شرح نونيّة ابن القيم – المسمّاة: (الكافية الشّافية)
الدّرس السّادس
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمامُ ابنُ القيم -رحمه الله تعالى- في نونيته المسمّاة بـ (الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة الناجية) قال رحمه الله:
إنْ كنتِ كاذبةَ الذي حدّثْتِني فعليــكِ إثـمُ الكـاذبِ الفتّانِ
– الشيخ: وصفَ "جهمًا" بالكذب والفتنة، وهو لا ريب أنّه مِن أكذب الكاذبين والمفترين على الله؛ بجحد صفاتهِ سبحانه وتعالى، وما ابتدعه مِن التّعطيل: مِن أعظم البدع التي وقعتْ في الأمّة الإسلاميّة، فبدعةُ التّعطيل -بدعةُ الجهميّة، وهي: تعطيلُ أسماء الربّ وصفاته- أعظم مِن بدعة الخوارج، والشّيعة، والمرجئة والقدر؛ لهذا يقول بعض السّلف: إننا لنحكي قول اليهود والنّصارى ولا نحكي قول الجهميّة، لِمَا فيه مِن الشناعة، كيف! يقول إنّه -تعالى- ليس بسميع ولا بصير! ولا يتكلم ولا يفعل! ولا يجيء ولا ينزل! وليس هو مستوٍ على عرشه! هذا غاية التنقّص، وكما تقدّم إنّ هذا النّفي العام: يستلزمُ تعطيل وجود الله، فإنّ نفي جميع الصّفات يستلزمُ نفي الذات.
وهو الفتّانُ فيما ابتدع ودعا إليه، يصدّ عن هدى الله، ويفتنُ الجهّال والأغرار بما يزخرفونه، فالمعطلةُ يسمّون التّعطيلَ: توحيدًا، فالمعتزلةُ مِن أصولهم الخمسة التّوحيد، ويدرجون فيه نفي الصّفات، سبحان الله، هذا مِن قلب الحقائق وتسمية الأشياء بغير اسمها، ويسمونه تنزيهًا، ويسمّون إثبات الصّفات: تشبيهًا، وتجسيمًا، ويسبّون بذلك أهل السنّة.
– القارئ:
إنْ كنــتِ كاذبةَ الــذي حدّثْتِني فعليـكِ إثـمُ الكـاذبِ الفتّـــانِ
جَهْمِ بنِ صفوانٍ وشيعتِه الأُلَى جَحدوا صفاتِ الخالقِ الدّيانِ
بلْ عطَّلوا منهُ السّماوات العُلى والعرشَ أَخْلَوْهُ مِن الرّحمـنِ
– الشيخ: (عطلوا منه السماوات الْعُلى): حيث زعموا أنّه ليس فوق السّماوات إلهٌ يُعبد، وليس فوق العرش إلهٌ يُصلى له ويُسجَدُ، وهو -تعالى- فوق سماواته على عرشه، هذا ما جاءت به الرّسل ودلّت عليه الكتبُ والفِطرُ السّليمة والعقولُ المستقيمة.
فذِكْر نفيهم للعلو وعطف ذلك على نفيهم للصّفات: مِن عطف الخاص على العام، وتقدّمت أن مسألة العلو مسألة لها شأنٌ في هذا المقام.
ونَفَوا كــلامَ الرّبِّ جلَّ جَـلالُهُ وقَضوا لـه بالخَلقِ والحِدْثَانِ
الضمير في "له" يعود للـ"كلام"، (وقضوا له): يعني حكموا عليه بالخلق والحدثان والحدوث، أنّه مُحدَثٌ وليس هو كلامًا قائمًا به سبحانه وتعالى.
قالوا وليـــسَ لربِّنَا سَـمْعٌ ولا بَصَـرٌ ولا وَجْـهٌ فكيفَ يدانِ
هذا تفصيلٌ لِمَا سبق.
وكذاكَ ليسَ لربِّنا مِـن قــدرةٍ وإرادةٍ أو رحمـــةٍ وحَنــانِ
كلّا ولا وصفٌ يقومُ به سوى ذاتٍ مُــجرّدةٍ بغيــرِ مَعَــــانِ
لم يثبتوا إلّا ذاتًا مجرّدة عن جميع الصّفات، والذاتُ المجرّدةُ عن جميع الصفات لا وجود لها إلا في الذهن، لأنه يمتنع أن يوجد شيء أو ذات مجردة عن جميع الصّفات، أن يوجد في الخارج، فالذاتُ المجرّدةُ عن جميع الصفات لا توجد إلا في الذهن.
وحياتُهُ هـي نفسُـهُ وكـلامُـهُ هو غيرُهُ فاعْجَبْ لذا البُهتانِ
هذا تقدّم التّنبيه عليه، وأنّ مِن مقولاتهم المناقضة للعقول: أن يجعلوا الصّفة هي الموصوف، حياتُه هي نفسُه، علمُه هو نفسُه، العلمُ عينُ العالم، والقدرةُ عينُ القادر، والحياةُ هي عينُ الحي، فهذه مِن أقوال الفلاسفة التي دخلت على "الجهميّة" ومَن تبعهم مِن المنتسبين للإسلام.
فحياته هي نفسهُ، وكلامهُ -يقولون- غيرهُ حين قالوا: إنّه مخلوق؛ فاعجب لذا الهذيان لِمَا فيه مِن التناقض، لأنّ التّناقض خلاف موجب العقل، فالعقلُ يقتضي التّسوية بين المتماثلات، والتّفريق بين المختلفات، فالعقلُ يقتضي الفرق بين الصّفة والموصوف، والتّسوية بين متماثلات، هذا حكم العقل: التفريق بين المختلفات والتسوية بين المتماثلات، وهم سووا بين المختلفات وفرّقوا بين المتماثلات، بخلاف حكم العقل.
وكذاكَ قالوا مَا لهُ مِـن خَلْقـهِ أحــدٌ يكونُ خليلَهُ النَّفسانـي
هذا متفرعٌ عن نفيهم للمحبة، هذا معناه نفيهم للمحبة، فإذا كانَ الله تعالى -بزعمهم- إنه لا يحبّ أحدًا مِن خلقه، إذًا فبهذا: لا يكون أحدٌ مِن العباد خليلاً له، كما هو لإبراهيم ومحمد -عليهما الصّلاة والسّلام-، نفوا أن يكون أحد مِن عباده خليلاً له، هذا فرع عن نفيهم للصّفات ونفيهم للمحبة على وجه الخصوص.
وخليلُهُ المُحتاجُ عندهُمُ وفي ذا الوصفِ يَدخلُ عابدُ الأوثانِ
تقدم أنّهم يؤولون معنى {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}(النساء:125) يؤولون "الخليل" بأنّه الفقير، مِن "الخَلَّة" وهي الحاجة، وهذا الوصف -الذي هو الحاجة- هذا عام، كلّ العباد فقراء إليه، فهذا مِن قبيل الردّ عليهم.
(وخليله المحتاج عندهمُ وفي): هذا تأويله عندهم، (ذا الوصف يدخل عابد الأوثان): يعني الشطر الأول: تضمّن ذكر مذهب الجهميّة المعطّلة، وفي الشّطر الثّاني: تضمّن الردّ، يدخل في ذا الوصف عابد الأوثان: هذا فيه بيان أنّ هذا الوصف -الذي هو الحاجة- يدخل فيه كلّ النّاس؛ البرّ والفاجر، عبّاد الأوثان فقراء إليه، فالشّطر الأول: فيه ذكر تأويلهم للخلّة، وفي الثاني: الردّ عليهم.
فالكــلُّ مُفتقِــرٌ إليـهِ لـــذاتِــهِ في أسْـرِ قبضتِـهِ ذليلٌ عـانِ
هذا تفصيلٌ لقوله: (ويدخل في ذا الوصف عابد الأوثان).
ولأجلِ ذا ضَحَّى بجعدٍ خالدُ الـ ـقسريُّ يومَ ذبائحِ القُربـانِ
تقدّمت الإشارة إلى قصّة "خالد"، وهي قصة مشهورة عند أهل العلم، لا يُلتفتُ إلى مَن يشكك فيها، مشهورة، ويحكونها ويثنون على "خالد" بما فعل.
إذْ قــال: إبراهيمُ ليـسَ خليلَهُ كـلّا ولا موسى الكليمَ الدّانـي
(الكليمَ): خبر ليس، أي: ليس إبراهيمُ خليلَه، (ولا موسى الكليم) أي: ليس موسى كليمه -سبحانه وتعالى-، لأنّهم ينفون المحبّة، وينفون الخلّة عن إبراهيم وغيره، وينفون كذلك عن الله التكلّم، إذًا فلا يكون موسى كليمَ الله، فنفيهم "الخلّة" عن إبراهيم، ونفيهم "التّكليم" -تكليم الله لموسى-: فرعٌ عن نفيهم عن الله المحبة والكلام.
والعبـدُ عندهمُ فليسَ بفاعـــلٍ بلْ فِعلُــه كتحــركِ الرَّجَفَـــانِ
وهُبـوبِ ريـحٍ أو تحرُّكِ نـائـمٍ وتـحرُّكِ الأشجـارِ للمَيَـــــلان
واللهُ يُصْليهِ علـى ما ليس مـنْ أفعالِــهِ حَـرَّ الحميــمِ الآنــــي
لكنْ يُعــاقبُـــهُ علــى أفعــالـهِ فيـِه تعالـى اللهُ ذو الإحســــانِ
والظلمُ عندهـمُ المُحالُ لِذاتـــه أنَّى يُـنـزَّهُ عنهُ ذو السُّلطـــان
ويكونُ مَدحًا ذلكَ التَّنزيــهُ مـا هذا بمعقــولٍ لــذي الأذهــــانِ
يذكر في هذا الفصل أنّ مِن مذهب الجهميّة -و"جهم" هو الإمام- يذكر أنّ مِن مذهبهِ وبدعهِ التي عُرِفَ بها: القولُ بالجبر، بأنّ العبدَ مجبورٌ، يعني أنّه لا قدرةَ له، ولا اختيار على أفعاله، بل أفعاله قسريةٌ، أفعاله وحركاته مثلُ الرّيشة في مهبّ الرّيح، ومثلُ هبوب الرّيح، وحركة الأشجار، وحركة المرتعش، فالحركة نوعان: حركة قسرية واختيارية، ومثل الرّجفان، الرّجفان الذي يحصل للإنسان: الرعشة الارتعاش، فأفعاله على هذا النّهج، وجارية بغير اختياره.
ولازمُ هذا القول: أنّ الله يعاقبُ العبدَ العاصي على معاصيه يعاقبُه لا على أفعال العبد، بل على أفعال الله فيه، فهو يعاقبُه على ما لا اختيارَ له فيه ولا قدرةَ له عليه.
ثم مِن فروع هذا المذهب أنّهم يقولون: الظّلم هو المحال لذاته، مثل: كون الشّيء موجودًا معدومًا، أو لا موجود ولا معدوم، هذا محال، فهذا ممتنع، فهذا هو الظّلم، فالظلمُ عندهم هو المحال، يعني المستحيل لذاته، لأنّ المستحيل تارةً يكون لذاته؛ مثل كون الشّيء موجودًا معدومًا، أو لا موجود ولا معدوم، مثلاً يُقال: إنّ هذا الشّيء الموجود لا داخل العالم ولا خارجه، هذا كلّه مِن صور الممتنعات.
وأمّا الممتنع لغيره: فهو مثل ما لا يشاء الله وجوده، هذا ممتنع لعدم مشيئة الله له، ما شاءَ الله: كان، ولابدّ، وما لم يشأ: لا يكون. فنقول: إنّ هذا ممتنعٌ، فردّ الكفار -إذا تمنوا العودة للدنيا- ردّهم إلى الدّنيا: هذا ممتنع، لأنّ الله قد حكم بذلك وأخبر أنهم لا يُرَدّون، إذًا فهو ممتنعٌ لغيره، أمّا الإمكان: فممكن لذاته، الرجوع إلى الدنيا ممكن باعتبار ذاته.
فيقول الشيخ -رحمه الله-: (والظّلم عندهم): يعني عند الجهميّة، عند "جهم" وشيعته، الظلم هو المحال، المستحيل لذاته، أمّا أن يعذّب أحدًا بغير ذنب: فليس هذا بظلم، والظلم حقيقته في موجب العقل والشرع: وضعُ الشّيء في غير موضعه، والله قد حرّم على نفسه الظّلم، فهذا يدلّ على أنّ الظّلم ممكنٌ، لكنه لا يفعله -تعالى- لكمال عدله، بل حرّم الظّلم على نفسِه، فلا يعذّبُ أحدًا بغير ذنبٍ، ولا يعذّب أحدًا بذنب غيره، على حدّ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.
ويقول: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}(طه:112)، لا يخاف مِن الله ظلمًا ولا هضمًا، فإنّه لا ينقصه مِن حسناته، ولا يحملُ عليه وزر غيره، تعالى وتقدّس عن ذلك.
(والعبد عندهم): عند "جهم" وشيعته، ومَن سار على مذهبه، وهذا تعبير عن مذهبه في الجبْر، فإنّ "جهمًا" عنده ثلاث بدع شنعاء، هو إمام فيها:
– التّعطيل، وهو أشهر بدعه.
– الجبر.
– الإرجاء، الذي حقيقته: القول بأنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنبٌ، والإيمانُ: هو معرفةُ الخالق، كما سيأتي، الإيمان عنده: هو معرفةُ العبد لربّه، بأن يقرّ بأنّ له ربًّا، أو بأنّ الله ربّه، وسيأتي قريبًا التعبير عن هذه البدعة الثالثة؛ بدعة الإرجاء.
والعبــدُ عندهمُ فليـسَ بفاعـــلٍ بلْ فِعلُـه كتحـــركِ الرَّجَفَــانِ
يعني ليس له فيها اختيار، مثل الرعشة، مثل حركة المرتعش، هذه أمثلة.
وهُبـوبِ ريـحٍ أو تحـرُّكِ نـائـمٍ وتــحرُّكِ الأشجــارِ للمَيَــلان
كلّ هذه الحركات لا إراديّة، تسمّى: الحركات اللاإرادية، حركاتٌ بلا إرادة، حركةُ الإنسان: منها الإراديّة، وغير الإراديّة، حركة النّائم: لا إراديّة، حركةُ المرتعش: لا إراديّة، أمّا حركته -قيامًا، وقعودًا، وذهابًا، ومجيئًا-: هذه حركات إراديّة، وهذا معروف لكلّ مَن له عقل، الفرق بين الحركة الإراديّة والحركة اللاإراديّة أو القسريّة.
واللهُ يُصْليهِ علـى ما ليـس مِـنْ أفعالِــهِ حَــرَّ الحميــمِ الآنـي
الآنِي: هو شديد الحرارة، أعوذ بالله، كما في آيتين من القرآن: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}(الرحمن:44)، وكذلك في الآية الأخرى في سورة الغاشية: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}(الغاشية:3-5).
يقولون إنّ مضمون قولهم أنّ الله يعذّب العبدَ على ما ليس مِن أفعاله، فالله يعاقبه على ما ليس مِن أفعاله، بل على ما يفعله فيه، سبحان الله وتعالى عمّا يقولُ الجاهلون والظالمون علوًّا كبيرًا.
"فالله يصْلِيه" يعني هذا تفريع على قولهم: إنّ العبدَ ليس بفاعلٍ، بل فعلُه ليس اختياريًّا، بل هو كتحرك الرّجفان، وتحرك الأشجار للمَيَلان، وتحرك الرّيشة في مهبّ الرّيح، وتحرّك النّائم.
واللهُ يُصْليهِ علـى ما ليـس مِـنْ أفعالِــهِ حَــرَّ الحميــمِ الآنــي
لكنْ يُعــاقبُـهُ علـــى أفعـــالــهِ فيـِــه تعـالى اللهُ ذو الإحسـانِ
( لكن يعاقبه على أفعاله): الضمير هنا "على أفعاله" يعني على أفعاله هو -سبحانه وتعالى-، يعاقبُ العبدَ على ما ليس مِن أفعاله: أي العبد، والثاني: بل يعاقبه على أفعاله -سبحانه- فيه، الضّمير الأول: لله، والثّاني: للعبد، فالله يعاقبُ العبدَ على أفعاله -سبحانه- فيه، أي: في العبد.
تعالى الله عن هذا القول المُفترى: أن يعاقبَ العباد ما ليس مِن أفعالهم، وما ليس لهم فيه قدرةٌ ولا اختيار، سبحان الله العظيم.
والظلمُ عندهمُ المُحالُ لِذاتــه أنَّى يُـنـزَّهُ عنهُ ذو السُّلطــان
هذا مِن فروع القول بالجبر: تفسير "الظّلم" بالمحال، فكلّ ممكن فهو جائز، يجوز عندهم أن يعذّب اللهُ العبدَ على ما ليس مِن فعله، وأنّ يعذّبه بفعل غيره، فكل ممكن فهو جائز، يعني يجوز على الله.
ثم يقول: (أنّى ينزّه عنه ذو السلطان): هذا البيت فيه معنى الردّ عليهم، إذا كان الظّلم هو المحال فما معنى تنزيهه -تعالى- عن الظلم!؟ فالشّيء المستحيل لا معنى للتنزيه عنه، لأنّه غير ممكن مستحيل، فقوله: (أنّى ينزّه): في هذا إشارة إلى الردّ عليهم، فمَن يقول "إنّ الظّلم هو المستحيل": يُقالُ له إذًا كيف يُنزّه الله عنه!؟ فلا معنى للتنزيه عنه، إنّما يُنزَّه عن العيب والنّقص الممكن مِن الأفعال، المستحيل لا مانع للتنزيه عنه.
ويكونُ مَدحًا ذلكَ التَّنزيــهُ مـا هذا بمعقولٍ لدى الأذهــــانِ
إذًا التّنزيه عن المستحيل: ليس بمدح، ليس فيه مدح، التنزيه عن الأمر المستحيل الذي لا يُتصوّر وقوعه فلا معنى للتنزيه عنه، ولا يكون مدحًا.
و(أنّى): استفهام إنكار واستبعاد، كيف يُنزّه عنه وهو مستحيل! أنّى ينزّه عنه ذو السلطان.
فحاصل هذا الفصل: ذكرُ مذهب "الجهم" وشيعته، في أفعال العباد، وأنّهم ليس لهم فيها اختيار ولا قدرة، وهذا ما يسمى "بمذهب الجبر"، فهو قائل بالجبر.
وممّا تفرّع على هذا القول: قولهم بأنّ الظّلم هو المستحيل، وهذا القول تردّه الفطرُ والعقولُ والنّصوصُ، فالله -سبحانه وتعالى- أخبرَ عن العباد بأفعالهم، فالعبدُ هو القائمُ، والقاعدُ، وهو المطيعُ والعاصي، والمؤمنُ والكافرُ، فهذه أفعال تكون باختياره، وهذا هو ما تقتضيه الأدلّة، فالله أسند هذه الأفعال إلى العباد: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الواقعة:24).
وأثبتَ للعبد مشيئة: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(التكوير:28-29)؛ فللعبدِ قدرة، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التغابن:16)، فالعبد له استطاعة يفعل بها.
ومِن فروع هذا القول: أنّ الله يُعذّب العبدَ بما ليس مِن أفعاله، بل مِن أفعاله فيه، وهذا يستلزم وصفه -تعالى- بالظّلم، وأنّه يُعذّب العبدَ على ما ليس مِن فعله، وخروجًا عن هذا الأمر: زعموا أنّ الظّلم هو المستحيل, لمّا قيل لهم إنّ قولكم هذا يتضمّن وصفه تعالى بالظّلم، قالوا: لا، الظّلم هو المستحيل، أمّا أن يُعذّب الله العباد على ما ليس مِن أفعالهم بل مِن فعله -تعالى- فيهم فذلك ليس ظلمًا، بل الظلم هو المستحيل لذاته!.
وكذلكَ قالوا مـا لهُ مِـن حكمةٍ هـي غايةٌ للأمـــرِ والإتقــــــانِ
ما ثَمَّ غيرُ مشيئةٍ قد رَجَّحَـتْ مِثــلاً على مِثــلٍ بـلا رُجحـــانِ
هذا وما تلكَ المشيئةُ وصفَــهُ بلْ ذاتُــهُ أو فِعلـــهُ قـــــــولانِ
وكلامُهُ مُذ كانَ غيرًا كانَ مَخْـ ـلُــوقًا له مـنْ جُملـةِ الأكــــوانِ
قـــالـوا وإقـرارُ العبـادِ بـأنّــه خلَّاقُهـم هــو مُنتهى الإيمــــانِ
والنَّاسُ في الإيمانِ شيءٌ واحدٌ كالمشـطِ عنـدَ تَماثُــلِ الأسنــانِ
فاسألْ أبا جهـلٍ وشيعتَهُ ومَـن والاهـمُ مِـــن عـابدي الأوثـــان
وسَلِ اليهودَ وكُلَّ أقْلَفَ مُشركٍ عَبَـدَ المسيـحَ مُـقَبِّـلَ الصّلبـــانِ
واسألْ ثمودَ وعادَ بلْ سلْ قبلهم أعداءَ نُـــوحٍ أمّــة الطُّـوفـــانِ
واسألْ أبا الجنِّ اللعينَ أتعرفُ الـ خـلَّاقَ أمْ أصْبحــتَ ذا نكــرانِ
واسألْ شِرارَ الخلْقِ أعني أمّـةً لُوطــيَّـــةً هـم ناكحو الــذُكْرانِ
واسأل كذاكَ إمامَ كُلِّ مُـعَطِّـــلٍ فـرعونَ مع قارونَ مع هـامـانِ
هل كانَ فيهم مُنكرٌ لِلخالقِ الـ ـرّبّ العظيــمِ مُكَــوِّنِ الأكــوانِ
فـلْـيُـبْـشروا ما فيهــمُ مِـن كافرٍ هــمْ عندَ جَهـمٍ كاملو الإيمـــانِ
تضمّن هذا الفصل ذكر -أيضًا- بعض مقولات "الجهم" وشيعته الجهميّة، ومَن وافقه، فذكرَ في هذا الفصل أنّ مِن مقولاتهم: نفي حكمة الله تعالى في خلقه وشرعه، أنّه لا يفعل شيئًا لحكمة، ولغاية محمودة، بل ما ثَمَّ وليس هناك إلّا مشيئة. كذلك يقتضي أنّه -تعالى- يسوّي بين المختلفات، ويفرّق بين المتماثلات، لأنّه ليس له حكمة في أفعاله وأقداره.
وكذلك مِن مقولاته الشنيعة: قولُه في الإيمان "إنّه معرفة العبد لربّه، وأنّ الله خالقه"، وهذا هو حقيقة قوله بالإرجاء، وهذا هو قولُ غلاة المرجئة، هذه البدعة الثّالثة مِن البدع الكبيرة التي اشتهرَ بها "جهم" ومَن وافقه وتبعه فيها.
ثم "ابن القيم" في هذا الفصل مِن باب الردّ على هذا القول إنّه يستلزم أنّ إبليس وأممَ الكفر أعداء الرّسل ثمود، وعاد، وفرعون، وهامان، وقارون: كلّهم مؤمنون؛ لأنّهم يعرفون أنّ الله ربّهم، إبليس الأول:
واسألْ أبا الجنِّ اللعينَ أتعرفُ الـ خلَّاقَ أمْ أصْبحتَ ذا نكرانِ
فرعون، وهامان، وقارون، قال الله في شأنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(النمل:14). وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا}(الإسراء:102).
ويختم الفصل بالسّخرية، يقول: إنّ هؤلاء فليبشروا، هم عند "جهم" كاملو الإيمان، هذه الأمم الكافرة العاتية الظّالمة على مذهب "جهم": إنهم مؤمنون.
فصلٌ
وكذلكَ قالوا مـا لهُ مِـــن حكمةٍ هي غايـــةٌ للأمـــرِ والإتقـــــانِ
قالوا: ليس لله حكمة يفعلُ تعالى مِن أجلها، (هي غاية للأمر): يعني الشّرع، (والإتقان): الذي هو الخلق، فليس له حكمة في شرعه ولا في خلقه وقدره، (هي غاية للأمر والإتقان): هي غايةٌ مقصودةٌ فيما يشرعه تعالى.
والحقّ أنّ الله مِن أسمائه "الحكيم"، وأنّ له الحكم في شرعه، ونفي "الحكمة" يتضمّن أنّه يعني يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل لا لشيء!، ولهذا نزّه الله نفسَه عن ذلك في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}(الدخان:38)، تعالى الله، فالخلقُ لا لحكمة: هذا عبث، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}(المؤمنون:115).
فالفعلُ والتّدبيرُ والتّصرفُ لا لحكمةٍ: هذا شأنُ اللاعب والعابث، تعالى الله، اللهُ خلق السّماوات والأرض بالحقّ، وخلقَ الخلقَ لغايات، {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ}(الملك:2) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56).
وقد فصلَ -سبحانه وتعالى- كثيرًا مِن حكمه في خلقه، {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ}(النحل:5): يعني على قولهم "إنّ الله خلق الأنعام لا لشيء، بل محض المشيئة"، وما يحصل مِن الأمور هذه عواقب، فليس عندهم "لام تعليل"، بل "اللام" عندهم هي: لام العاقبة، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾، يعني تكون عاقبتهم الابتلاء، لا أنّ ذلك مقصود وغاية للخلق التدبير، ما ثَمَّ إلّا المشيئة التي يفرّق -تعالى- بها بين المتماثلات ويسوّي بين المختلفات.
وكذلكَ قالوا ما لهُ مِن حكمةٍ هـي غايةٌ للأمـــرِ والإتقــــــــانِ
ما ثَمَّ غيرُ مشيئةٍ قد رَجَّحَـتْ مِثــــلاً على مِثــلٍ بلا رُجحـــانِ
فهو يفرّق بين المتماثلات، ما ثَمَّ إلا مشيئة قد رجحت مثلاً على مثل مِن غير أن يكون له ترجيح، والله تعالى يفعلُ ما يشاءُ لحكمة بالغة، يهدي مَن يشاء ويضلّ مَن يشاء، يسبط الرزق لمن يشاء، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ}(الشورى:49-50]. ما ثمَّ إلاّ مشيئة، ليس لله حكمة في خلقه وتدبيره!.
هذا وما تلكَ المشيئةُ وصفَــهُ بلْ ذاتُــهُ أو فِعلـــهُ قــــــولانِ
أيضًا مع قولهم بنفي الحكمة وتدبير الوجود بمحض المشيئة لا لحكمة، قالوا: إنّ هذه المشيئة -أيضًا- يعني ليست وصفًا له -سبحانه وتعالى-، بل إمّا أن تكون ذاتَه مِن نوع قولهم "حياته هي ذاته"، فبعضهم يقول: مشيئته هي ذاته، أو يقولون: إنّ المشيئة فعلٌ، وليس عندهم فعلٌ يقومُ به، بل هي مفعوله.
(هذا وما تلك المشيئة وصفه): ليست وصفًا قائمًا به, (بل ذاته أو فعله قولان): إمّا أن تكون مشيئته هي ذاته، أو مشيئته هي فعله، لكن ليس معنى ذلك أنّه فعلٌ قائمٌ به، بل مفعوله، فتكون المشيئة هي مفعوله، (قولان): قولان له، يعني بعضهم يقول: هي ذاته، ومنهم مَن يقول: بل هي فعله، وليس معنى ذلك أنها فعل قائم به، بل هي فعله، أي: مفعول له، ليس عندهم أنّه تعالى له فعلٌ يقوم به، كما سيأتي التصريح بهذا.
وكلامُهُ مُذ كانَ غيرًا كانَ مَخْـ ـلُوقًا له منْ جُملةِ الأكـــــوانِ
هذا تقدّمت الإشارة إليه، يقول: مِن أقوالهم أنّ كلامه -تعالى- مذ كان فهو مخلوق له مِن جملة الأكوان، فمِن أقوال "جهم" وشيعته أنّ كلامه منذ كان هو مخلوقٌ مِن جملة المخلوقات، وكلّ هذا مِن فروع نفيهم للصّفات، نفيهم لصفات الله تعالى: تفرّع عنه هذه المقولات القبيحة الشّنيعة.
(وكلامه مُذ كان غيرًا): فهو غير الله، لأنّه مخلوقٌ مِن جملة المخلوقات، ليس فعلاً قائمًا به تعالى وتقدّس.
قـالـوا وإقــرارُ العبـادِ بـأنّـه خلَّاقُــهم هــو مُنتهى الإيمــانِ
هذا تصريح بمسمّى الإيمان عند "جهمٍ" وشيعته، عند الجهميّة أنّ إقرارَ العبد بأنّ الله خالقُهُ هو غاية الإيمان، هو حقيقةُ الإيمان، فهذا هو تقرير قولهم بالإرجاء، وتبع هذا ما يتضمّن الردّ عليهم بإلزامهم أنّ إبليس وسائر طوائف الكفر مؤمنون؛ لأنّهم مقرّون بأنّ الله خالقهم، لأنّ إبليس وأمم الكفر، وكلّ كافر مقرٌّ بأنّ الله خالقه.
قـالـوا وإقــرارُ العبـادِ بـأنّـه خلَّاقُــهم هــو مُنتهى الإيمــانِ
والنَّاسُ في الإيمانِ شيءٌ واحدٌ كالمشطِ عندَ تَماثُلِ الأسنــــان
يعني الإيمان لا يزيد ولا ينقص، النّاسُ في الإيمان شيءٌ واحد، يعني الناس الذين يقرّون بأنّ الله خالقهم هم في الإيمان سواء.
(كالمشط عند تماثل الأسنان): هذا ضربُ مثل لتصوير التّساوي، النّاس في الإيمان على حدٍّ سواء كأسنان المشط.
فاسألْ أبا جهــلٍ وشيعتَهُ ومَـن والاهمُ مِــن عابدي الأوثـــان
مِن هذا البيت إلى آخره: تضمّن إلزامهم، ويتضمّن الرّدّ عليهم في دعوى أنّ حقيقة الإيمان هو معرفة أنّ الله هو الخالق -سبحانه وتعالى-، ففي هذا إلزام لهم وفيه الرّدّ عليهم، فما يستلزمُ الباطل باطلٌ، فقولهم يستلزم أنّ إبليس وأولياءه مِن طوائف الكفر أنّهم مؤمنون!، وهذا مِن أبطل الباطل، وأظهر الباطل، وما يستلزم الباطل فهو باطلٌ.
فاسألْ أبا جهــلٍ وشيعتَهُ ومَـن والاهمُ مِــن عابدي الأوثـــان
وسَلِ اليهودَ وكُلَّ أقْلَفَ مُشركٍ عَبَدَ المسيـحَ مُقَبِّــلَ الصّلبــانِ
(وكل أقلف مشرك): هذا كناية عن النصارى، لأنّهم معرفون بعدم الاختتان، "الأقلف" هو غير المختون، مَن ليس مختونًا يقال له "أقلف".
(عَبَد المسيح مُقَبِّلَ الصّلبان): صرح بخاصيتهم مِن الشّرك، وهو عبادةُ الصّليب وتقبيل الصّليب، عَبَد المسيح وهو يقبّل الصّلبان لغلوّه في المسيح.
واسألْ ثمودَ وعادَ بلْ سلْ قبلهم أعــداءَ نُــوحٍ أمّـة الطُّـوفـانِ
واسألْ أبا الجنِّ اللعينَ أتعرفُ الـ خلَّاقَ أمْ أصْبحتَ ذا نكرانِ
مِن المعلوم أنّ إبليس يعرف ربّه، يعرف أنّ الله خالقه، وهذا أمر بدهي وضروري، لا يشكّ فيه مَن قرأ كتاب الله: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(ص:79)، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ}(ص:82)، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}(الحجر:39).
واسألْ شِرارَ الخلْقِ أعني أمّـةً لُوطـيَّــةً هم ناكحو الــذُكْرانِ
واسأل كذاكَ إمامَ كُــلِّ مُـعَطِّـــلٍ فرعونَ مع قارونَ مع هامانِ
هل كــانَ فيهم مُنكرٌ لِلخالقِ الـ ـرّبّ العظيــمِ مُكَــوِّنِ الأكـوانِ
فـلْـيُـبْـشروا ما فيهمُ مِـن كـافرٍ همْ عنــدَ جَهـمٍ كاملو الإيمـانِ
المقصود أنّ هذه الفصول تضمّنت ذكر جملةٍ مِن بدع الجهميّة، كبدعة "الجبر" كما في الفصل الأول، وما تفرّع عنها مِن قولهم في الظّلم، وما يلزمهم مِن القول بأنّ الله يُعذّبُ العباد على غير أفعالهم، بل بما يفعله فيهم، وقولهم بنفي الحكمة، وأنّ الله تعالى إنّما يفعلُ بمشيئته فقط.
أمّا أهل السنّة: فيؤمنون بأنّ الله حكيم، له حكمة بالغة، لا يخلقُ شيئًا عبثًا، ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكمةٍ بالغة، ولكن هذه الحِكَم منها ما صرّح به -سبحانه وتعالى- في كلامه، أو بيان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومنها ما يعلمه العباد بالنّظر والتّدبّر، وهذا كثير في القرآن؛ خلقَ الله النّجوم لحكمٍ كثيرة، لكن منها: خلقها زينة في السّماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، هذه الحكم التي صرّح الله بها في كتابه، وخلقها أيضًا لحكمة عامة، وهي لِمَا فيها مِن الدّلالة على قدرته، وهو سماها آيات: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ}(الذاريات:20).
وكذلك مِن آياته: خلق السماوات والأرض، ومِن آياته: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا}(الأنعام:97).
فمِن حكمه العامة: ما فيها مِن الدلالة على ربوبيته، وإلهيته، وحكمته، سبحانه وتعالى.
كذلك الله ذكر حكمته في خلق الأنعام: {خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(النحل:5)، {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ}(النحل:6-7)، الله بيّن أنّه لم يخلق هذه المخلوقات عبثًا ولمجرد المشيئة، لا، بل بيّن ذلك.
أهلُ السنّة والجماعة يؤمنون بأنّ الله تعالى له حكمة في شرعه وقدره، لكن منها ما نصّ الله عليه، ونبّه إليه في كتابه، ومنها ما يدركه العباد بالتّدبّر؛ الله خلق الشّمس والقمر، وبيّن أنّه خلقها ليعرف العبادُ الحسابَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}(يونس:5) ما خلقها عبثًا، خلقها بالحقّ بقدرته، لحكمة بالغة.
﴿لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾: وهذا المعنى جاء في القرآن في مواضع، وهذا المعنى تفسيره في القرآن كثير.
كذلك في الشّرائع: أمرَ العباد بما يصلحهم، ونهاهم عمّا يضرّهم، أرسلَ الرّسل، وأنزلَ الكتب ليخرج مَن شاءَ مِن عباده مِن الظّلمات إلى النّور، {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ}(إبراهيم:1) هذه اللام: لامُ التعليل، الله أرسل محمدًا -صلّى الله عليه وسلّم- وأنزل عليه الكتاب: ليخرج الناس مِن الظّلمات إلى النّور بإذن ربّهم.
أرسلَ الرّسل وأنزل الكتب هكذا عبثًا!، تعالى الله، مجرد أنّه شاء إرسالهم!؟ لا، {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ}(النساء:165)، أرسلهم لحكمة.
ومِن حكمه تعالى: أن لا يكون للناس على الله حجّةٌ بعد الرّسل، وكانَ اللهُ عزيزًا حكيمًا، ففي القرآن بيانٌ لحكمهِ في شرعهِ وحكمهِ في قدرهِ -سبحانه وتعالى-، وهذا يُوجبُ أن نتدبّرَ القرآنَ لنعرفَ حكمَ الله في خلقه، وأمره في شرعه وقدره، لنعرفَ حكمَ الله، لنعرف ما شرعَ لنا، ونعرفَ حكمته -سبحانه وتعالى- في ذلك.