وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأقول في الجواب: الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، أما بعد:
فجواب هذه المسألة معلوم، وحكم هذه القضية محسوم؛ لأنها من ضروريَّات الدين؛ لأن القرآن فيها صريحٌ في خلود الكافرين في النار مع التأبيد، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء: 168-169]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب:64-65]، وهذه في الأتباع، فكيف بالمتبوعين؟! وهذا مما أجمع عليه المسلمون على اختلاف الطوائف، فلا أعلم أن من طوائف المسلمين من حكم بخروج بعض طوائف الكافرين من النار. دعْ عنك القول بفناء النار؛ فإنه قولٌ لا يعوَّل عليه، وليس فيه تسليةٌ للكافرين، مع تضافر آيات القرآن بما يدلُّ على خلافه[1]، وانظر تحرير ذلك في كتاب شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب”[2]، وقد قرر ذلك في تفسير قوله تعالى خطابًا للإنس والجن: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام:128]، وفي هذا المقام يجب أن نستحضر أنَّ من آيات القرآن ما هو محكم وما هو متشابه، وكذلك السُّنة، حسب التفسير المعتمد أن المحكم هو الواضح البيِّن، والمتشابه هو المشتبه المحتمل[3]، والمقرَّر عند أهل السنة وجوب ردِّ المتشابه إلى المحكم.
والآيات التي تدل على خلود جميع الكافرين في جهنم هي المحكم، وما خالفها ظاهرُه هو المتشابه، فقوله تعالى في شأن الكفَّار: خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام:128]، وقوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107] هو من المتشابه الذي ردَّه أهل العلم إلى النصوص المطلقة الدالة على خلود الكفَّار، وكذا نقول فيما يوهم خلافها من نصوص السنة، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود[4] لا ريب أن المراد بهم الكفَّار، على اختلاف طوائفهم، وليس في هذا الحديث: فيقبض (الله) قبضة من النار، فيُخرج أقوامًا قد امْتُحِشُوا[5][6]، بل ذلك في حديث آخر، وفي سياق آخر، وصاحب الشُّبهة لفَّق بين الحديثين، وركَّب منهما حديثًا واحدًا؛ فحديث القبضة لا ريب أنه في عصاة الموحدين؛ لأن فيه قوله: فيُخرج أقواما قد امْتُحِشُوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة[7] الحديث، وفي رواية في الصحيح: لم يعملوا خيرا قطُّ[8] وهذا لا يناسب إلَّا حال عصاة الموحدين، والشبهة في هذا الحديث قوله: لم يعملوا خيرًا قطُّ، وهذه أقوى شبهة لغلاة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمَّى الإيمان، ويقصرونه على التصديق أو المعرفة، كما هو مذهب جهم إمام المعطلة والجبرية والمرجئة[9].
وهذا اللفظ لم يعملوا خيرا قطُّ ظاهره منافٍ للعقل والشرع؛ فإن من الممتنع أن يشهد عبدٌ بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم لا يسجد لله سجدة، ولا يتقرَّب إلى الله بطاعة، ولا ينطق بكلمة من الخير؛ فلا صلاة، ولا صيام، ولا حجَّ، ولا جهاد، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا صدقة بتمرة، ولا مِن عَمل الخير مقدار ذرَّة، فمَن هذه حاله ليس معه من الإيمان ولا مقدار ذرَّة، هذا، وظاهر الحديث معارضٌ للأصول القطعيَّة المقتضية لخلود الكافرين في النار.
فعُلم بذلك أن هذا اللفظ لم يعملوا خيرا قطُّ من المتشابه الذي يجب ردُّه إلى المحكم، فيجب اتِّباع المقرر عند أهل السُّنة، وهو تقديم المحكم على المتشابه، وتأويل المتشابه بما يزول به التعارض، إذن فلا بد لهذا اللفظ من تأويل يزول به التناقض عن كلام الله، فإن اهتدينا إلى شيء به قلنا به، وإلَّا فوَّضنا علم ذلك إلى الله تعالى، ومن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة في كتابه التوحيد[10]، قال رحمه الله: “هذه اللفظة «لم يعملوا خيرا قط» من الجنس الذي يقول العرب: يُنفَى الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال، لا على ما أَوجب عليه وأَمر به”، ثم قال رحمه الله: “وقد بيَّنت هذا المعنى في مواضع من كتبي” اهـ.
وليس من الحكمة في العلم والدين صرف النصوص المحْكَمَة المجمَع على معناها بلفظ مجمل محتمل مختلَف فيه رواية[11] ودراية، وبكل حال فهذا اللفظ «لم يعملوا خيرا قط» طرفٌ من حديث القبضة، وهو في عصاة الموحدين، كما تقدَّم؛ فلا متمسَّك به لمن زعم أن الله يخرج من النار بعض الكفَّار.
ثم أقول: إن من صريح ما تضمَّنه كلام صاحب الدعوى أن كلَّ كافر لا يشرك بالله، فإنه ترجى له النجاة بتلك القبضة، فيدخل في ذلك كلُّ من كفر بغير الشرك، كمن كذَّب الرسول ولم يشرك، أو ألقى المصحف في الحُشِّ ولم يشرك، ومن حرَّف القرآن ولم يشرك، أو صحَّح دين اليهود ولم يشرك، أو شتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يشرك، أو جحد وجود الملائكة ولم يشرك، بل جحد اليوم الآخر ولم يشرك، وكفى بهذا القول فسادًا وضلالًا لصاحبه، نعوذ بالله من الخذلان، وسوء الفهم للسنة والقرآن، ونسأل الله لصاحب هذا القول الهداية إلى صراط الله المستقيم، صراط المنعم عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين، ومنهم أهل السنة والجماعة من هذه الأمة، سلك الله بنا وبكم سبيلهم؛ إنه تعالى سميع الدعاء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 7 ربيع الآخر 1445هـ
[1] ينظر: شرح العقيدة الطحاوية لشيخنا (ص315).
[2] (ص133).
[3] ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، والقاضي أبو يعلى. ينظر: العدة في أصول الفقه (2/684)، وروضة الناظر (1/277).
[4] أخرجه البخاري (4476)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] أي: احْتَرقوا. ينظر: النهاية (4/302).
[6] أخرجه البخاري (7439) -واللفظ له-، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[7] البخاري (7439).
[8] مسلم (183).
[9] ينظر: توضيح المقصود من نظم ابن أبي داود (ص143).
[10] (2/732)
[11] ينظر: فتح الباري (13/429).