الرئيسية/فتاوى/مسائل عن شرك المشركين الأولين وضابط العبادة وضابط دعاء الأموات المكفر
share

مسائل عن شرك المشركين الأولين وضابط العبادة وضابط دعاء الأموات المكفر

السؤال :

بسم الله الرحمن الرحيم

شيخنا الجليل عبد الرَّحمن بن ناصر البرَّاك -حفظه الله وسدَّده ونفع بعلومه-:

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

عندنا في البلد أحد المشايخ درَس على اثنين من كبار مشايخ الدعوة السلفية في اليمن والقصيم؛ ثم استقرَّ به المقام في بلد؛ وله دروس وكتابات ومحاضرات؛ يُقرِّر فيها تقريرات تخالف ما عرفناه من العقيدة السلفية.

ومن ذلك قوله في بعض كتبه: “واختلف المعاصرون المنتسبون لأهل السُّنة: هل المشركون الأوائل مشركون في الربوبية أو لا؟ فقال الجمهور -وهم الأشاعرة والماتريدية والحنابلة غير السلفيين المعاصرين -: مشركون في الربوبية. وقال السلفيون المعاصرون -وهم أتباع الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب ومَن تأثر بقولهم-: المشركون الأوائل كلهم أو أكثرهم غير مشركين في الربوبية. والصَّواب: قول الجمهور”.

      وقال أيضًا: “وأمَّا الضَّابط المستقيم للعبادة فهو: التذلل المبنيُّ على اعتقاد الربوبيَّة؛ لأنَّه تعريفٌ يتضمَّن ذكر علَّة العبادة مع سهولته ووضوحه. وفائدة هذا التعريف: التفريق بين العبادة وما يشابهها، وهذا التعريف يتضمَّن معنيين: منطوق ومفهوم؛ فالمنطوق: هو التذلل المبني على اعتقاد الربوبية عبادة. والمفهوم: هو التذلل المجرد عن اعتقاد الربوبيَّة ليس بعبادة”.

     وقال أيضًا: “اختلف المعاصرون المنتسبون لأهل السُّنَّة في حكم دعاء الأموات والأحياء الغائبين: هل هو شرك أكبر بالإطلاق أو فيه تفصيل؟ وإذا كان فيه تفصيل فمتى يكون شركًا أكبر ومتى لا يكون؟ فقال الجمهور – وهم الأشاعرة والماتريدية والحنابلة غير السلفيين المعاصرين -: ليس شركًا أكبر بالإطلاق، بل فيه تفصيل. وقال السلفيون المعاصرون -وهم أتباع الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب ومَن تأثر بقولهم-: شرك أكبر بالإطلاق. والصَّواب: قول الجمهور”.

فهذه أشهر المسائل التي يقررها الرجل في محاضراته وكتبه ومنشوراته، وقد نقلتها لكم بنصِّها من أحد كتبه.

     أفيدونا بالجواب عن هذه المسائل رجاء الثَّواب، وبيان الصَّواب، وبيِّنوا طريق الحقِّ بالدَّليل والتَّعليل، ضاعف الله لنا ولكم الأجور، ووقانا وإيَّاكم الفتن والشرور.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأقول: الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، أما بعد:

أولا: الجواب عن قول المذكور: “واختلف المعاصرون المنتسبون لأهل السُّنة” إلخ، أقول: إن المشركين الذين بُعث فيهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا مُقرِّين بأن الله خالقُ السماوات والأرض، ومسخِّرُ الشمس والقمر، ومنزِّل المطر فيحيي به الأرض بعد موتها، كما في سورة العنكبوت[1]، وأنَّ السماوات والأرض ملكٌ لله، بل بيده تعالى ملكوت كل شيء، كما في سورة “المؤمنون”[2]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المصرِّحة بإقرار المشركين بالربوبية لله، ولكن الشرك الظاهر هو شركهم في الإلهية، حتى إنهم يعجبون من دعوى أن الإله واحد، كما قال تعالى عن الكفار: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، وقوله: إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]، وهم في ذلك على سبيل الأمم الماضية؛ كقوم نوح وعاد وثمود، ولكنهم – أعني المشركين – مع إقرارهم بالربوبيَّة لله قد يشركون في الربوبيَّة في بعض الأشياء، كنسبة المطر إلى الكواكب، فيقولون: مُطرنا بنوء كذا، كما جاء في الحديث الصحيح[3]، وقومُ هود قالوا لنبيِّهم: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ[هود:54]، وهذا قدْرٌ يسيرٌ من الشرك في الربوبيَّة في جانب ما يُقرون به؛ فإطلاق القول بأنهم مشركون في الربوبيَّة مناقضٌ لما صرَّح به القرآن، لكن لو قال قائل: إنهم قد يشركون في الربوبيَّة في بعض الأشياء، لكان صحيحًا؛ لما تقدم. والله أعلم.

ثانيا: الجواب عن قول المذكور: ” وأمَّا الضَّابط المستقيم للعبادة فهو: التذلل المبنيُّ” إلخ، أقول: إن ضابط العبادة يرجع إلى ثلاثة أمور: اللغة، والشرع، والعقل، وأقول: إن العبادة هي التذلل للرَّبِّ الذي بيده النفع والضُّرُّ، والعطاء والمنع؛ فإن هذا موجَب العقل، ولهذا ناقض المشركون العقل بعبادة ما لا ينفع وما لا يضرُّ، ولذا خاصمهم إبراهيم عليه السلام في ذلك[4]، ولا بد أن تكون العبادة بما شرع الله، فاجتمع بذلك في العبادة الأمورُ الثلاثة: موجَبُ العقل والشرع واللغة، ولهذا قال أهل السنة: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد العبادة، وتوحيد العبادة يتضمَّن توحيد الربوبيَّة[5]، فعبادة المشركين ليس فيها من معنى العبادة إلا المعنى اللغوي[6]؛ فإن عبادتهم مناقضة للعقل والشرع، فما قاله المذكور من اقتضاء العبادة الإقرار بالربوبيَّة حقٌّ، بل لا تتحقق العبادة إلا بذلك شرعًا وعقلًا، قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، وقال سبحانه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[يونس:3]، وقال تعالى عن صاحب يس: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22]، فمن يعبد من لا يخلق ولا يرزق ولا يغني عن عابده شيئًا فهو أضلُّ الناس، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ[الأحقاف:5]، وقال تعالى عن صاحب يس: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) [يس:23-24]، فهذا ضلالٌ عن الحقِّ شرعًا وعقلًا، وهذا واقع المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وتناقضوا؛ فلذا كان إقرارُهم بالربوبيَّة لله حجَّةً عليهم في عبادة غير الله؛ فإنهم بشركهم سوَّوا بين العبد والرَّبِّ، والخالق والمخلوق، والمالك والمملوك، فكانوا بذلك أسفه الناس. والله أعلم.

ثالثا: الجواب عن المذكور: “اختلف المعاصرون المنتسبون لأهل السُّنَّة في حكم دعاء الأموات” إلخ، أقول:

أولا: أما قوله: “إن دعاء الأموات والغائبين ليس شركًا على الإطلاق، بل فيه تفصيل”، أقول: هذا صحيح، لكن دعوى أن هذا قول الأشاعرة، فأنا لا أعرف مذهب الأشاعرة في هذا، وتحتاج نسبة ذلك إليهم إلى نقل بعض نصوصهم، فالمخبر عنهم لم يزد على الدعوى، وكذلك نسبة القول بأن ذلك شرك أكبر بإطلاق إلى أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، غير صحيحة، بل هم يفرقون في دعاء الغائبين بين من يدعو الغائب على وجه الاستحضار المعروف في اللغة العربية، كقول المسلم: عليك صلاة الله وسلامه يا رسول الله، وكما جاء في التشهد: «السلام عليك أيُّها النبي»[7]، [8]؛ فإن هذا لا يطلب من الميت حاجة، ولا يعتقد أنه يسمعه مع البُعد، وكذلك في دعاء الميت أو الأموات؛ فإنهم يفرقون بين من يدعو الميت ويطلب قضاء الحوائج، ويستغيث بالأموات في الشدائد، فذلك عندهم شركٌ أكبرُ[9]، وأما من يدعو الميت لاعتقاد أنه يسمعه، ويسلِّم عليه باسمه؛ لاعتقاد أنه يسمعه وهو مع ذلك لا يتقرب إليه بشيء من أنواع العبادة من ذبح ولا سجود، ولا يطلب منه قضاء الحوائج؛ من رزق، ونصر على الأعداء، وتفريج للكروب، ومغفرة للذنوب، فبعضهم قد يطلق عليه شركًا أكبر، ويقول آخرون: هو بدعة ووسيلة إلى الشرك، والراجح عندهم هو الثاني، أعني أنه وسيلة[10]، وأما الشرك الأكبر عندهم الذي لا يختلفون فيه، فهو صرفُ أيِّ نوع من أنواع العبادة لغير الله من حيٍّ أو ميِّتٍ أو جمادٍ، كشرك أهل الجاهلية، وأما الدعاء فليس هو بمجرَّده عبادة، بل قد يكون عبادة، وقد لا يكون عبادة، فإنْ تضمَّن طلب قضاء الحوائج، فإنه يتضمَّن الشرك في الربوبية والشرك في العبادة.

     فعلم ممَّا تقدم أن صاحب الكلام المذكور ليس عنده إلا مجرد الدعوى فيما يثبته وينفيه؛ إذْ لم يذكر دليلًا على ما نسبه إلى الناس، فتبيَّن أن الصواب هو التفصيل في حكم دعاء الأموات والغائبين. والله أعلم.

أملاه:

عبد الرحمن بن ناصر البراك

17 رمضان 1445هـ

[1] يشير شيخنا لقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ ‌يَبْسُطُ ‌الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣) ﴾ [العنكبوت: 61-63].

[2]يشير شيخنا لقوله تعالى:  ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ‌يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) ﴾ [المؤمنون: 84-89].

[3] أخرجه البخاري (1038)، ومسلم (71) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.

[4] يشير شيخنا لقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ ‌لِمَ ‌تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) ﴾ [مريم: 42].

[5] ينظر على سبيل المثال: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/40)، (1/41)، ودعوة التوحيد لمحمد خليل هراس (ص72)، والكواشف الجلية عن معاني الواسطية (ص421).

[6] وهو الذل والخضوع. ينظر: مقاييس اللغة (4/205)، وتاج العروس (8/330).

[7] أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وهو حديث متواتر، جاء عن جمع من الصحابة. ينظر: نظم المتناثر (76)، وأصل صفة صلاة النبي للألباني (3/870).

[8] ينظر: الدرر السنية (2/191)، (10/226).

[9] ينظر: تيسير العزيز الحميد (1/405)، والكشف من مقاصد أبواب ومسائل كتاب التوحيد لشيخنا (ص293).

[10] ينظر: منهاج التأسيس (ص180). وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام في: التوسل والوسيلة (ص43-44)، (ص289)، (ص207)، (ص226)، ومجموع الفتاوى (27/72). ويقارن بـ: اقتضاء الصراط المستقيم (2/224)، (2/304-305).

ولشيخنا فتوى في الموقع الرسمي بعنوان: ” توجيه كلام شيخ الإسلام فيمن يسأل الميت الدعاء عند قبره”.