الرئيسية/فتاوى/توجيه ما نقله ابن قدامة عن الإمام أحمد من الاستشفاء بالطيب الملصق بالكعبة واستحباب زيارة قبر الرسول

توجيه ما نقله ابن قدامة عن الإمام أحمد من الاستشفاء بالطيب الملصق بالكعبة واستحباب زيارة قبر الرسول

السؤال :

فضيلة شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله وأعلى مقامه في عليين.

زاد الموفق في "المغني في آخر كتاب الحج مسائل في بعضها إشكال، وأود منكم النظر فيها، وإزالة ما أشكل منها عليَّ:

الأولى: نقله عن الإمام أحمد أنه قال: "إِذَا أَرَادَوا أَنْ يَسْتَشْفُوا بِشَيْءٍ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ، فَلْيَأْتِ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُلْزِقْهُ عَلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُ، وَلَا يَأْخُذْ مِنْ طِيْبِ الْبَيْتِ شَيْئًا". انهـ. وهذا النقل وجدته في رواية حنبل؛ كما في «زاد المسافر» (2/550). وفي «المسائل» لابن هانئ (2/144): قال: "سمعته يقول: لا بأس أن يجيء الرجل ‌بالطيب فيلطخه بالبيت، ثم يقلعه ‌يستشفي به، ولا يقلع من البيت شيئًا".

الثانية: قوله بعد الفراغ من الحج: "فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".

الثالثة: قوله: "وَيُرْوَى عَنْ الْعُتْبِيِّ، قَالَ: "كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ:

 / السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64] ، وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا لِذَنْبِي، مستشفعاً بِك إلَى رَبِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول:

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ ** فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ

نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْر أَنْتَ سَاكِنُهُ ** فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ

ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ، فَحَمَلَتْنِي عَيْنِي، فَرَأَيْت النَّبِيَّ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ: يَا عُتْبِيُّ، الْحَقْ بالْأَعْرَابِيَّ، فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ غَفَرَ لَهُ".

آمل نظركم في هذه الكلمات، والتعليق عليها، والله يحفظكم ويرعاكم.

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فإن من الأصول الإيمانية أنَّ كلًّا يؤخذ من قوله ويردُّ، إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء عن الإمام مالك أنه قال ذلك، وقال: "إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم"[1]، وعليه فما يقوله العالم فتوى أو تقريرًا فإنه يُعرض على سنة رسول الله عليه وسلم؛ فما وافقها وجب قبوله، وما خالفها وجب اطِّراحه، وما لم يتبيَّن فيه هذا ولا هذا فالأمر فيه واسع، وعليه أقول:

أولًا: إن ما جاء عن الإمام أحمد من الاستشفاء بالطيب الملصق بالكعبة لم يَذكر له دليلًا، لا في الرواية، ولا استدلَّ له الموفق ابن قدامة[2]، كما هو الَّلائق، وإذن فلا نتابع الإمام أحمد على هذا، مع جلالة قدره؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم نُقل لنا استشفاؤهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كوَضوئه[3] وثيابه[4] وعرقه[5]، ولم يُنقل لنا عن أحد منهم الاستشفاء بالطيب الملصَق بالبيت.

وحينئذ نقول: إن الاستشفاء بطيب الكعبة لا أصل له من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من أصحابه، فيكون بدعة.

ثانيا: وأما قول الموفق: "ويستحب زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-"[6]، فنقول: إن زيارة قبره -عليه الصلاة والسلام- داخلة في عموم زيارة القبور، كما يزور المسلم قبر والديه، أو قبر أحد من مشايخه وأصدقائه[7]، وقد أذِن الله لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- في زيارة قبر أمه، كما في صحيح مسلم[8]، لذا نقول: نعم تستحب زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم-، لا اعتمادًا على الأحاديث الموضوعة في زيارة قبره -عليه الصلاة والسلام-، كحديث: «من حجَّ ولم يزرني فقد جفاني»[9]، والحديث الآخر: «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي»[10]، وقد نبَّه العلماء على بطلان هذه الأحاديث[11]، ولكن لأن زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- داخلة في عموم أدلة زيارة القبور.

وقد درج المصنفون في المناسك على ذكر زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذكر المناسك[12]، وهذا خطأ؛ لأنه يوهم أن الزيارة من توابع الحج، والذي حملهم على ذلك أن كثيرًا من حُجَّاج الآفاق إذا حجُّوا ذهبوا إلى المدينة، لمناسبة قربهم؛ فلا يحتاجون إلى سفرة خاصَّة للزيارة، ولو أنهم ذكروا زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذكر استحباب زيارة مسجده، لكان ذلك هو الَّلائق حكمًا وواقعًا، وقد ذكروا ذلك فيما يستحب لمن زار مسجده -صلى الله عليه وسلم-، ولا ريب أن ذاك هو موضع ذِكر هذه المسألة.

ثالثا: وأمَّا قصة الأعرابي التي ذكرها العتبيُّ[13]، فذِكْرُ الموفق لها خطأٌ منه رحمه الله؛ لأن المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية[14] وابن القيم[15] نصُّوا على بطلان هذه القصة روايةً ومعنى، فقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64] مختصٌّ بحياته صلى الله عليه وسلم، لا بعد موته[16]، ولهذا فإن الصحابة لـمّا قحَطوا لم يذهبوا إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه الدعاء بالغيث، بل أمَر عمر العباس -رضي الله عنهما- أن يستسقي بالناس، ففي صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب، كان إذا قحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا» قال: فيُسقون[17].

وحينئذ فلا يُغتر بذكر الموفق ولا غيره لقصة العتبيِّ مع الأعرابي؛ لما تقدَّم من بطلانها. والله أعلم.

أملاه:

عبدالرحمن بن ناصر البراك

حرر في 3 ربيع الأول 1447ه

[1] نسبةُ هذا إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين، وصححه عنه يوسف بن حسن بن عبد الهادي في إرشاد السالك (ص402)، وينظر: خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأوَّل (ص136)، وأصل صفة صلاة النبي للألباني (1/27). وجاء بنحوه عن ابن عباس عند الطبراني في الكبير (11941)، والحَكَم بن عُتيبة ومجاهد كما في جامع بيان العلم (2/925).

[2] ينظر: المغني (5/464).

[3] كما عند البخاري (2731) من حديث المِسْوَر بن مَخْرَمَة، والبخاري (187)، ومسلم (503) من حديث أبي جُحيفة رضي الله عنه.

[4] كما عند البخاري (6281)، ومسلم (2331) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[5] كما في البخاري (6036) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. والبخاري (1253)، ومسلم (939) من حديث أم عطية رضي الله عنها.

[6] المغني (5/465).

[7] ينظر: الكشف عن أبواب ومسائل كتاب التوحيد (ص439). ولشيخنا فتوى محررة بعنوان: " هل زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الآن ممكنة أم متعذرة" بين فيها: أن الأصل في زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأدلة العامة في زيارة القبور، فليس له دليل خاص إلا ما جاء عن ابن عمر، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من تعذر الزيارة جيِّدٌ في النظر والأثر.

[8] برقم (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها.

[9] أخرجه ابن عدي في الكامل (8/248)، وابن الجوزي في الموضوعات – ط أضواء السلف- (1168) بنحوه، وأورده الصغاني في الموضوعات (52) وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص87) " منكر جداً لا أصل له، بل هو من المكذوبات والموضوعات...".

[10] أخرجه بنحوه الطبراني في الكبير (12/406 رقم 13496)، والدارقطني (2693) -واللفظ له-، والبيهقي في السنن (10369) قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي-ت المطيري- (ص62): " حديث منكر المتن، ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ " وقال الألباني في الضعيفة (47): "موضوع".

[11] ينظر: الإخنائية (ص144)، وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص81).

[12] ينظر على سبيل المثال: شرح فتح القدير على الهداية (3/179)، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير (2/71)، والمجموع شرح المهذب (8/272).

[13] أخرج الحكاية بنحوها: البيهقي في شعب الإيمان (3880)، وابن عساكر في معجمه (738)، وابن الجوزي في مثير العزم الساكن (477)، وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص253): " وهذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي، بلا إسناد...وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسنادٍ مظلمٍ "، وقال الألباني في الصحيحة (6/1034-1035 رقم 2928) عن إسناد البيهقي: "وهذا إسنادٌ ضعيفٌ مظلمٌ" وأن الحكاية " منكَرة ظاهرة النكارة".

[14] وقد أشار لضعفها وأن حكاية من الحكايات التي تُذكر، وبين المعنى بعدها. ينظر: التوسل والوسيلة -ت الأرناؤوط- (ص125)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/289-290)، وجامع المسائل (8/265-266).

[15] نقل ذلك عنه الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد – ط الصميعي- (2/970)، كما هو الظاهر من السياق، ولم نجد ذاك النص في كتبه المطبوعة، ويحتمل أنه من كلام الشيخ سليمان، والأول أرجح؛ لوجيهين: الأول: نفس ابن القيم ظاهر، والثاني: نقل في هذا الفصل عن ابن القيم كلامًا وميزها بقوله: "قلتُ"، أو بتعقيب واستحسان منه، أو بكتابة كلمة: "انتهى".  والله أعلم.

[16] ينظر: التوسل والوسيلة (ص41)، (ص111)، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان – ط المنهاج- (ص334) وما بعدها، وفيه الرد على من استدل بهذه الآية لتسويغ الزيارة المنهي عنها من ستة عشر وجهًا.

[17] البخاري (1010).