الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على مَن لا نبي بعده؛ أما بعد:
فإنَّ المقرر عند أهل العلم أنَّ دعاء الأموات والغائبين والاستغاثة بهم شركٌ بالله[1]، كمَن يستغيثُ بالنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أو بالصالحين من الأموات أو الأحياء الغائبين؛ لأنَّ ذلك يتضمن تشبيههم بالله في القدرة والسَّمع؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي يسمع دعاء الدَّاعين في أيِّ مكان كانوا، وبأيِّ لسان دَعوا، وهو القادرُ على إغاثة المستغيثين في برٍّ كانوا أو بحر، وليس ذلك لأحد من الخلق؛ فالميِّت لا يسمع إلا ما دلَّت السُّنَّة على سماعه[2]، كالسَّلام عليه[3]، وقد يسمع شيئا ممَّا حوله بُعَيد دفنه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: وإنَّه ليَسمع قرعَ نعالهم[4]، وأمَّا الحيُّ فلا يَسمع إلا ما كان قريبًا منه، ويختلف باختلاف قوة الصَّوت وقوة سمعه، لكن مِن المعلوم بالضرورة أنه لا يسمع دعاء مَن يدعوه في أرجاء الأرض؛ فمَن يدعوه والحالة هذه فقد شبَّهه بربِّ العالمين.
وأمَّا الحديث الذي رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفظه: إذا انفلتتْ دابَّةُ أحدكم بأرض فلاةٍ فلينادِ: يا عبادَ الله احبسوا عليَّ، يا عبادَ الله احبسوا عليَّ، فإنَّ لله في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم[5] فهذا حديث ضعيف، قال عنه الهيثمي في “مجمع الزوائد”[6]: “رواه أبو يعلى والطبراني… وفيه معروف بن حسَّان[7]، وهو ضعيف”، وضعفه ابن حجر[8] والسخاوي[9] وغيرهم[10]، ولكن قد عمل به من يُقتدى به كالإمام أحمد، كما نقله السائل[11]، والنووي، كما ذكر ذلك عن نفسه في كتابه “الأذكار”[12]، وعندي أن الحديث وإن كان ضعيفًا فإنَّ ما تضمَّنه ليس هو من نوع ما يفعله المشركون الذين يدعون الموتى والغائبين مع البُعد الشاسع بينهم وبين مَن يدعونه، ولهذا لا حُجَّة لهم في هذا الحديث[13]، لأنه دعاء مَن يعتقد الإنسانُ حضورَه قريبًا منه، ولله عبادٌ حاضرون حول الإنسان من الملائكة أو صالحي الجنِّ، وهذا أشبه بما يقع لبعض الناس إذا نادى مَن يظنُّه حوله مِن الناس؛ فإنه يقول: يا ناس أَسعفوني، فلم يدْعُ غائبًا، بل يدعو مَن يعتقدُ أنَّه حاضر، أو يظنُّه حاضرًا.
وبناءً على ما سبق فأرى أنَّه يجوز العمل بمضمون هذا الحديث، كيف وقد عمل به أكابر من أهل العلم؟! كما تقدَّم. والله أعلم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 17 ربيع الآخر 1446هـ
[1] ينظر: الكشف عن أبواب ومسائل كتاب التوحيد لشيخنا -حفظه الله- (ص293).
[2] وينظر الخلاف في: الروح (1/5)، والآيات البينات في عدم سماع الأموات للآلوسي، وأضواء البيان (6/466).
[3] لعل شيخنا يشير لحديث ابن عباس مرفوعًا: ” ما من أحد مرَّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه وردَّ عليه السلام”. أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (2/ 185)، وصححه الإشبيلي في الأحكام الصغرى (1/ 385)، وتعقبه ابن رجب في أهوال القبور (ص141)؛ فقال: “منكر”، وينظر: السلسلة الضعيفة (4493).
[4] أخرجه البخاري (1374)، ومسلم (2870) من حديث انس رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو يعلى في مسنده (5269)، الطبراني في المعجم الكبير (10518) -واللفظ له- من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[6] (10/132)
[7] قال عنه ابن عَدي في الكامل (1805): “منكر الحديث”.
[8] نقله ابن علَّان عنه في الفتوحات الربانية (5/150).
[9] ينظر: الابتهاج بأذكار المسافر والحاج -ت علي رضا- (ص37).
[10] ينظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (656).
[11] مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله (912).
[12] (ص224).
[13] ينظر: مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العلامة عبد الله أبا بُطين (ص737-739)، والدرر السنية (11/41).