الرئيسية/فتاوى/دخول المجاز في الأعلام

دخول المجاز في الأعلام

السؤال :

فضيلة شيخنا عبد الرحمن بن ناصر البراك -سلمه الله-:

هل يُعد العَلم بالغلبة مجازًا باعتبار أن اللفظ العام خصِّص بأحد أفراده؟ وعليه فتكون كثير من أسماء القيامة وغيرها من المجاز؟ أثار هذا السؤال كلامٌ للشيخ الطاهر ابن عاشور في تفسير سورة الهمزة، يقول -رحمه الله-: “والحُطَمَة: صفة بوزن فُعَلَة، مثل ما تقدَّم في الهمزة، أي: لينبذنَّ في شيء يُحَطِّمُهُ، أي: يَكسره ويدقُّه، والظاهر أن اللام لتعريف العهد؛ لأنه اعتبر الوصف علمًا بالغلبة على شيء يُحَطِّمُ وأُريد بذلك جهنم، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن. وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار”[1]، فما رأي شيخنا في هذه المسألة؟ حفظه الله، وآتاه تقواه ورعاه.

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد، أما بعد:

فإنَّا إذا اعتبرنا تعريف المجاز المشهور، وهو استعمال اللفظ في غير ما وُضع له[2]، واعتبرنا ضابط العَلم بالغلبة في اصطلاح النحويين، وهو تخصيص اللفظ العام ببعض أفراده، كالمدينة؛ فإنه اسم لكل بلدة ذات حضارة وعمران، فتخصيصه في الاستعمال ببلد معيَّن، كمدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لا يخفى أنه استعمال للفظ في غير ما وُضع له[3]، فيتبيَّن بمراعاة هذين الاعتبارين: تعريفُ المجاز، وضابطُ العَلم بالغلبة أنَّ العَلم بالغلبة مجاز مرسل، علاقته الاختصاص، ويشبه ما نحن فيه: العامُّ الذي أُريد به الخصوص، كـ (الناس) في قوله تعالى: الَّذِينَ ‌قَالَ ‌لَهُمُ ‌النَّاسُ ‌إِنَّ ‌النَّاسَ ‌قَدْ ‌جَمَعُوا ‌لَكُمْ [آل عمران: 173] ؛ فإنه استعمال للفظ العام في فَرْدٍ من أفراده[4]، فيصدق عليه تعريف المجاز.

هذا ما ظهر لي أولًا، ثم بعد مراجعة البلاغيين والأصوليين تبيَّن أن المسألة فيها خلاف واسع بينهم، ونتحف الأخ السائل بكلام الزركشي في “البحر المحيط”[5] ؛ فإنه قال: “واعلم أن هذا الحكم (أي: المنع من دخول المجاز في الأعلام) ليس متفقًا عليه؛ فقد حكى القاضي عبد الوهاب في “الملخص”[6] الخلاف في دخول المجاز في الأعلام، وكذلك صاحب “الميزان” من الحنفية[7]؛ فقال: الأعلام هل يدخلها الحقيقة والمجاز؟ قال: والأكثرون على الدخول[8]، وكذا قاله ابن لقمان الكردي[9] في كتابه “الفصول”[10]: “ذهب عامتهم إلى أن الأعلام يدخل فيها الحقيقة والمجاز”، ومن هنا قال ابن الساعاتي[11]: إن كل كلام عربي مستعمل لا يخرج عن الحقيقة والمجاز؛ إذ الأعلام عربية[12]. وفي المسألة قول ثالث جزم به القاضي أبو بكر[13] والغزالي في “المستصفى”[14]: وهو التفصيل بين الأعلام التي لم توضع إلا للفَرق بين الذوات كزيد وعمرو، فلا يدخلها المجاز؛ لأنها لم توضع للفرق بين الصفات، وبين الأعلام الموضوعة للصفة كالأسوَد ونحوه؛ إذ لا يُراد به الدلالة على الصفة، مع أنه وُضع لها فيكون مجازًا، وعلى هذا جرى ابن السمعاني في “القواطع”[15]، فقال: “الحقيقة والمجاز لا يدخلان في أسماء الألقاب، ويدخلان في أسماء الاشتقاق” اهـ كلام الزركشي.

وبعد هذا النقل، فالذي أختاره هو ما قلته أوَّلا، وهو دخول المجاز في الأعلام؛ لصدق تعريف المجاز على العَلم بالغلبة، كما سبق، فتدبَّر. والله أعلم.

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 23 ذي الحجة 1444هـ

 

[1] التحرير والتنوير (30/540).

[2] ينظر: عروس الأفراح (1/136)، (2/126).

[3] ينظر: شرح المفصل (1/125)، وشرح ابن عقيل على الألفية (1/185).

[4] ينظر: البحر المحيط (4/333).

[5] (3/100).

[6] لم نجده ولعله من الكتب المفقودة التي لم تصل إلينا. ينظر: أصول الفقه عند القاضي عبد الوهاب جمعًا وتوثيقًا ودراسة لـ عبد المحسن بن محمد الريس (ص13).

[7] ‌محمد ‌بن ‌أحمد بن أبي أحمد، أبو بكر علاء الدين ‌السمرقندي، شيخ كبير فاضل جليل القدر تفقه على أبي المعين ميمون المكحولي، وصدر الإسلام أبى اليسر البزدوي، وتفقّهت عليه ابنته فاطمة، وتفقّه عليه أيضًا زوجها أبو بكر الكاساني، ومن آثاره: “ميزان الأصول في نتائج العقول”، و”تحفة الفقهاء”. ينظر: الجواهر المضية (3/18)، والفوائد البهية في تراجم الحنفية (ص158).

[8] ينظر: ميزان الأصول في نتائج العقول (1/383).

[9] ‌عبد ‌الغفور ‌بن ‌لقمان بن محمد، تاج الدين أبو المفاخر، كان إمام الحنفية ولقب بشمس الأئمة، تفقه على عبد الرحمن بن محمد الكرماني وتولى قضاء حلب لنور الدين محمود بن زنكي، له تصانيف في أصول الفقه، وشرح الجامع الصغير وغيرها، توفي سنة (562هـ). ينظر: الجواهر المضية (2/443)، والفوائد البهية في تراجم الحنفية (ص98).

[10] لم نجده.

[11] أحمد بن علي بن ثعلب مظفر الدين المعروف بابن الساعاتي، البعلبكي أصلًا والبغدادي منشأً، اشتغل بالعلم وبلغ رتبة الكمال وصار إمام العصر في العلوم الشرعية ثقة حافظا متقنًا في الفروع وأصوله أقر له شيوخ زمانه بأنه فارس جواد في ميدانه، وله كتاب: “مجمع البحرين” و”البديع” في أصول الفقه جمع فيه بين “أصول” فخر الإسلام البزدوي و “الإحكام” للآمدي، توفي سنة (693هـ). ينظر: الجواهر المضية (1/208)، والفوائد البهية في تراجم الحنفية (ص26).

[12] بمعناه في بديع النظام (1/36).

[13] وهو الباقلاني كما في التقريب والإرشاد (1/358).

[14] (3/34-35).

[15] (1/270).