قراءةُ الفاتحة في حقِّ المأمومِ: واجبةٌ، وليسَتْ ركنًا
اختلفَ أهلُ العلم في حكم قراءة المأموم اختلافًا كثيرًا [1] :
فقيل: تجبُ عليه القراءة مطلقًا، في السّريَّة وفي الجهريَّة، والواجبُ هو قراءة سورة الفاتحة، وأنَّها ركن تبطلُ الصَّلاة بتركها.
ويقابل هذا القول: القول بعدم وجوب القراءة على المأموم مطلقًا، لا في سريَّة ولا في جهريَّة، إن كان في الجهريَّة: استمعَ، وإن كان في السّريَّة: صمتَ، ويتحمَّلها الإمام عنه، وهذا هو المشهور مِن مذهب الإمام أحمد [2] ، لكن قالوا: يستحبُّ له أن يقرأها فيما يُسِرّ فيه الإمام، وفي سكتاته، كالصَّلاة السّريَّة: الظّهر والعصر، والرَّكعتين مِن العشاء، والرَّكعة الأخيرة مِن المغرب.
والذين قالوا بوجوب القراءة مطلقًا في السّريَّة والجهريَّة: تمسَّكوا بعموم حديث: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ) [3] وهو حديثٌ صحيحٌ .
والذين قالوا بعدمِ وجوب القراءة مطلقًا: استدلّوا بحديثٍ فيه كلام: (مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ، فَقِراءتُهُ لَهُ قِراءَة) [4]
والذين فرَّقوا بين السّريَّة والجهريَّة مِن أدلَّتهم: حديثُ أبي موسى: (إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فإذَا كَبَّرَ: فَكبِّروا، وإذا قَرَأ: فأنْصِتُوا) [5] . وبقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:٢٠٤]. وبِمَا رواه الإمامُ أحمد وغيره أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال لأصحابِه لمَّا ثقلت عليه القراءة: (هَلْ تَقْرَؤونَ في الصَّلاة؟) قلنا: نعم يا رسول الله. قال: (لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِهَا) [6] ، وفي هذا الحديث أيضًا مناقشات، والله أعلم.
فهذه المذاهب الثلاثة؛ الأوَّل: هو المشهور مِن مذهب الشَّافعي والبخاري، ويقابله الرَّأي الثَّاني وهو المذهب، والثَّالث على التَّفصيل بين الصَّلاة الجهريَّة والصَّلاة السّريَّة.
ولشيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- اجتهادٌ ورأي، وهو أن قراءة الفاتحة على المأموم واجبةٌ لا ركنٌ [7] ، يعني مَن تركها ناسيًا لا تبطلُ صلاتُه، ولا يجوز أن يتعمَّد تركها، وهذا في الحقيقة رأيٌ -أمام الخلاف الطَّويل- فيه توسّط بين المذاهب، بين مَن يقول بأنَّها لا تجب على المأموم مطلقًا، وبين مَن يقول بركنيتها وفرضها على المأموم في الصَّلاة السّريَّة والجهريَّة، فكيف نقول إنَّها ركنٌ تبطل صلاةُ المأموم بتركها، مع هذا الخلاف الواسع، ووجود أدلَّة مختلفة ! [8]
الحاشية السفلية
↑1 | ينظر: "المغني" 2/156 |
---|---|
↑2 | ينظر: "الإنصاف" 2/228، و"المنتهى" 1/286، و"الإقناع" 1/250 قال في "الإنصاف": "وعنه: تجب القراءة عليه، ذكرها الترمذي والبيهقي وابن الزاغوني، واختارها الآجري. قال في الفروع: هذه الرواية أظهر، وقيل: تجب في صلاة السر، وحكاه عنه ابن المنذر". |
↑3 | أخرجه البخاري 756، ومسلم 394 من حديث عبادة بن الصامت. |
↑4 | أخرجه أحمد 14643، وابن ماجه 850 من طريق جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي الزبير المكي، عن جابر مرفوعًا. وجابر الجعفي متهم! وتابعه ليث بن أبي سليم عند الدارقطني 1253، والبيهقي 2898 والليث ضعيف! وأخرجه الدارقطني 1501، والطبراني في "الأوسط" 7899، من طريق سهل بن العباس، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب السختياني، عن أبي الزبير، به. وسهل بن العباس متروك! وأخرجه البيهقي في "القراءة" 347 و348 من طريق محمد بن أشرس، عن عبد الله بن عمر، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، به. وابن لهيعة سيئ الحفظ، ومحمد بن أشرس السلمي متهم في الحديث؛ كما قال الذهبي في "الميزان" 3/485. وأخرجه الدارقطني 1241، والبيهقي في "القراءة" 349 من طريق يحيى بن سلام، عن مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان، عن جابر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، إلا أن يكون وراء إمام". قال الدارقطني: "يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف". وقال البيهقي: "هذا هو الصحيح عن جابر من قوله غير مرفوع، وقد رفعه يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك، وذاك مما لا يحل روايته على طريق الاحتجاج به". قلنا: وأخرج الموقف: مالك في "موطئه" 38 عن أبي وهب بن كيسان، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل إلا وراء الإمام». وأخرجه الدارقطني 1242، والبيهقي 2899 من طريق يونس، عن ابن وهب، عن مالك، عن وهب بن كيسان، به. وأخرجه الدارقطني 1233 و1234، والبيهقي 2896، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر مرفوعًا. قال الدارقطني: " لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان". وقال البيهقي: "هكذا رواه جماعة عن أبي حنيفة موصولًا، ورواه عبد الله بن المبارك مرسلًا دون ذكر جابر، وهو المحفوظ". وللحديث شواهد: عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وأبي الدرداء، وكلها معلولة كما قال الحافظ في التلخيص 1/569. وينظر: نصب الراية 2/6-14، والدراية 1/162، و"إرواء الغليل" 2/268. |
↑5 | أخرجه مسلم 404 63 من طريق سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى، به. وقد خالف التيمي جماعة، منهم: هشام الدستوائي، وشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان، وهمام، وأبو عوانة، ومعمر، وعدي بن أبي عمارة، ورووه عن قتادة، لم يقل أحد منهم: وإذا قرأ فانصتوا. وقد صحح الإمام مسلم تفرد التيمي بهذه الزيادة، فقال: "تريد أحفظ من سليمان؟". وتعقبه الدارقطني في الإلزامات 43 بقوله: "وفي اجتماع أصحاب قتادة على خلاف التيمي دليل على وهمه، والله أعلم". ولهذه الزيادة شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه أحمد 8889، وأبو داود 604، وابن ماجه 846 من طريق أبي خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، به. وصحح هذه الزيادة أيضًا: الإمام مسلم في "صحيحه" وإن لم يخرجها فيه؛ فقال عقب حديث 404 63: "قال له أبو بكر بن أخت أبي النضر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح، يعني "وإذا قرأ فأنصتوا"، فقال: هو عندي صحيح، فقال: فلم لم تضعه ها هنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا، إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه". وضعّف أبو داود هذه الزيادة فقال: "وهذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد". وذكر الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" 11/ 34 بسنده إلى الإمام أحمد أنه صحح حديثي أبي موسى وأبي هريرة. والله أعلم. |
↑6 | أخرجه أحمد 22671، وأبو داود 823، والترمذي 311 من طريق محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: فذكره. وأخرجه أبو داود 824، والدارقطني 1217، والبيهقي 2917، عن زيد بن واقد، عن مكحول، به. وقد اختلف فيه على مكحول: فرواه مرة عن محمود بن الربيع بهذا الإسناد، ومرة عن نافع بن محمود بن الربيع – وهو مجهول كما قال الطحاوي وغيره-، ومرة عن عبادة مرسلًا. ومكحول أرسل عن جماعة من الصحابة كما نقل ابن أبي حاتم في المراسيل ص 211 عن غير واحد من الأئمة النقاد، ووصفه الذهبي وغيره بالتدليس، ولم يصرح هاهنا بالسماع، فيحتمل أنه دلسه عن عبادة، والله أعلم. وينظر: ضعيف أبي داود" 1/317، رقم 146 والحديث قال عنه الترمذي: "هذا حديث حسن". وقال الدارقطني: "هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات". ونقله البيهقي وأقرَّه. وصححه ابن خزيمة 1581، وابن حبان 1785، وقال الحاكم 869: "إسناده مستقيم". وقال الخطابي في "معالم السنن" 1/205: "وإسناده جيد لا طعن فيه". وجوَّده ابن الملقن في "البدر المنير" 3/547. وقال الحافظ في "الدراية" 1/174: " رجاله ثقات". وصححه ابن حزم في "المحلى" 2/271 -272 وردَّ على الطاعنين فيه. وللحديث شاهد عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: أخرجه أحمد 18070، والبيهقي 2922 من طريق سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟ مرتين، أو ثلاثًا، قالوا: يا رسول الله، إنا لنفعل. قال: فلا تفعلوا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب. قال البيهقي: " هذا إسناد جيد". وقال الحافظ في "التلخيص" 1/566: " إسناده حسن". وصححه الشيخ شعيب في "المسند" 29/611 |
↑7 | ينظر: "فتاوى الشيخ ابن باز" 11/221 |
↑8 | شرح "زاد المستقنع، كتاب الصلاة" درس رقم /32/ |