الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فإنَّ مِن محظورات الإحرام الطِّيبَ في البدن والثياب[1]، والأصل في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في المتفق عليه: ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسَّه زعفران، ولا الورس[2]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لصاحب الجُبَّة: اخلع عنك الجُبَّة، واغسل أثر الخَلوق عنك رواه الشيخان[3].
واتفق العلماء على تحريم تعمد المُحْرِم لابتداء الطيب[4]، أمَّا استدامته فقد اختُلف فيها، والصواب جواز استدامته[5]؛ فإنه يستحب للمحرم الطِّيبُ قبل الإحرام، ثم لا يضرُّه استدامته، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين قالت: “كنت أطيِّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت”[6]، فإذا جاز للمحرم التطيب قبل الإحرام جاز له استدامته؛ وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُرى وبيص الطيب في مَفارِقه وهو مُحْرِم[7]، ولعل أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لصاحب الجُبَّة أن يغسل عنه الخلوق لأنه وضعه بعد إحرامه[8]، فمن تطيَّب ناسيًا أو جاهلًا في ثوبه أو بدنه وجب عليه غسله، والمشهور عند الفقهاء قياس الطيب على حلق الشعر في وجوب الفدية[9].
أمَّا مسألة تطييب الحجر الأسود فأقول: إنه مستحبٌّ، وليس بسنَّة، وما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه رؤي خارجًا من الكعبة، وقد تلطَّخ صدرُه من طيبها[10]، وما جاء عن سعيد بن جبير أنه قال: أصابني من خَلوق الكعبة فسألتُ ابن عباس: أغسله؟ قال: لا[11].
فهذان الأثران يدلَّان على أن الكعبة تُطيَّب في عهد الصحابة، والأحرى بذلك منها الحجر الأسود، وتطييب الحجر يراعى فيه اعتباران:
الأول: تقبيل الناس له قبل تطييبه؛ فإنَّ لذلك أثرًا في وجود شيء من الرائحة الكريهة في الحجر.
والاعتبار الآخر: تقبيل الناس بعد تطييبه من أجلهم، فكان تطييبُه بسببهم ولأجلهم، ولكن ينبغي أن يكون الطِّيب الموضوع على الحجر خفيفًا، سريع الجفاف، حتى لا يَعْلَق بِيَدِّ مَن يستلمه وهو مُحْرِم، فإن استلم الحجر وفيه طيب رطب علِق بيده منه شيء، فلا شيء عليه، أي: لا فدية عليه، والأولى غسله[12].
ومن فروع هذه المسألة أنه لا يجوز للمحرم أن يستلم الحجر، وهو يعلم أن الطِّيب سيعلق به؛ فإن استلامه مستحبٌّ، ومباشرة الطيب محظور، وبناءً على ما تقدم فإنه يصح أن يقال: لا يصح تطييب الحجر الأسود بطيبٍ رطبٍ يعلق بكفِّ مَن يستلمه، أمَّا إذا كان الطِّيب يابسًا لا يعلق بالكفِّ فلا يضر استلامه ولا تقبيله[13]، والله أعلم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 20 ذي القعدة 1446هـ
[1] ينظر: المجموع شرح المهذب (7/269)، والمغني (5/140)، (5/142).
[2] أخرجه البخاري (5803) -واللفظ له-، ومسلم (1177) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري (1789) -واللفظ له-، ومسلم (1180) من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه.
[4] ينظر: مراتب الإجماع (ص76-77)، والإقناع في مسائل الإجماع (1/258).
[5] ينظر: المجموع شرح المهذب (7/222)، والمغني (5/77).
[6] أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189) -واللفظ له-.
[7] أخرجه البخاري (271)، ومسلم (1190) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] ذكره النووي وذكر أوجهًا أخرى، تنظر في: المجموع شرح المهذب (7/222).
[9] ينظر على سبيل المثال: حاشية ابن عابدين (2/ 544)، والمجموع شرح المهذب (7/269)، والمغني (5/389).
[10] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (14016).
[11] أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (714).
[12]. ينظر: الحاوي للماوردي (4/113).
[13] ينظر: المغني (5/142).