الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، أما بعد:
فإن من خصائص صلاة الجمعة وفضائلها استحبابَ التبكير والسعيِ إليها من أول النهار، وعَدلَ ذلك بالقرابين من بهيمة الأنعام وغيرها، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم[1] وغيرهم.
وقد اختلف العلماء في هذه الساعات، فذهب الجمهور إلى أنها من أول النهار[2]. ثم اختلفوا في أول النهار؛ فقال كثيرون: إنه من ارتفاع الشمس، وقال آخرون: بل من طلوع الفجر[3]، حتى إنَّ منهم من يصلي الفجر ثم ينتظر الجمعة، وذهب الإمام مالك -رحمه الله- في المشهور عنه إلى أن هذه الساعات كلها بعد الزوال[4]، وأشهر ما استَدلَّ به مالكٌ لفظ “الرواح”[5]؛ فإنه في اللغة الذهاب بعد الزوال[6]، ومذهب مالك -رحمه الله- يخالف ظاهر الحديث وسياقه؛ فإنه إذا زالت الشمس حضرت الملائكة لاستماع الذكر، وتركوا كتابة السَّاعين إلى الجمعة الأول فالأول، وأما لفظ “الرواح” فإنه لا يختص بالذهاب بعد الزوال، بل يطلق في أيِّ وقت مرادًا به الليل أو النهار، وقد حرَّر ابن القيم المذاهب في هذه المسألة في كتابه “زاد المعاد”، وناقش أدلة الإمام مالك بما لا تجده عند غيره رحمه الله[7].
ولاريب أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور، وأن هذه الساعات تبدأ أول النهار، وأن أول النهارِ طلوعُ الفجر الذي جعله الله مبدأ للصيام، قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187]؛ فهذا هو اليوم الشرعيُّ الذي تتعلق به الأحكام الشرعيَّة: من صيام واعتكاف وسعي إلى الجمعة، فعلى هذا فتُعرف الساعات المذكورة في الحديث بقسمة الوقت من طلوع الفجر إلى الزوال، فمن أراد الفضل والساعة الأولى من أولها فليصلِّ الفجر في الجامع، ثم ينتظر الجمعة، وليذكر أنه لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة، وأن الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه[8]، فهو على خير وغنيمة، ولو طال به الوقت، نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وما يقرب إليه من الأقوال والأعمال، وصلى الله وسلم على محمد.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 23 شوال 1445هـ
[1] أخرجه مالك في الموطأ – ت الأعظمي- (334/ 100)- واللفظ له-، والبخاري (881)، ومسلم (850).
[2] ينظر: الاستذكار (2/6)، والمغني (3/164).
[3] ينظر: المجموع شرح المهذب (4/540).
[4] ينظر: الجامع لمسائل المدونة (3/871-872)، والنوادر والزيادات (1/465).
[5] ينظر: الاستذكار (2/7)، والبيان والتحصيل (1/390-391).
[6] ينظر: لسان العرب (2/464).
[7] ينظر: زاد المعاد (1/493).
[8] أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.