إذا كبّرَ المسافرُ ولم يستحضرْ نيَّة القصرِ، أو شكَّ في نيّتِه -نوى أم لم ينوِ-: فإنَّه يقصر
إذا كبّرَ المسافرُ ولم يستحضرْ نيَّة القصر، أو شكَّ في نيّتِه: نوى أم لم ينوِ، فإنَّه يقصر [1] ، لأنَّ نيّةَ القصرِ ليست شرطًا، على الصَّحيح، فقد كان الصَّحابةُ يُصلّونَ مع النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ويقصرُ بهم ويقصرونَ دونَ أن يقولوا: إنّنا سنقصرُ، والنَّاسُ صلّوا مع النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في عرفةَ ولم يقل: إنَّنا سنقصرُ، وهكذا كان الصَّحابةُ يُصلّونَ مع النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولم يأمرْهم بالنيّةِ.
فالعبرةُ بالأصلِ؛ فمَن كان الأصل في حقِّهِ الإتمام: أتمَّ، ومَن كان الأصل في حقِّهِ القصر: قصرَ، فلو كبّرَ المسافرُ ولم يستحضرْ نيَّة القصرَ فإنَّه يُصلّي الصَّلاةَ التي فرضَها اللهُ عليه، والنيّةُ إنّما تُعتبرُ في أصلِ العبادةِ لا في صفاتِها ولا في أجزائِها، لو وجبتِ النيّةُ في أجزائِها لوجبَ على الإنسانِ حرجٌ عظيمٌ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ركعَ هل يستحضرُ نيَّةَ الرّكوعِ؟ لا، لأنَّه قد يكونُ ساهيًا، وهذا حالُ كثيرٍ مِن الناسِ، إنَّما تُشترطُ النيّةُ في نوعِ العبادةِ وعينِها، أمَّا صفاتُ الصَّلاةِ فلا تُشترطُ فيها النيّةُ، المقيمُ يُصلّي وإن لم يستحضرْ نيّةَ الإتمامِ، فالواجبُ عليه أربعٌ، وكذلك المسافرُ يُصلّي ولو لم يستحضرْ عند التَّكبيرِ أنَّ الواجبَ عليه ركعتان. [2]
إذا نوى المسافر إقامة أكثر مِن أربعةِ أيام: لزمَهُ الإتمامُ في المذهب [3] ، وهذه مسألةٌ عظيمةٌ، وجماهيرُ أهلِ العلمِ على تحديدِ المدّةِ التي إن نوى المسافرُ أن يُقيمَها يلزمُهُ الإتمامُ، ومن أقوالِ أهلِ العلمِ -وهذا أحدُها في هذه المسألةِ-: مَن نوى أن يقيمَ في مكانٍ أكثرَ مِن أربعةِ أيامٍ، وقيل: أربعةَ أيامٍ، وقيل: ثلاثةَ أيامٍ، وقيل: عشرةً، وقيل: خمسةَ عشرَ، وقيل: تسعةَ عشرَ، وقيل: عشرين [4]
ويقابلُ كلَّ هذه الأقوالِ قولُ مَن يقولُ: إنَّه لا يتقدّر بمدّة، بل المسافرُ إذا نوى الإقامةَ، ولم ينوِ الاستيطانَ، ولم ينوِ إقامةً مطلقةً، فإنَّه يقصرُ مطلقًا، ولو شهرًا أو شهرين أو سنةً أو سنتينِ، بل وقل: عشرةَ سنين . [5]
وفي الحقيقةِ هذه المسألةَ يجدُ الإنسانُ فيها حرجًا. كلُّ أصحابِ القولِ الأولِ مُطبقونَ على أنَّه لابدَّ من تحديدِ مدّةٍ، وأنَّه لا يُباحُ القصرُ مُطلقًا للمسافرِ، لكن يختلفونَ في تحديدِ المدّةِ، والقائلونَ بالإطلاقِ يقولونَ: لم يأتِ ما يدلًّ على أنَّ المسافرَ إذا أقامَ مدّةً محدودةً أنَّه يجبُ عليه الإتمامُ.
ومن يقولُ بتحديدِ أربعةِ أيامٍ يستدلُّ بأنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أقامَ أربعةَ أيامٍ بمكةَ لمّا قدمَ للحجِّ، فدخلَ مكةَ في اليومِ السَّابعِ من ذي الحجة، وخرجَ من مكةَ في يومِ التَّرويةِ [6] ، فأقامَ في مكةَ الرَّابعَ والخامسَ والسَّادسَ والسَّابعَ والثَّامنَ، أربعةُ أيامٍ أو أكثرَ بقليلٍ، حتى يقولون: واحد وعشرونَ صلاةً وهو يقصرُ، فمَن نوى إقامةَ هذه المدّةِ لزمَه الإتمامُ، أمّا مَن نوى يومًا أو يومين أو ثلاثةً فإنَّه لا يلزمُه الإتمامُ.
ومعلومٌ أنَّ إقامة الرَّسول -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- تلك لم تكن عن قصدٍ وتحرٍّ وتحديدِ المدّةِ، فلو تقدَّمَ دخولُه مكّةَ أو تأخَّرَ خروجُه من مكةَ فإنَّ ظاهرَ الواقعِ أنَّه لا فرقَ، ولم يقلْ لِمَن سَبَقَه في الوصولِ إلى مكّةَ: أنَّ عليهم أن يُتمّوا أو ما أشبهَ ذلك، لكن مَن قال هذا القولَ -أو غيرَ هذا القولِ- يقولون: إنَّ الأصلَ أنَّ المقيمَ فرضُهُ الإتمامُ، والقصرُ رخصةٌ، فالمسافرُ ضدُّ المقيمِ، فمَن أقامَ فإنَّ فرضَه الإتمامُ، ولكن علمنا مِن ذلك الواقعِ أنَّ مثل هذه المدّةَ لا ينقطعُ بها السَّفرُ مثلُ هذه المدّةِ، أربعةُ أيامٍ أو ثلاثةٌ أو عشرةٌ على حسبِ المذاهبِ.
ومَن يقولُ: تسعة عشر؛ يستدلُّ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أقامَ في تبوكَ تسعةَ عشرَ أو عشرينَ يومًا يقصرُ" [7] ، فطبّقَ الحكمَ على هذا الواقعِ.
ونقولُ إنَّ الاحتياطَ لِمَن أقامَ هذه المدّةَ أو قريبًا منها فممكن أن يقصر، أمّا إقامةُ المُددِ التي تجعلُ المسافرَ كليسَ بمسافرٍ؛ فليسَ بمسافرٍ، فمَن يعرفُ أنَّه سيقيمُ في هذا الموضعِ سنةً أو سنتين اختيارًا لا اضطرارًا، اختيارًا: لحاجةٍ من حاجاتِه، أمّا الاضطرارُ: مثلُ ما جاءَ عن ابنِ عمرَ أنَّه أقامَ بأذربيجان ستةَ أشهرٍ حبسَهُ الثلجُ [8] ؛ هذا على هيئةِ المسافرِ لكنَّه محبوس، أو كمسافرٍ عرضَ له عدوٌّ وأوقفَه في الطَّريقِ لأنَّه مضطرٌّ ومحبوسٌ، أمَّا الذي ذهبَ ليدرسَ وأقامَ شهورًا أو سنينَ، فهذا هيئتُه ليس كالمسافرِ، ولا تنطبقْ عليه صفةُ السفرِ، واللهُ أعلمُ.
وقد رجّح الشَّيخ محمَّد قولَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمهُ اللهُ، وبطريقتِه وجَّهَه ودلَّلَ عليه [9] ، ومع ذلك في الحقيقةِ تصعُبُ الفتوى به، واللهُ أعلمُ بالصَّوابِ. [10]
الحاشية السفلية
↑1 | ويتم في المذهب. ينظر: الإحالات السابقة. |
---|---|
↑2 | شرح زاد المستقنع، كتاب الصلاة، درس رقم 41 |
↑3 | ينظر: المنتهى 1/332، والإقناع 1/277 |
↑4 | ينظر: المغني 3/147 |
↑5 | وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. ينظر: مجموع الفتاوى 24/12، والاختيارات ص110 |
↑6 | أخرجه البخاري 7367 و1085، ومسلم 1213 و1240 من حديث جابر، وابن عباس. |
↑7 | أخرجه أحمد 14139، ومن طريقه أبو داود 1235، وابن حبان 2749 عن عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، قال: " أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة". وإسناده على شرط الشيخين. وله شاهد من حديث ابن عباس قال: «أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين» أخرجه البخاري 4298 و4299 |
↑8 | أخرجه عبد الرزاق 4339 من طريق عبد الله بن عمر، عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة". وأخرجه البيهقي 5476 من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: " أريح علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة ". قال ابن عمر: " وكنا نصلي ركعتين". وصححه النووي على شرط الشيخين، كما في نصب الراية 2/185. وصححه ابن الملقن في البدر المنير 4/546، والحافظ في التلخيص 2/117، والألباني في الإرواء 3/27 |
↑9 | ينظر: الشرح الممتع 4/ 375 |
↑10 | شرح "زاد المستقنع، كتاب الصلاة" درس رقم /41/ |