الرئيسية/فتاوى/تحرير قول شيخ الإسلام ابن تيمية في سؤال الحي للميت الدعاء أو الشفاعة
share

تحرير قول شيخ الإسلام ابن تيمية في سؤال الحي للميت الدعاء أو الشفاعة

السؤال :

فضيلة شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن براك البراك نفع الله بك وأطال على الخير بقاءك: السلام عليكم ورحمة الله، وقد أشكل عليَّ تحرير قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في سؤال الحيِّ للميت الدعاء أو الشفاعة؛ كأن يقول مخاطبًا الميت: “ادع لي”، وما وقفت عليه في ذلك مختلف بين البدعية والشرك في كلام الشيخ؛ فقد قال في “قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق” (١٣5): “والمقصود هنا التنبيه على أن الشرك أنواع: فنوع منه يتخذونهم شفعاء، يطلبون منهم الشفاعة والدعاء من الموتى والغائبين، ومن تماثيلهم”. اهـ

وقال في “مجموع الفتاوى” (١/٣٥١): “الثانية أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها، فهذا أيضًا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة، وإن كان السلام على أهل القبور جائزًا، ومخاطبتهم جائزة” اهـ.

وقال في موضع آخر (١/٣٥٤): “ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يُشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء؛ فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى، فدعاء الميت نفسِه أولى ألَّا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبلَه؛ فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى. فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئًا: لا يطلب منه أن يدعو الله له، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يُشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته؛ فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك، وهذا يفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلَّفٌ أن يجيب سؤال من سأله؛ لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفًا” اهـ[1].

فما قولكم في ذلك؟ حفظكم الله.

 

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فقبل التعرُّض لما ذُكر من أقوال شيخ الإسلام لا بدَّ أن نعرِّف ضابط الشرك الأكبر مستنبطًا من القرآن، والشرك الأصغر مستنبطًا من السنة؛ فأمَّا الشرك الأكبر فهو عبادة غير الله بأيِّ نوع من أنواع العبادة، أو قل: اتخاذ إله مع الله، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا[النساء: 36]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء: 23]، وقال: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ[الزمر: 64]، وقال سبحانه: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)[النحل: 51]، وقال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)[البقرة: 163]، وقال سبحانه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)[الزمر: 66]، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)[الشعراء: 70-71]، وقال تعالى عن إبراهيم أيضًا: مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)[الصافات: 85-86]، وقال سبحانه: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ[الأحقاف: 28]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)[الذاريات: 56]، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل: 36]، وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)[الزمر: 17].

فدلَّت هذه الآية على أن مدار التوحيد والشرك على العبادة؛ فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، أي: عبادته وحده، والشرك عبادة غير الله، وهو اتخاذ إلهٍ، أي: معبود مع الله، ومَن عبد مع الله غيره فقد اتخذه ندًّا لله، ولهذا قال تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) [البقرة: 22]، وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ[البقرة: 165]، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له: أيُّ الذنب أعظم؟ قال: ‏‏أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك[2]، فالتوحيد هو موجَب العقل والشرع والفطرة، والشرك نقيض ذلك كلِّه؛ فلذا كان التوحيد أوجب الواجبات، والشرك أقبح المحرمات، وأظلم الظلم.

ولهذا الشرك ثلاث خصائص، أعني الشرك الأكبر:

الأولى: أنه لا يُغفر، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ[النساء: 48].

الثانية: أنه يحبط العمل، قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر: 65]، وقال: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام: 88].

الثالثة: أنه يوجب الخلود في النار، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة: 6]، وقال سبحانه: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا[الإسراء: 39]؛ أي: مُبْعَدًا[3]، وغاية الإبعاد الخلود في النار.

وأما الشرك الأصغر فضابطه أنه كل ما ورد في السنة تسميته شركًا ولم يبلغ حدَّ الشرك الأكبر؛ كالحلف بغير الله، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: مَن حلفَ بغيرِ الله فقد كفرَ أو أشركَ رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر[4]، وقوله صلى لله عليه وسلم للرجل الذي قال له: ما شاء الله وشئت: قال أجعلتني لله ندًّا، بل ما شاء الله وحده رواه أحمد وغيره[5]، ونصَّ -صلى الله عليه وسلم- على أن من الشرك أصغر في قوله: أخوفُ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه، فقال: الرياء رواه الإمام أحمد عن محمود بن لَبيد رضي الله عنه[6]، وقد قال العلماء: إنه يسير الرياء، لا رياء المنافقين؛ فإنه رياءٌ في أصل الإيمان وفرائض الإسلام[7]، ومن العلماء من يقول: كلُّ ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر فهو شرك أصغر[8]؛ كتحرِّي الدعاء أو الصلاة عند بعض القبور.

وتقدَّم ما يدل على الفرق في حكم الدنيا والآخرة بين الشرك الأصغر والأكبر، بما ذُكِر من خصائص الشرك الأكبر.

إذا عُلِم هذا فما ذُكر من أقوال شيخ الإسلام فالأمر فيها كما قال السائل: لا تخلو من إشكال؛ إذْ يدل بعضها على أن دعاء الأموات شركٌ، وفي بعضها أنه بدعة ووسيلة إلى الشرك، والمتدبر لكلام الشيخ رحمه الله يدرك أن الشرك ما تضمَّن طلب الحوائج من الأموات؛ كالنصر على الأعداء، ومغفرة الذنوب، والنجاة من النار، وطلب المريض الشِّفاء، وأما ما هو بدعة فهو طلب سؤال الميت الدعاء، بناءً على أن الميت يسمع، ولا سيما أن الميت يسمع سلام المسلِّم، وقد يردُّ عليه، كما في الحديث: ما مِن رجلٍ يمرُّ بقبرِ الرَّجل كانَ يعرفهُ في الدنيا، فيسلمُ عليه، إلا ردَّ الله عليه روحهُ حتى يردّ عليه السَّلام رواه ابن عبد البر في “الاستذكار”[9].

فهذا النوع من دعاء الميت، وهو سؤاله الدعاء لا غير، ومنه سؤال الاستغفار من غير أن يفعل شيئًا من الأعمال التعبدية، فهذا عند الشيخ بدعة، وليس بشرك، والفرق بين النوعين ظاهر؛ فإن الأول يتضمَّن الشرك في العبادة والشرك في الربوبيَّة، هذا ما ظهر لي[10]، وما فهمتُه من كلام شيخ الإسلام رحمه الله[11]، والله أعلم.

 

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 19 ذي القعدة 1445هـ

 

[1] والنقلان من التوسل والوسيلة- ط الأرناؤوط- (ص226-227)، (ص229).

[2] أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[3] ينظر: المفردات في غريب القرآن (ص308).

[4] أخرجه أحمد (6072)، وأبو داود (3251)، والترمذي (1535) –واللفظ له-، وحسنه، وصححه ابن حبان (4358). وينظر: البدر المنير  (9/458)، وإرواء الغليل (2561).

[5] أخرجه أحمد (1839)، والبخاري في الأدب المفرد (783)، والنسائي في الكبرى (10759)، وعمل اليوم والليلة (988) بنحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث حسَّن إسناده الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (4/1784رقم 2828)، والألباني في الصحيحة (139).

[6] أخرجه أحمد (23630)، (23636)، والبيهقي في شعب الإيمان (6412) عن محمود بن لَبيد مرفوعًا. وأخرجه الطبراني في الكبير (4301) عن محمود بن لَبيد عن رافع بن خديج وللحديث شواهد. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (رقم 47) “رواه أحمد بإسناد جيد”، وحسَّن إسناده ابن حجر في بلوغ المرام (1484).

[7] ينظر: مدارج السالكين (1/530)، والدرر السنية (1/199) (10/378) (11/495). وقد جاء في سنن ابن ماجه (3989) من حديث معاذ مرفوعًا “إن يسير الرياء شرك”، وفي المعجم الكبير (53) بلفظ: “إن أدنى الرياء شرك” بإسناد ضعيف. ينظر: الضعيفة (2975).

[8] ينظر: القول السديد في مقاصد التوحيد للسعدي (ص54).

[9] أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 185) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وصححه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (2/ 152 – 153)، وتعقبه ابن رجب في أهوال القبور (ص141) فقال: “منكر”، وينظر: السلسلة الضعيفة (4493).

[10] ينظر: التوسل والوسيلة (ص43-44)، (ص207)، (ص226-227)، (ص229)، ومجموع الفتاوى (27/72).

[11] ولشيخنا –حفظه الله- فتوى في الموقع الرسمي في هذه المسألة بعنوان: “توجيه كلام شيخ الإسلام فيمن يسأل الميت الدعاء عند قبره”.