدٍ خالدُ الـ ـقسـريُّ يومَ ذبائحِ القُربــانِ
إذْ قـال: إبراهيمُ ليسَ خليلَـهُ كلّا ولا موسى الكليمَ الدّانـي
شكرَ الضّحيَّةَ كلُّ صاحِبِ سُنّةٍ لله درُّكَ مِـن أخـي قُربـــــانِ
(ولأجل ذا): مِن أجل هذا الكفر والتّعطيل المحضّ، المتضمّن لنفي صفات الربّ، ونفي علوّه، ونفي كلامه، ونفي صفاته: ضحى "بجعدٍ" خالدٌ القسري، يوم ذبائح القربان، في قصته المشهورة، حين قال للناس في خطبته في عيد الأضحى: ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فإنّي مضحٍّ "بالجعد بن درهم" فإنّه زعمَ أنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً.
(ضحى بجعد): يشبّه ذبحه في هذا اليوم، يشبه التّضحية به، وإلّا هو ما قصد أن يكون فعلاً لسنّة الأضحية، لكن ذبْحَه له أفضل مِن الأضحية، اقتصر عليها.
(إذ قال إبراهيم) القائل: الجعد.