الرئيسية/فتاوى/ضابط العبادة والرد على من افترى على الإمام محمد بن عبد الوهاب

ضابط العبادة والرد على من افترى على الإمام محمد بن عبد الوهاب

السؤال :

فضيلة الشيخ: أحسن الله إليكم، وأيدكم

قرر أحد طلبة العلم أن ضابط العبادة: غاية التذلل مع اعتقاد الربوبية. وقال: تفرَّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عمن قبله من المسلمين بالقول بوجود عبادة مجردة عن اعتقاد الربوبية، ووافقه على هذا القول أتباعه المتقدمون والمتأخرون المشهورون باسم السلفيين. وثمرة هذا الفهم هي ادعاؤه بأن غالب المسلمين في زمانه وقعوا في شرك العبادة؛ لأن فهمه بوجود عبادة مجردة عن اعتقاد الربوبية ترتب عليه حكمه على ما ليس عبادة بأنه عبادة، ثم حكمه على ما ليس شركًا بأنه شرك، ثم حكمه على المسلمين بأنهم مشركون كفار. وأسهل دليل على بطلان هذا القول هو عدم وجود ضابط مستقيم لهذه العبادة.

واستشهد بكلام لكم في إحدى الفتاوى المنشورة في موقعكم[1]، وفيها ما هذا نصُّه: “العبادة هي التذلل للرَّبِّ الذي بيده النفع والضَّرُّ، والعطاء والمنع… فما قاله المذكور من اقتضاء العبادة الإقرار بالربوبيَّة حقٌّ”. وقال: ظاهر كلام الشيخ أن ضابطه للعبادة موافق لضابطي.

فنرجو من فضيلتكم بيان موقفكم بجلاء مما ذكر، وما قولكم في تقييد ضابط العبادة باعتقاد الربوبية في المعبود؟ وما هو الضابط المستقيم للعبادة الذي يتبين به التمييز بين الأفعال المحتملة كالخوف والمحبة ونحوهما، متى تكون عبادة ومتى لا تكون كذلك؟

جزاكم الله خيرا، ونفع المسلمين بعلمكم.

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

ففيما ذكره المدَّعي أنه هو الذي وصل بمعرفته إلى ضابط العبادة، وأنها التذلل لله مع اعتقاد الربوبية، إلى آخر كلامه، أقول: في كلامه عدة مآخذ:

الأول: دعواه أنه سبق في معرفة ضابط العبادة، وهذا غرور ومجازفة.

الثاني: دعواه أن الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لم يذكر توحيد الربوبية في ضابط العبادة، فهذا جهلٌ بكلام الإمام، وافتراءٌ عليه، وأوَّل ما ينقض هذه الدعوى قول الإمام محمد بن عبد الوهاب في “الأصول الثلاثة” وهي ممَّا يحفظه المبتدئون: “فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي ربَّاني ورَّبى جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي ليس لي معبودٌ سواه”[2]، ولما ذكر الإمام -رحمه الله- ما يَعرف به العبدُ ربَّه من الآيات الكونية ذكر أن الله أمر جميع الناس بعبادته، واستدلَّ بقوله تعالى: يَاأَيُّهَا ‌النَّاسُ ‌اعْبُدُوا ‌رَبَّكُمُ إلى قوله: فَلَا ‌تَجْعَلُوا ‌لِلَّهِ ‌أَنْدَادًا ‌وَأَنْتُمْ ‌تَعْلَمُون [البقرة:21-22][3]؛ فتضمَّنت الآيات وجوب العبادة لله، وذكر المقتضي لذلك: وهو ربوبيته تعالى، وهو ظاهر من قوله: الَّذِي ‌خَلَقَكُمْ ‌وَالَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ [البقرة:21] وقوله: الَّذِي ‌جَعَلَ ‌لَكُمُ ‌الْأَرْضَ ‌فِرَاشًا ‌وَالسَّمَاءَ ‌بِنَاءً ‌وَأَنْزَلَ ‌مِنَ ‌السَّمَاءِ ‌مَاءً [البقرة:22]، فتضمَّنت الآيات تقرير التوحيدين: توحيد العبادة وتوحيد الربوبية.

وقد ذكر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ما قرَّره العلماء قبلهم[4]، وهو أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد العبادة، وتوحيد العبادة يتضمن توحيد الربوبية[5]، فكيف –مع ذلك– يُدَّعى أن الإمام لم ينوِّه بتوحيد الربوبية في ضابط العبادة؟! كيف وهو رحمه الله يقول: “والرب هو المعبود”[6]، ويستدل عليه بقوله تعالى: يَاأَيُّهَا ‌النَّاسُ ‌اعْبُدُوا ‌رَبَّكُمُ [البقرة:21] الآيات؟! وما الذُّلُّ والخضوعُ في العبادة إلا لاعتقاد العبد أن معبوده هو الخالق المالك المدبر، ذو البطش الشديد والعقاب الشديد.

فعُلم بذلك أن العبادة لا تصحُّ ولا تتحققُ إلا باعتقاد نوعي التوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، ومن هذا نستخلص ضابط العبادة، بأنها التقرب إلى الله بما شرع، مع الخضوع والتذلل، إيمانًا بربوبيته تعالى وإلهيته، وبعد: فإننا ننصح ذلك المدَّعي أن يتوب إلى الله ممَّا افتراه على الشيخ الإمام رحمه الله، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء. والله أعلم.

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 14 صفر 1446هـ

 

 

السؤال2: فضيلة شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك سلمه الله وبارك في علمه وعمره:

قرأت الجواب السابق، جزاكم الله خيرًا، وبارك في علمكم، وظاهر الجواب يقر ضابط العبادة المسؤول عنه: غاية التذلل مع اعتقاد الربوبية. ولا يخفى عليكم ما ظهر مؤخرًا مِن التيار النشط الذي يتبنى مواجهة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-. ومن أطروحاتهم: تقرير ضابط العبادة السابق، ويبنون عليه أن ما يفعله كثير من المسلمين من التوجه إلى قبور الأولياء والصالحين عند الملمات، ودعائهم والاستغاثة بهم؛ لا يعد عبادة؛ لأن ضابط العبادة لا بد فيه من اعتقاد الربوبية في المعبود، وهؤلاء لا يعتقدون الربوبية في الأولياء والصالحين، وأن هذا سبب ضلال دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب –كما يقولون– أنه حكم على فعلهم بأنه عبادة، وبنى عليه أنهم صرفوا العبادة لغير الله فأشركوا، ثم حكم عليهم بالخروج من الإسلام.

فجواب شيخنا عبد الرحمن نظر إلى منطوق الضابط، وهذا لا شك فيه، ويقرره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته، لكن أرجو نظركم الكريم –شيخنا– في مفهوم الضابط، بمعنى أن من صرف شيئًا من العبادات كالدعاء أو الاستغاثة بميت، ولم يعتقد ربوبيته، هل يعد فعله عبادة؟ وهل يخرج بذلك عن الإسلام؟ أرجو نظركم. والله يحفظكم.

الجواب2: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فما ذكرتُه أنا في الجواب السابق في ضابط العبادة هو من جهة مقتضاها، أعني أن العبادة من حيث الحقيقة تقتضي اعتقاد الربوبية في المعبود؛ لأن ذلك الاعتقاد هو الموجِب للذل والخوف والرجاء، وليس ذلك شرطًا في العبادة، بمعنى أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد الربوبيَّة؛ ولهذا فالعبادة الواقعة من المشركين لمعبوداتهم في أكثر الأحيان ليس فيها اعتقاد الربوبية في المعبود، وهذا منهم تناقض، فقوم إبراهيم لما قال لهم عليه السلام: مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 71-73]، فهم يعبدونها تقليدًا لآبائهم، وهذا كثير في القرآن، قال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 69-70]، وقال: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فهم لا يعتقدون في معبوداتهم الربوبيَّة، فهم يقرون أنها لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كانت عبادتهم شركًا بالله، فهم بهذا متناقضون؛ إذْ يعبدونها بالذُّل والخوف والرجاء، مع أنهم لا يعتقدون فيها الربوبيَّة والنفع والضر، ولو اعتقدوا ذلك لكانوا مشركين في الإلهية والربوبية، ونقول مثل هذا في عبَّاد القبور الذين يتقربون للأولياء بأنواع القربات من الذبح والنذر والصلاة عندها، والدعاء عندها ولها، وهؤلاء –أعني عبَّاد القبور– صنفان: فمنهم من لا يعتقد في معبوده النفع والضر، وهم الأكثر، فهم من جنس قوم إبراهيم، مشركون في الإلهية لا في الربوبية، ومن القبوريين من يعتقد في معبوده النفع والضر والتصرف، بل التصرف في الكون، وهم غلاة الصوفيَّة؛ إذنْ منهم مشرك في الإلهية، ومنهم من هو مشرك في الإلهية والربوبيَّة؛ فالشرك تابع لنوعي التوحيد، فكما أن التوحيد نوعان، فالشرك الأكبر نوعان.

والذي يزيل اللبس عند السائل مراعاة تقسيم الشرك، وانقسام القبوريين على هذا الأساس، كما تقدم، كما ذُكر أنهم صنفان، وبهذا الجواب وسابقه يعلم براءة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ممَّا رمي به؛ لأنه لا يخصُّ الشرك بالشرك في الربوبيَّة، كما يزعم الخصوم؛ فإنَّ مَن عبد مع الله غيره فهو مشرك، سواء اعتقد في معبوده النفع والضر، أو لم يعتقد ذلك، وهذا واضح لمن نظر في سائر كلام الإمام بعدل وإنصاف، وكلام من بعده من أئمة الدعوة. والله أعلم.

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 23 صفر 1446هـ

 

[1] وكانت الفتوى عن بعض تقريرات هذا المدعي وعنوانها: ” مسائل عن شرك المشركين الأولين وضابط العبادة وضابط دعاء الأموات المكفر”.

[2] ثلاثة الأصول ضمن مجموع مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1/187).

[3] ثلاثة الأصول ضمن مجموع مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1/187).

[4] ينظر على سبيل المثال: منهاج السنة (3/313)، ومجموع الفتاوى (10/284)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/40)، (1/41).

[5] ينظر على سبيل المثال: مجموع مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (4/42) (6/121)، والدرر السنية (2/73)، ومعارج القبول (2/499-500).

[6] ثلاثة الأصول ضمن مجموع مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1/187). وقال: “فأما توحيد الربوبية فهو الأصل، ‌ولا ‌يغلط ‌في ‌الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى فيمن أقر بمسألة منه: ﴿‌وَلَئِنْ ‌سَأَلْتَهُمْ ‌مَنْ ‌خَلَقَهُمْ ‌لَيَقُولُنَّ ‌اللَّهُ ‌فَأَنَّى ‌يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87]”. مجموع مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (6/121).