الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله؛ أما بعد:
فدلائل نبوَّة نبيّنا محمَّد –صلَّى الله عليه وسلَّم- كثيرة، وليست محصورة في الخوارق الكونية، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى بكفه[1]، وتكثير الشراب والطعام بدعائه[2]، وهذه الخوارق هي التي يسميها المعتزلة المعجزات، واسمها الشَّرعي المعتمد عند أهل السنَّة براهين وبينات[3]، وهي وإن كانت زمن حياته –صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد بلغنا خبرها بطريق التَّواتر المفيد للقطع، إذن فهي معلومة لنا علمًا يقينيًا كأننا قد شاهدناها، فلا فرق بيننا وبين من كان موجودًا في عصره؛ فإنَّ العلم بالواقع يحصل بمشاهدته وبالخبر اليقيني، وهذا أمرٌ متفق عليه بين العقلاء، فكثير من الحوادث وأخبار الناس في قديم الزمان يعلمها الناس في الأزمنة المتأخرة علمًا ضروريًا لا يشكُّون فيه، ومَن يشك فيها ينسبونه إلى الحمق والسَّفه وفساد العقل.
هذا وهناك أدلة على نبوّته –صلَّى الله عليه وسلَّم- لا تختص حجيتها في وقته بل هي باقية الدلالة إلى أن ينتهي عمر الدنيا؛ كإخباره –صلَّى الله عليه وسلَّم- بأنباء من الغيب في الماضي والمستقبل، أما الماضي فمعظمه في القرآن؛ كالأخبار المتعلّقة بمبدأ هذا الوجود،؛كخلق السموات والأرض، ومبدأ البشرية من نفس واحدة، وهو آدم، وهذا لا يجهله إلا الذين لا يعرفون الرسل كلهم، ولا يؤمنون بهم، وهم الوثنيون عُبَّاد الأشجار والأحجار والحيوان، أما الذين يعرفون الرسل كأهل الكتاب فهم يعرفون ذلك، ونبينا –صلى الله عليه وسلم- كان أميًّا لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، فلم يأخذ عن أهل الكتاب، ولم يقرأ كتبهم[4]؛ فعُلم أنَّ ما أخبر به من أنباء الغيب وحيٌّ من الله تعالى، فإنها لم تكن معلومة له ولا لقومه قبل نزول القرآن عليه، قال تعالى بعد قصة نوح وقومه مفصلة: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] وقال تعالى في شأن أميته –صلى الله عليه وسلم-: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] ، وأما المستقبل فقد أخبر بأخبار كثيرة لا تزال تتحقق بين حين وآخر، ويشاهدها الناس أو يعلمون بها فيَعُدُّونها من أعلام نبوته –صلى الله عليه وسلم-، ويسمونها أشراط الساعة، ومن أعظم ذلك أشراط الساعة الكبرى[5] التي أعظمها طلوع الشمس من مغربها، ولهذا إذا طلعت آمنَ كلُّ مَن على الأرض مِن الناس ممَّن علم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك أو بلغه، ولكن لا ينفع ذلك الإيمان إلا من كان قد آمن من قبل؛ قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158]، والمراد بهذا البعض من الآيات طلوع الشمس من مغربها[6]، إذن فأدلة نبوته –صلى الله عليه وسلم- لا تزال تظهر حتى تقوم الساعة، والموفَّقون للإيمان يؤمنون به –صلى الله عليه وسلم- وبكل ما أخبر به من الماضي والمستقبل.
وفوق هذا كله البرهان الأعظم على نبوته –صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن الذي تحدَّى الله العربَ أن يأتوا بعشر سور، بل بسورة مثله، وأخبر أن لو اجتمع الإنس والجن متعاونين أن يأتوا بمثله لم يأتوا بمثله؛ قال الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]، والحمد لله أن هدانا للإسلام والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله، وبخاتمهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر ربيع الثاني من عام ستة وأربعين وأربع مئة وألف
[1] ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (6/64).
[2] كما في البخاري (3571- 3575)، (3576)، (3577)، (3579)، عن أنس وجابر والبراء وابن مسعود رضي الله عنهما. وينظر: دلائل النبوة للبيهقي (6/83)، ونظم المتناثر (267)، (267).
[3] ينظر: النبوات (1/215)، (2/828)، والجواب الصحيح (5/412-419).
[4] ولعل أول ترجمة عربية للكتاب “المقدَّس” ظهرت بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقرن من الزمان، وهي ترجمة أسقف أشبيليا يوحنا عام 724م مع احتمال ضعيف لوجود ترجمات جزئية قبل ذلك، مع العلم أن هذه الكتب عامة كانت تتداول بين الأحبار والرهبان سرًّا وكانوا أبخل الناس بالعلم. ينظر: قاموس الكتاب “المقدس” (ص771).
[5] ينظر: التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (3/ ١٢٦١)، والإشاعة لأشراط الساعة للبرزنجي (ص173).
[6] أخرجه البخاري (4635)، ومسلم (157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.