وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإن من مناسك الحج والعمرة بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة: الطوافَ بالصفا والمروة بالتردد بينهما سبع مرات، بدءًا بالصفا وانتهاءً بالمروة، كما بيَّنه الرسول ﷺ، فبدأ بالصفا، قال سبحانه: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] ، فقال ﷺ: أبدأ بما بدأ الله به[6]، وبما أن الفقهاء رحمهم الله يحررون الأحكام، قالوا: إن الواجب من الطواف بين الصفا والمروة هو المشي بينهما، وأما الصعود على الجبلين فمستحب[7].
ولتأكيد مكان الطواف تحديدًا قالوا: ينبغي للطائف بالصفا والمروة أن يلزق عقبه في أسفل الجبل[8]؛ ليتحقق من تمام كلِّ شوط، ويسمَّى هذا الطواف في لسان الفقهاء سعيا، والذي دلَّت عليه السنَّة أن السعي في بعض هذه المساحة، كما في حديث جابر الطويل، قال: «حتى إذا انصبت قدماه ﷺ في بطن الوادي سعى» أي: منحدرًا من جهة الصفا، «حتى إذا صعِدتا» أي: صعِدتا في الجانب الآخر من الوادي إلى المروة «مشى» رواه مسلم[9]، فهذا موضع السعي حقيقة، وهو الإسراع، فلهذا أرى أن إطلاق السعي على طول المسافة تجوُّزٌ، من إطلاق البعض على الكل.
وبعد: فالجواب عن السؤال هو العمل بما رسمه المختصون من جهة المسؤولين عن المناسك، وأقرب ما يقال: إن حدَّ المطاف بالصفا والمروة هو مسارُ العربات؛ لأن المسؤولين لابد أنهم اجتهدوا في ذلك؛ فجعلوا مسار العربات مستوعبًا لما يجب الطواف فيه. هذا هو الظن بهم، وحينئذ فلا فرق في المطاف بين الراكب والماشي.
وأما موضع السعي حقيقة فقد وضع لتحديد ذلك الولاة والفقهاء العلَمين، ولهذا ينص عليهما في كتب المناسك قرنًا بعد قرن، وهما الآن في موضعهما، ولله الحمد، فليس هناك ما يُشكل، ولا ما يدعو إلى الشَّكِّ، وقول من قال: “لا يكون مستوعبا للسعي إلا إذا رقي على المحل المتسع وهو آخر درجة” اهـ[10] لا وجه له، وهو خلاف ما نصَّ عليه الموفَّق في “المغني”، قال -رحمه الله-: “فإن لم يرق على الصفا، فلا شيء عليه” اهـ[11]ـ وممَّا يقوي عدم وجوب الصعود على الصفا، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف بالصفا والمروة على بعيره في بعض أطوافه، كما جاء ذلك في صحيح مسلم[12] عن أبي الزبير[13] عن جابر رضي الله عنه.
هذا ما يتعلق بجواب السؤال الأول.
وأما السؤال الثاني عن الحِجْر؛ فأقول في جوابه: إن المعوَّل فيما يدخل في الكعبة من مساحة الحِجْر على ما ذكره العلماء والمصنِّفون في المناسك، اعتمادا منهم على ما ثبت في صحيح مسلم[14] عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال لها: لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابا غربيًّا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، وفي رواية عند مسلم[15] أيضًا أنه ﷺ أرى عائشة ما يدخل في الكعبة من الحجر قريبًا من سبعة أذرع، ولهذا كان المشهور عند جمهور الفقهاء أن الذي يدخل في الكعبة من الحِجْر سبعةُ أذرع. قال النووي رحمه الله على حديث عائشة هذا: ” قال أصحابنا: سِتُّ أذرعٍ من الحِجْر مما يلي البيت محسوبةٌ من البيت بلا خلاف، وفي الزائد خلاف” اهـ[16]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والحِجْر جميعه ليس من البيت، وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء، فمن استقبل ما زاد على ذلك، لم تصِح صلاته البتة” اهـ من الاختيارات[17] ، ومرادهم بالذراع ذراع الإنسان، وتقدَّر هذه المساحة بالمقاييس الحديثة بثلاثة أمتار وربع تقريبا[18].
هذا، ومن المعلوم أن دخول الحِجْر أو البيت ليس من مناسك الحج أو العمرة؛ فإن النبي ﷺ إنما دخل الكعبة عام الفتح، ولم يكن حاجًّا ولا معتمرًا[19]، ولم يدخلها في حجَّة الوداع، ولا في سائر عُمَره.
وأما جواب السؤال الثالث، وهو ما يتعلق بمرمى الجمار، فأقول: إن مرمى الجمار كان معلومًا، وهو موضع معيَّن، رمى فيه الرسول ﷺ وأصحابه فمن بعدهم، وورثه المسلمون جيلًا بعد جيل، وهو موضع مستدير محدود بجدار أحدثه ولاة الأمور بفتوى الفقهاء، وفي وسطه شاخصٌ، وبين الشاخص والجدار المستدير ما يقرب من ثلاثة أذرع إلى أربعة، واتفق الفقهاء على أنه لا تجوز توسعة المرمى[20]؛ لأن ذلك يفضي إلى الرمي في غير الموضع الذي رمى فيه الرسول ﷺ والصحابة، ولهذا لما كثر الحجَّاج في هذا العصر اجتهد العلماء وولاة الأمر فوسَّعوا المرمى من أعلاه وطوَّلوا الشاخص وعرَّضوه، ولكن جعلوه ينتهي من أسفل بشكل مخروطي بحيث ينتهي الحصا إلى موضع الرمي الشرعي، وهذا تصرفٌ ألجأت إليه الضرورة بسبب الازدحام العظيم الناشئ عن كثرة الحجاج، ممَّا ترتب عليه حوادث متكررة، فبهذا يعلم أنه لا حرج في الرمي بهذه الطريقة التي أحدثها الولاة والعلماء، دفعا للخطر والضرر، حتى جعلوا المرمى طوابق متعددة، كلها يمكن فيها الرمي بطريقة واحدة، فلله الحمد والمنَّة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 3 جمادى الأولى 1446 هـ
[1] مفيد الأنام (1/304).
[2] الشرح الممتع (7/272).
[3] التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم (5/131).
[4] برقم (1333) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] ينظر: مغني المحتاج (2/277)، وإعانة الطالبين (2/347).
[6] أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[7] ينظر: المجموع شرح المهذب (8/75)، والمغني (5/235).
[8] ينظر: المغني (5/235)، والشرح الكبير (9/128).
[9] أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[10] وهو الشيخ عبد الله بن جاسر- رحمه الله- في مفيد الأنام (1/304) كما تقدَّم.
[11] المغني (5/235).
[12] أخرجه مسلم (1273-255).
[13] محمد بن مسلم بن تَدْرُسَ: الإمام، الحافظ، الصدوق، أبو الزبير القرشي، الأسدي، المكي، مولى حكيم بن حزام. روى عن جابر بن عبد الله، وابن عباس وجماعة، وروى عنه: عطاء بن أبي رباح – وهو من شيوخه – والزهري وآخرون، توفي سنة (128)، وقيل قبل سنة (126). ينظر: الثقات لابن حبان (5/351)، وسير أعلام النبلاء (5/380).
[14] برقم (1333-401).
[15] برقم (1333-403).
[16] شرح مسلم (9/91).
[17] بتحقيق أحمد الخليل (ص74).
[18] ينظر: المعجم الوسيط (1/311)، والمقادير الشرعية والأحكام الفقهية المتعلقة بها (ص217).
[19] أخرجه البخاري (1598)، ومسلم (1329) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[20] ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (3/273).