الرئيسية/فتاوى/الراجح في مسألة نسخ القرآن بالسنة
share

الراجح في مسألة نسخ القرآن بالسنة

السؤال :

للعلماء في مسألة نسخ القرآن بالسنة خلاف معروف، ونريد أن نعرف اختيار شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك في هذه المسألة؟

الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، أما بعد:

فالنسخ رفعُ حكمٍ شرعيٍّ ثبت بدليل متقدم بدليل متأخر[1]، والدليل إمَّا كتابٌ أو سنَّة، والنسخ ثابتٌ في الشريعة بإجماع الأمَّة، ولا ينافي ذلك كمال علم الله، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى: مَا ‌نَنْسَخْ ‌مِنْ ‌آيَةٍ ‌أَوْ ‌نُنْسِهَا ‌نَأْتِ ‌بِخَيْرٍ ‌مِنْهَا ‌أَوْ ‌مِثْلِهَا [البقرة: 106]، وقوله: يَمْحُو ‌اللَّهُ ‌مَا ‌يَشَاءُ ‌وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] على أحد وجوه التفسير[2]، وقد أجمع العلماء على نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السُّنَّة بالسُّنَّة[3]، وعلى جواز نسخ السُّنَّة بالقرآن[4]، واختلفوا في جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة، وقد نُقِل الإجماع على امتناع ذلك برواية الآحاد[5]، واختلفوا في المتواتر من السُّنَّة، واشتهر عن الشافعي وأصحابه امتناع نسخ القرآن بالسُّنَّة مطلقًا[6]، وقالوا: لا يجوز عقلًا نسخ القطعيِّ بالظَّنِّيِّ، والمتواترُ من السُّنَّة لا يبلغ درجة القرآن، وذهب الجمهور من العلماء إلى جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة، وأمَّا السُّنَّة المرويَّة بالآحاد فلا يجوز نسخ القرآن بها؛ لأن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظَّنَّ؛ ولا يجوز نسخ القطعيِّ بالظَّنِّيِّ[7].

وذهب فريقٌ من العلماء إلى جواز ذلك، أي: جواز نسخ القرآن برواية الآحاد، ومثَّلوا لذلك بنسخ آية الوصيَّة: كُتِبَ ‌عَلَيْكُمْ ‌إِذَا ‌حَضَرَ ‌أَحَدَكُمُ ‌الْمَوْتُ ‌إِنْ ‌تَرَكَ ‌خَيْرًا ‌الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180]، قالوا: فهي منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وصية لوارث[8] رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه[9]، واعتُرض ذلك بأن الناسخ آيات المواريث، فهو من نسخ القرآن بالقرآن، وقال قومٌ: إنه لا نسخَ؛ لإمكان الجمع بين آية الوصيَّة وآية المواريث، بحمل آية الوصيَّة على غير الوارثين من الوالدين والأقارب؛ فآيات المواريث مخصِّصة لآية الوصيَّة لا ناسخة[10].

فتحصَّل في مسألة نسخ القرآن بالسُّنَّة ثلاثة مذاهب: المنع مطلقًا، وهو مذهب الشافعي، والجواز مطلقًا، وهو لبعض الأئمة؛ كالإمام أحمد في رواية[11]، والثالث: الفرق بين المتواتر والآحاد من السُّنَّة، فيجوز في المتواتر من السُّنَّة دون الآحاد.

والصَّواب – والله أعلم، وهو مقتضى النَّظر والأصول – هو الجواز مطلقًا؛ لأن السُّنَّة وحيٌّ كالقرآن، قال صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه رواه أحمد عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، وإسناده صحيح[12]، وقال تعالى: وَمَا ‌يَنْطِقُ ‌عَنِ ‌الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4]، فما تلقَّته الأمَّة من السُّنَّة بالقبول؛ فأثبَتوا به الأحكام من الحلال والحرام وشرائع الإسلام؛ هو كالقرآن في وجوب العمل به، وقد أمر الله باتِّباع ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم: اتَّبِعُوا ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ [الأعراف: 3]، وأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يتَّبع ما أوحي إليه من ربه: اتَّبِعْ ‌مَا ‌أُوحِيَ ‌إِلَيْكَ ‌مِنْ ‌رَبِّكَ [الأنعام: 106]، ولم أقف على دليل لما ذهب إليه الإمامُ الشَّافعيُّ من امتناع نسخ القرآن بالسُّنَّة الصحيحة وإن كانت متواترة، إلا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو يذهب مذهب الشافعي، وهو قوله تعالى: مَا ‌نَنْسَخْ ‌مِنْ ‌آيَةٍ ‌أَوْ ‌نُنْسِهَا ‌نَأْتِ ‌بِخَيْرٍ ‌مِنْهَا ‌أَوْ ‌مِثْلِهَا [البقرة: 106]، واعتمد شيخ الإسلام على هذه الآية فيما ذهب إليه من عدم نسخ القرآن بالسُّنَّة، وذكر للاستدلال بهذه الآية وجوهًا، وهي ترجع في مجملها إلى أن السُّنَّة ليست خيرًا من القرآن، وقد وعد الله أن يأتي بخير من الآية المنسوخة أو المنساة[13]، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن السُّنَّة وإن لم تكن خيرًا من القرآن فهي مثله، وقد قال تعالى: ‌نَأْتِ ‌بِخَيْرٍ ‌مِنْهَا ‌أَوْ ‌مِثْلِهَا.

وتقدَّم أن أصحاب الأصول لم يذكروا مثالًا لنسخ القرآن إلا آية الوصيَّة، وتقدَّم القول فيها، ونسخ ما لم يثبت تواتره من القرآن كالرضعات العشر[14] وسورة الحَفْد[15]، والأظهر عندي أن هذا لا يدخل في مسألتنا، أعني نسخ القرآن بالسُّنَّة، وكذلك آية الرَّجم؛ إذْ لم يثبت بالتواتر أنها من القرآن، وما جاء عن عمر رضي الله عنه أن الرَّجم في كتاب الله[16]؛ فإنه لم يعيِّن رضي الله عنه الآية المتضمِّنة لحكم الرَّجم، فرجم الزَّاني المحصن إنما ثبت بالسُّنة المتواترة القوليَّة والفعليَّة[17]، وكذلك ما ذكره الأصوليون (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)[18] لم يثبت قرآنًا[19]، ومع ذلك فهي موافقة لما ثبت في السُّنَّة المتواترة من رجم الزاني المحصن، فتبين بهذا جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة الصحيحة؛ لأنها وحيٌّ كالقرآن، وأنه جائز عقلًا وشرعًا؛ إذْ لا دليل يدل على امتناعه، وممَّن ذهب إلى ذلك من المعاصرين شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله[20]. والله أعلم.

 

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 7 شوال 1445هـ

 

[1] ينظر: المستصفى- ت حمزة بن زهير حافظ- (2/35).

[2] روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وابن زيد.  ينظر: تفسير الطبري (13/566-567)، وزاد المسير (2/500).

[3] ينظر: الإحكام للآمدي (3/146)، والبحر المحيط في أصول الفقه (5/259).

[4] ينظر: العدة في أصول الفقه  (3/802)، والمسوَّدة في أصول الفقه (ص205).

[5] ينظر: قواطع الأدلة (1/450)، والبحر المحيط (5/260).

[6] ينظر: الرسالة (ص106)، والبحر المحيط (5/262).

[7] ينظر: البحر المحيط (5/259)، (5/261).

[8]. ينظر: المعتمد (1/399)، والمحصول (3/335).

[9] أخرجه أحمد (22294)، وأبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه النسائي (3641) من حديث عمر بن خارجة رضي الله عنه، وجاء عن جماعة من الصحابة؛ لذا جنح الشافعي في الأم (4/ 114)، والرسالة (ص 139) إلى أنه متواتر. ينظر: إرواء الغليل (1655)، ونظم المتناثر (189).

[10] ينظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص88)، وتفسير الطبري (3/124) وما بعدها.

[11] ذكرها عنه ابن عقيل في الواضح في أصول الفقه لابن عقيل (4/259). وهو قول ابن حزم في الإحكام (4/107).

[12] أخرجه أحمد (17174)- واللفظ له- وأبو داود (4604)، وصححه ابن حبان (12)، والألباني في الصحيحة (‌‌2870).

[13] ينظر: جواب أهل العلم والإيمان -ت عبد العزيز ندا- (ص232-235)، ومجموع الفتاوى (20/397).

[14] أخرج مسلم (1452) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان فيما أُنزل من القرآن: “عشر ‌رضعات معلومات يحرمن”، ثم نسخن بـ “خمس معلومات”، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يُقرأ من القرآن”. قال النووي: ” ومعناه أن النسخ بخمس ‌رضعات تأخر إنزاله جدًّا حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ: “خمس ‌رضعات” ويجعلها قرآنًا متلوًا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده ” شرح مسلم (10/29).

[15] مأخوذ من قوله في الدعاء: “وإليك نسعى ونحفد”، ومعها سورة الخلع، وتسميان سورتي القنوت. ينظر: الانتصار للباقلاني (1/267)، والإتقان (2/423-426)، والدر المنثور (8/695).

[16] أخرجه البخاري (6829)، (6830)، ومسلم (1691).

[17] ينظر: نظم المتناثر (181)، (182)، والمغني (12/309).

[18] أخرجه أحمد (21596)، والنسائي في الكبرى (7107) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأخرجه النسائي في الكبرى (7118)، وابن ماجه (2553) من حديث عمر رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4428)، والحاكم (3554) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. وينظر: فتح الباري (12/143)، والصحيحة (‌‌2913).

[19] ينظر على سبيل المثال: أصول السرخسي (2/71)، وقواطع الأدلة (1/455)، والإحكام للآمدي (3/135-154).

[20] ينظر: مذكرة في أصول الفقه (ص128)، وأضواء البيان (3/438).