الرئيسية/فتاوى/الرد على شبهة للأشاعرة في تركهم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة

الرد على شبهة للأشاعرة في تركهم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة

السؤال :

 تعلمون -أحسن الله إليكم- أن أحد أوجه ردِّ الأشاعرة الاحتجاج بحديث الآحاد في العقائد، أنهم قالوا: إن العقائد مبناها على اليقينيات؛ لأن منكرها يكفر، فكيف نكفِّره بما يفيد الظن، مما تختلف فيه الأفهام، ويسعه الخلاف؟! فأُجيب: بأنه قد خَرَج أهل السنة من هذا الإيراد بأن قسموا ما يكفُر به الإنسان، وما لا يكفُر به، فما ثبت من العقائد باليقين وأصبح معلومًا بالضرورة من دين الإسلام؛ فهذا يكفُر منكره، وما لم يكن كذلك فلا يكفُر منكره، أو المخالف فيه.

والسؤال –رعاكم الله- ما مدى صحة هذا الجواب، وكيف يُضبط هذا الباب فيما يكفُر به وما لا يكفُر به؛ لأن التقرير هنا ينسحب على بعض أبواب المصطلح أيضًا، فمثلاً: يقرر أهل العلم أنه لا يُروى عن المبتدع بدعة مكفِّرة؛ ما ضابط البدعة المكفِّرة وغير المكفِّرة؟ أحسن الله إليكم، وزادكم الله علما وتقوى.

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد: فأقول:

أولًا: إن قول الأشاعرة: (خبر الآحاد لا يُحتج به في العقائد؛ لأنه إنما يفيد الظنَّ، والعقائدُ يطلب فيها اليقين)[1]، أقول: إن هذا أصلٌ فاسدٌ بمقدِّمتيه[2]؛ لأنهم لم يذكروا على التفريق بين المسائل العلميَّة والمسائل العمليَّة فيما تثبت به دليلًا[3]، واليقينُ والظَّنُّ من الأمور النِّسبيَّة التي تختلف باختلاف المدارك[4]؛ فما يكون قطعيًّا عند هذا يكون ظنِّيًّا عند الآخر وبالعكس، والمطلوب في المسائل الدينيَّة العلميَّة والعمليَّة هو المستطاع من ذلك، يقينًا أو ظنًّا، والمسائل العمليَّة تتضمَّن من جانبٍ اعتقادات، فالواجب يستلزم إيجابًا من الله، والمحرَّم يستلزم تحريمًا من الله؛ إذن فالإيجاب والتحريم من مسائل الاعتقاد، فلزمهم على قولهم وجوبُ القطع في المسائل العمليَّة، وكذلك نقول في المسائل الاعتقاديَّة التفصيليَّة؛ فإنه يمكن إثباتها بما تثبت به المسائل العمليَّة، فتثبت بخبر الآحاد، كما تثبت المسائل العمليَّة بخبر الآحاد عندهم.

ونقول أيضًا: إن خبر الآحاد قد يفيد القطع إذا احتفَّت به القرائن، وتلقَّته الأمة بالقبول؛ كأكثر أحاديث الصحيحين[5]، فخبر الآحاد قد يفيد اليقين، والمسائل العلميَّة قد يطلب فيها اليقين، فمراتب الأحكام العمليَّة متفاوتة؛ فمنها الفرائض، ومنها المستحبَّات، ومن الفرائض ما هو من أصول الدين، فيجب فيه القطع كأركان الإسلام.

وأمَّا جواب أهل السنة الذي ذكره الأخ السائل فهو صحيح، ومضمونه أنه ليس كلُّ مسألة من مسائل الاعتقاد يكفُر جاحدها، والضابط لما يُعَدُّ كفرًا من البدع الاعتقادية: أنَّ ما ناقض أصلًا من أصول الإيمان فهو كفر، وما لا فلا؛ فكلُّ نواقض الإسلام من هذا القبيل؛ أعني: أن كلَّ ناقض منها فهو مناقضٌ لأصل من أصول الإيمان، وقد بيّنتُ هذا في شرحي لـ “نواقض الإسلام العشرة”[6] التي ذكرها الإمام المجدد رحمه الله، وممَّا ينبغي أن يعلم: أن نواقض الإسلام هي جميعُ أسباب الرِّدَّة، قوليَّةً أو عمليَّةً، وليست محصورة في العشرة[7]، ولم يرد الشيخ حصر النواقض فيما ذَكر[8]، ولكنه أراد المشهور منها في الواقع[9]، فهذا ما تيسَّر من الجواب، وأسأله تعالى أن يلهمنا الصواب. والله أعلم.

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 7 ربيع الآخر 1446ه

[1] ينظر على سبيل المثال: مشكل الحديث وبيانه لابن فُورك (ص44)، والشامل للجويني (ص100)، (ص557)، وأساس التقديس -ت أحمد حجازي السقا- (ص215).

[2] ينظر الرد على هذه القاعدة من أوجه كثيرة في: مختصر الصواعق المرسلة (4/1400) وما بعدها.

[3] ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (4/1570).

[4] ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (4/1607).

[5] ينظر: مقدمة ابن الصلاح – ت الهميم والفحل- (ص97)، ومجموع الفتاوى (18/40-41).

[6] ينظر: شرح أربعة من المؤلفات المختصرة للإمام محمد بن عبد الوهاب لشيخنا (ص222-224). وهي طبعة منقَّحة ومزيدة لشرح المتون الأربعة: “الأصول الثلاثة”، و”القواعد الأربع”، و”كشف الشبهات”، و”نواقض الإسلام” بتحقيق مؤسسة وقف الشيخ حفظه الله.

[7] ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنها أكثر من مئة ناقض. كما في الرسائل الشخصية ضمن مجموع مؤلفاته (6/25-26). وذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أنها أكثر من أربع مئة، وأحال لصاحب “الإقناع”. وذكر الشيخ ابن سحمان والشيخ حمد بن عتيق أنها تقرب من أربع مئة. ينظر: الدرر السنية (8/189)، (2/360)، (15/483)، ويقارن بما في: كشَّاف القناع عن الإقناع (14/225).

[8] وفي النسخ المشهورة: “اعلم أن نواقض الإسلام عشرة “، وفي الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن مؤلفاته (6/212): “اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة”.

[9] وذكر شيخنا وجهًا آخرًا وهو: أنها أصول أو جوامع لأسباب الردة. ينظر: شرح أربعة من المؤلفات المختصرة للإمام محمد بن عبد الوهاب لشيخنا (ص226).