الرئيسية/فتاوى/أدلة إثبات وجود الله تعالى ووسائل ثبات الإيمان في النفوس
share

أدلة إثبات وجود الله تعالى ووسائل ثبات الإيمان في النفوس

السؤال :

 فضيلة الشيخ الوالد عبد الرحمن البراك بارك الله في عمره وعمله: تعلمون -حفظكم الله- ما انتشر أخيرًا في أوساط الشباب من موجة الإلحاد بسبب استغلال أعداء الإسلام ما تيسر من وسائل الاتصال وسرعة انتقال المعلومات، وغفلة الحكومات الإسلامية عن العناية بتثبيت الإيمان في نفوس شعوبها، ونحن إذ نكتب إليكم لنأمل منكم -حفظكم الله- أن تكتبوا لنا وفق تصوركم أدلة إثبات وجود الله تعالى، ثم تعرجون على وسائل ثبات الإيمان في النفوس، لعل الله جل وعلا يجعل في كتابتكم البركة والخير للذين نكبوا عن الصراط المستقيم، ولمن وقع في نفوسهم الشك والريب.

 الحمد لله الذي منَّ علينا بمعرفته وتوحيده، وهدانا بآياته وتسديده، والصلاة والسلام على أشرف عبيده، محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذا سؤال عن أدلة أظهر الأشياء وأبين الحقائق وأجلاها عند ذوي الفطر السليمة والعقول المستقيمة، وهو رب العالمين سبحانه وتعالى؛ فإن أدلة وجوده وقدرته ووحدانيته عز وجل بعدد مخلوقاته:

وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ  * *  تدلُّ على أنَّه واحدُ [1]

آياتٌ في خلق السماوات والأرض، وفي الليل والنهار، يقرأ ذلك أولو العقول المتفكرون قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل : عمران:190-191].

 آياتٌ في الآفاق وآياتٌ في الأنفس: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وخلق الإنسان نفسِه آياتٌ وآياتٌ، لا آيةٌ واحدة، ولكن داء البشرية الغفلةُ والإعراضُ والاستكبارُ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ[يونس:92]، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ[يوسف:105]، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ[الأنبياء:32] وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُون[الأنعام:93].

فهذه الأدواء هي مصدر الإلحاد وأنواعِ الكفر في البشرية، فتلكم الآيات في الكون وفي الآفاق والأنفس لا تغني شيئا مع الغفلة أو الإعراض أو الاستكبار: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ[يونس:101] يأبى الملحد أن يقنع بوجود طائرةٍ صدفةً، أو سيارةٍ صدفةً، أو ساعةٍ صدفةً، أيْ وُجدت بنفسها بلا صانع لها، وهو في هذا بعقله، ولكنه مع هذا لا يأنف عن الخروج عن العقل حين يزعم أن هذا الوجود بأسره وُجد صدفة، فلا مبدع ولا مدبر! فيقع في أعظم التناقض، ولا يصر على هذا التناقض إلا معاند مكابر، فلا جدوى للحديث معه، وقد رَكَـزَ الله في فطر العباد وعقولهم أن المحدَث يمتنع أن يُـحدِثَ نفسَه؛ إذ كان معدوما، ويمتنع أن يـَحدُث من غير مـُحدِث؛ إذ الحدوث أثر الإحداث، والإحداث فِعْلٌ لا يكون إلا من فاعل، كما نبه تعالى على هذا بقوله أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] وكما يدل المخلوق على وجود خالقه، كما تقدم. هذا أولًا.

وثانيا: فإنه يدل على أنه ذو قدرة، وهو معنى قول بعض المتكلمين “الفعل الحادث يدل على القدرة”، أي: الشيءُ المفعول يدل على قدرة الفاعل، وهذا الاستدلال يجري في جميع المحدَثات.

ثالثا: من المعلوم بالضرورة أن هذا الوجود مشتمل على غاية الإحكام بمجموعه وبجزئياته، وإحكامُ الصنعة يدل بالضرورة على علم الصانع، وهذا معنى قول بعض المتكلمين في صفات الله تعالى “الإحكام يدل على العلم”.

رابعا: ومن المعلوم بالضرورة بالحس والمشاهدة أن هذا العالم مشتمل على التخصيصات في تركيب مجموعه، وفي تركيب كل فرد من أنواعه وفي صفاته، وذلك بوضع كل جزء وكل صفة في موضعها المناسب لها، حسب الحكمة المقتضية لذلك، وهذا يشمل الأشكال والألوان والطبائع، في كل نوع وفي كل فرد، واعتبر ذلك في خلق الإنسان، ولا يمكن استقصاء ما في خلق الإنسان من التخصيصات؛ فمن ذلك تخصيص كل عضو وكل جزء في موضعه المناسب؛ كيديه ورجليه وعينيه وأذنيه وشفتيه وأنفه ولسانه وقلبه ورأسه وبطنه وفرجه، ومن ذلك تخصيص كلٍّ من نوعي الإنسان الذكر والأنثى بما يناسب طبيعة كل منهما، ويحقق العلاقة بينهما والغاية من تلك العلاقة، واعتبر مبدأ التخصيص في بعض أعضاء الإنسان كيده؛ فإنها تتكون من عضد وذراع وكف وأصابع، ولتلك الأجزاء تخصيصاتٌ في شكلها يهيئ اليد لأداء وظائفها، وخذ مثلا: الكف؛ فإن شكلها وتركيب الأصابع فيها بأجزائها المختلفة الأشكال والأطوال، وهي الأنامل؛ ففي كل إصبع ثلاث أنامل إلا الإبهام، ووضعت الأظفار في أطراف الأصابع مختلفة في طبيعتها عن اللحم المغطي للعظام لوظائف لا تتم إلا بها، بما هي عليه، وتظهر حاجتها ومنافعها لمن فقدها، واعتبر جانب التخصيص أيضا بوضع الأسنان في مواضعها في الفم، واختلاف أشكالها لاختلاف وظائفها، وموضع الشفتين منها، وما في ذلك من جمال الخِلقة، كل ذلك يدل على أن الفاعل يفعل بإرادة لا بعشوائية، بل بإرادة وحكمة، وهي وضع الأمور في مواضعها، وعبر عن ذلك بعض المتكلمين، فقالوا: “والتخصيص يدل على الإرادة”، فالإرادة مع الحكمة تؤدي إلى وضع كل ما يلزم للصنعة في موضعه، وخذ مثالا على ذلك من صناعة الإنسان؛ كالسيارة والعمارة، تجد أن كل جزء في الآلة أو البناء له موضع يختص به لا يليق بغيره مما يُعلم به أن الصانع أو المهندس له خبرة وإرادة، ويتصرف بحكمة، ولله المثل الأعلى. والله أعلم. 

وبهذه المناسبة أذكر أن الأشاعرة لما كانوا يعولون فيما يثبتونه من صفات الله على العقل، قالوا: إن الصفات السبع دل عليها العقل، فأثبتوها بهذه الطريقة، فقالوا: الفعل الحادث يدل على القدرة، والإحكام يدل على العلم، والتخصيص يدل على الإرادة، وقد سبق تطبيق ذلك في مخلوقات الله إجمالا مع بعض التفصيل، وفي بعض مصنوعات الإنسان، قالوا: وهذا الصفات الثلاث (القدرة والعلم والإرادة) تستلزم الحياة، إذ لا تعقل إلا في حيٍّ، والحيُّ لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك، وبالضرورة أن الله منزه عن ضد ذلك، فوجب أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا [2] ، والأشاعرة مصيبون في هذا الاستدلال، ولكنهم مخطئون في أمرين؛ أحدهما: حصر الطريق في إثبات صفات الله على دلالة العقل، فأعرضوا عن دلالة السمع. الثاني: حصر دلالة العقل في هذه الصفات السبع، مع إمكان إثبات صفات أخرى بدليل عقلي هو من جنس ما أثبتوا به الصفات السبع. 

وزيادة في إيضاح دلالات الخلق على الخالق سبحانه وعلى صفاته نضرب مثلا بوردة من شجر الطيب المعروف بالورد؛ فإنها في غاية من الجمال بشكلها البديع ولونها الأحمر وعطرها الفوَّاح، وطبقاتها الرقيقة المختلفة الألوان والأطوال، فإنها من آيات الله العظيمة، تستنطق العاقل بالتسبيح لمبدعها؛ لأنها مشتملة على كل دلالات العقل؛ على صانعها، وعلى كمال قدرته وعلمه وحكمته، وتمام مشيئته، ومن شعر الحكمة في هذا قول الشاعر: 

تأمَّلْ في نباتِ الأرض وانظرْ  *  *  إلى آثارِ ما صنعَ المليكُ

عيونٌ مِن لجين شاخصاتٌ  *  *  بأحداق هي الذهبُ السَّبيكُ

على قُضُب الزبرجد شاهداتٌ *  *  بأنَّ الله ليس له شريكُ [3]

وقال آخر:

تأمَّلْ سطور الكائنات فإنَّها  *  *  مِن الملك الأعلى إليكَ رسائلُ

وقد خُطَّ فيها لو تأملتَ خطَّها  *  *   ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطلُ [4]

وإذا قال الملحد: إن الذي فعل ذلك هو الطبيعة، قلنا: هذه الطبيعة التي تزعم، أهي شيء قائم بنفسه خارجٌ عن هذه الوردة، أم هي نفسها؟ فإن قلتَ بالثاني، فقد زعمت أن الشيء المعدوم يصنع نفسه، وهذا باطل بالضرورة، وإن قلتَ بالأول -وقد قررنا أن هذا الفاعل لا بد أن يكون ذا قدرة وإرادة وعلم وحكمة- كما تقول في صانع السيارة وباني العمارة؛ فقد قطعت حينئذ أكثر من نصف الطريق إلى ما ندعوك إليه، فنحن نسمي صانع هذه الأشياء: الله والرب والخالق، وأنت تسميه طبيعة، ويجب ضرورةً أن يكون الصانع لكل شيء خالقًا غيرَ مخلوق، بل هو واجب الوجود تنتهي إليه جميع المخلوقات، وإلا لزم التسلسل الممتنع بضرورة العقل، الذي يُعبَّـر عنه بتسلسل العلل والمعلولات، أو الفاعلين والمفعولين، أو الخالقين والمخلوقين. [5]  

وبعد؛ فيجب أن يُعلم أن كلَّ ملحدٍ جاحدٍ للخالق، فهو إما معاند أو فاسد العقل، أو مقلد سَلَّم قياده لمن يقوده ويورده مورد الهلاك، فهو إن فكَّر؛ فكَّر بعقل غيره ممن يحسن به الظن، فهؤلاء الملاحدة بين مستكبر طاغوت وطغام، كالبهائم السائمة، وهم من خُلِقوا لجهنم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، وهذه قسمةٌ جاريةٌ في جميع أمم الكفر، فهم بين: إمام متبوع ومقلد مخدوع، يقودونهم إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى في فرعون وملئه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[هود:98]، وفي القرآن آيات كثيرة تصف أحوال التابعين والمتبوعين من الكافرين، وما يجري بينهم يوم القيامة من تلاعن وتلاوم وحِجاج، بل يكون هذا وَهُمْ في جهنم، كما في سورة البقرة والأعراف وإبراهيم والأحزاب وسبأ والمؤمن إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166].

وبعد؛ فمَنْ مَنَّ اللهُ عليه بالإيمان، وحببه إليه، وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان؛ فليشكر الله على فضله ونعمته، وليتعاهد إيمانه بأسباب الثبات، وليسق شجرة الإيمان في قلبه بماء الحياة، والأمر كله لله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27].

وإليك أيها الموَّفق بعض أسباب الثبات على الإيمان: 

1- التفكر في آيات الله الكونية، وهي المخلوقات، وهي آياته سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، ولقد أثنى الله على المتفكرين في آياته، وندب إلى النظر-وهو التفكر- قال تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف:185] أي من الآيات، والمقصود هو التفكر في دلالاتها، لا في مجرد طبيعتها وتراكيبها ومنافعها وتأثيراتها وتأثُّرها، فالوقوف بالفكر عند هذه الجوانب لا يهدي إلى الحق شيئا، كما هي حال الكفار الذين أبدعوا في العلوم التجريبية، فبلغوا مبلغًا خياليًا مذهلًا، فلم يهتدوا بهذا الفكر سبيلًا، ولم يرتقوا عن حال بهيمة الأنعام التي لا تدرك مبدأ وجودها، ولا الغاية من وجودها، بل هم أضل منها، وقفت أفكارهم عند ظواهر الحياة الدنيا ومتاعها، ففرحوا بها، وما هي إلا متاع قليل، يؤول إلى زوال واضمحلال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا[النساء:77]، وقال تعالى: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ[الرعد:26] فتفكُّر المؤمن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وفي الشمس والقمر؛ يرسخ إيمانه، ويزيد في إيمانه، فينطق بالتسبيح والتقديس لخالق هذا الوجود كلما تفكر، كما قال تعالى عن المتفكرين في خلق السماوات والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] ولطلب المزيد في شواهد الآيات الكونية يرجع إلى كتابي: “مفتاح دار السعادة” [6] و”التبيان في أقسام القرآن” [7] للإمام ابن القيم رحمه الله.

ومن المؤسف أن كثيرًا من المسلمين إذا نظروا إلى ما في الكون من جمال الخلق وعجيب الصنع كان همهم الفرجة وإمتاع النفس بما يسمونه المناظر الطبيعية، فلا يذكرون الله إلا قليلًا.

2- ومن أسباب الثبات: التدبر لآيات القرآن، وما تشتمل عليه من حِكَم وأحكام وعلوم يَعرف بها الإنسانُ ربَّه وطريقه في الحياة ومصيره ومبدأه وسر وجوده، ويعرف بها سنن الله في خلقه، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتدبر لآيات القرآن هو من الغايات في إنزاله، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص:29]، فدل القرآن على أن التفكر في الآيات الكونية والتدبر للآيات القرآنية والتذكر بها شأنُ أولي الألباب، أي العقول الزكية، وقد ذم الله تعالى المعرضين عن تدبر القرآن، قال تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68] وقال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، فالتدبر للقرآن يزيد الإيمان، كما قال تعالى في نعت المؤمنين وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

3- ومن أسباب الثبات: التوجه إلى الله بسؤال الثبات على الدين والعصمة من الزيغ، كما كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: يا مقلبَ القلوب ثبتْ قلبي على دينك [8] ، ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك [9] ، وأخبر سبحانه أن الراسخين في العلم يقولون: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران:8]، فالدعاء من أعظم الأسباب لجلب المنافع ودفع المضار، لأن الأمر كله لله، وبيده الملك، وبيده الخير سبحانه وتعالى، وهو المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأهمية الدعاء بحسب أهمية المطلوب، وسؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم والثبات على الإيمان أهم المطالب، ولذا تضمنت سورة الفاتحة هذا الدعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة، وقراءتها فرض في كل ركعة من الصلاة فرضها ونفلها، فعلم بذلك شأن هذا الدعاء.

4- ومن أسباب الثبات: مصاحبة الصالحين الصادقين في إيمانهم، كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119] وفي الحديث الصحيح: مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة [10] ، وقال صلى الله عليه وسلم: لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي [11] ، ومن شعر الحكم: 

ما عاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسه… والمرءُ يُصلحه الجليسُ الصالحُ [12] .

5- ومن أسباب الثبات على الإيمان: ملازمة الطاعات بالمحافظة على الفرائض، والإكثار من نوافل العبادات، قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68] ، وتمام ذلك باجتناب كبائر الإثم والفواحش، وبالتوبة إلى الله من جميع الذنوب والسيئات، ولا يتم ذلك إلا بأن يغلق الإنسان عن نفسه أبواب الشر التي تنفث من سموم الشبهات والشهوات ما يزلزل أو يزيل الإيمان من القلوب، وقد عظمت المحنة في هذا العصر واشتدت الفتنة بوسائل الإعلام من القنوات والإذاعات والصحف والمجلات، فمن عزَّت عليه نفسه، وأراد لها النجاة فليغلق هذه الأبواب عن نفسه، ولا يكون فريسة لشياطين الإنس والجن القائمين على وسائل الفساد والإفساد.

ولقد قال أهل السنة عن الإيمان: إنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ومن أعظم العبادات الجالبة للثبات وزيادة الإيمان الإكثار من ذكر الله، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وأعظم الذكر وأفضله وأجمعه: تلاوة القرآن بتدبر وإخلاص، فقد تضمن القرآن التعريف بجميع أسباب الثبات على الإيمان وزيادته، والإرشاد إليها، فالخير كله في تدبر القرآن والعمل به، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، قال تعالى يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:57-58]، وأعظم الفرائض أثرا في الثبات وزيادة الإيمان الصلوات الخمس،  اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت:45]، ولذا سمى الله الصلاة إيمانا في قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ[البقرة:143]، نسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أملاه:

عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك

في 9 رمضان 1433هـ

 


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 اختلف في قائل هذا البيت فنسب لأبي العتاهية، وقيل لأبي نواس وقيل لابن المعتز وقيل غير ذلك. ينظر: الأغاني -ت سمير جابر- (4/39)، ووفيات الأعيان (7/138)، وتفسير ابن كثير (1/133).
2 ينظر: التدمرية (ص33)، وبشرح شيخنا (ص150).
3 . نسبت لأبي نواس. ينظر: أحسن ما سمعت للثعالبي (ص10)، ومرآة الزمان (13/351).
4 البيتان لركن الدين محمد ابن القوبع بلفظ:

 تأمّل صحيفات الوجود فإنها … من الجانب السامي إليك رسائلُ

وقد خُط فيها إن تأملت خطها … ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ.

ينظر: أعيان العصر (5/163) وأوردهما بهذا اللفظ ابن القيم في مدارج السالكين (4/309) وغيره من كتبه. وعجز البيت الثاني مضمن من قصيدة للبيد بن ربيعة كما في شرح ديوانه- ت إحسان عباس- (ص256).

5 ينظر: منهاج السنة (1/255)، (1/ 436) ودرء تعارض العقل والنقل (1/321)، (2/282).
6 (2/538) وما بعدها.
7 (ص446- 636).
8 أخرجه أحمد (12107)، والترمذي (2140) عن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: ” وفي الباب عن النواس بن سمعان، وأم سلمة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وأبي ذر. وهذا حديث حسن… ” وصححه الضياء في المختارة (2222)، (2224).
9 أخرجه مسلم (2654) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
10 أخرجه البخاري (2101)، (5534)، ومسلم (2628) عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه.
11 أخرجه أحمد (11337) وأبو يعلى (1315)، وصححه ابن حبان (555)، والحاكم -ط الحرمين-(7249).
12 البيت للبيد بن ربيعة العامري. ينظر: الشعر والشعراء (1/69)، (1/267)، وفي ديوانه- ت إحسان عباس- (ص349) بلفظ “الحر الكريم”.