الرئيسية/الاختيارات الفقهية/عدم اشتراط الطهارة للطواف قول قوي والأحوط ألا يطوف إلا طاهرا
share

عدم اشتراط الطهارة للطواف قول قوي والأحوط ألا يطوف إلا طاهرا

 

عدمُ اشتراطِ الطَّهارة للطَّواف: قولٌ قويٌّ، والأحوطُ ألا يطوفَ إّلا طاهرًا

جمهورُ أهل العلم على اشتراط الطَّهارة للطَّواف [1] ، ومعنى الاشتراط: أنَّ مَن طاف محدثًا: لم يصح طوافه، ولو كان طواف الإفاضة: لم يتم حجه.
وأهم ما استدلّوا به: ما صحَّ عن ابن عباس مرفوعًا، وموقوفًا -والرَّاجح أنَّه موقوف-: "الطَّوافُ بالبيتِ صلاةٌ، إلّا أنَّ اللهَ أباحَ فيهِ الكلامَ"
[2] .
واستدلوا كذلك: بما صحَّ عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام- حين أراد أن يطوف، توضأ ثم طاف
[3] .
وربما استدلّوا أيضًا بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لعائشة:
(افعلي ما يفعلُ الحاج، غيرَ ألّا تطوفي بالبيت حتى تطهري) وفي رواية: (حتى تغتسلي)  [4] ، فأخذ أكثرُ أهل العلم مِن هذا: "اشتراط الطهارة للطواف".
ومنهم مَن يجعله واجبًا، وأنه يعفى عنه في النّسيان، ومنهم مَن يفرّق بين الطواف، يعني: طواف المُحدث حدثًا أصغر، وطواف الجنب
[5] .
والذين قالوا: "لا تشترط الطّهارة للطّواف"، وهم قليل مِن أهل العلم، كشيخ الإسلام
[6] ، أجابوا عن أدلة الجمهور، فقالوا: إنّ وضوء النَّبي للطَّواف هذا فعل، ومجرد الفعل لا يدلّ على الوجوب، غاية الأمر يدل على الاستحباب [7] .
وكون ذلك داخل في مناسك الحج: لا يستلزم الوجوب ؛ لأن هناك أشياء كثيرة مما يستحب في الحج، وهذا منها.
ثم يمكن أن يقال: إنّ الرسول توضأ ؛ لأمرين:
لأنه مستحبٌّ، يعني توضأ للطواف ؛ لأنه عبادة، والطهارة في العبادة لا شك أنها أفضل.
ولأنه يشرع للطائف أن يصلي، فلابدَّ لِمَن أراد الطواف أن يتطهر، إذا كان يريد أن يصلي.
والأصل: أن مَن طاف سيصلي، لا يكاد طائف إلا أن يصلي ركعتين، وصلاة الركعتين بعد الطواف: قيل: إنها واجبة في الطواف الواجب، مستحبة في الطواف المستحب
[8] .
وأما حديث:
(الطَّواف بالبيت صلاة) :
فأولاً: المرجَّح أنَّه مِن قول ابن عباس.
والثاني: لا يلزم مِن هذا اللفظ أن تكون أحكام الطواف كأحكام الصَّلاة، ولا يستثنى منه إلا الكلام.
وبالمقارنة بين الطواف والصَّلاة: نجد بينهما فروقًا كثيرة ؛ فهل تجب للطواف تكبيرة إحرام ؟! هل يجب فيه سلام ؟! هل تجب فيه قراءة سورة الفاتحة ؟! هل يجوز الالتفات فيه ؟! يجوز فيه الالتفات، ويجوز التوقف، والانشغال عنه بالصَّلاة المكتوبة، أو بصلاة الجنازة.. إلخ.
وإطلاق اسم "الصَّلاة" لا يكفي في أن يُعطى جميع أحكام الصَّلاة، إلا ما استثني، ويمكن أن نقول: إنَّه مِن نوع الصَّلاة، مِن جهة تعلقه بالبيت، فالصَّلاة لابدّ فيها من استقبال القبلة، والطواف متعلّق بالبيت، ولا يجب استقبال القبلة في الطواف، فلو أن واحدًا طاف مستقبلًا القبلة، فالأشبه أنه ما يصح، فلو طاف على جنب مستقبلاً القبلة يصبح بدعة.
حتى قال العلماء: مِن شروط صحة الطّواف: جعل البيت عن يسارك
[9] .
إذاً: الطواف يختلف عن الصَّلاة في أكثر الأحكام، فلا ركوع فيه، ولا سجود، ولا تسبيح.
وأما نهي الحائض عن الطواف بالبيت: فهذا محتمل، فالذين اشترطوا الطهارة قالوا: إنما نُهيت عن الطواف مِن أجل اشتراط الطهارة للطواف.
ومَن يمنع يقول: إنّما نُهيت لأن طوافها بالبيت يستلزم المكث في المسجد.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام كثير في شأن المرأة الحائض إذا اضطرت إلى السفر، ولا تستطيع البقاء وهي لم تطف طواف الإفاضة، فتكلم على هذه المسألة، كلاماً طويلاً، وبتوجيهات، وبخيارات، وتقديرات
[10] .
فقوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
(غير ألا تطوفي) فيه نهي لها عن الطَّواف، ولم يأت تصريح بالعلّة، هل ذلك للطهارة؟ يعني لعدم الطهارة، أو لوجوب الطهارة في الطواف، أو لأن الحائض لا تدخل المسجد، وأن الطواف يستلزم المكث في المسجد؟ محتمل لهذا، وهذا.
ومع هذا كله نقول: ينبغي للمسلم ألا يطوف، وأن لا يتعمد الطواف بالبيت إلا طاهرًا.
وهناك حلول: لو طاف طواف الإفاضة محدثًا وهو في مكة، ممكن ننصحه أن يعيد الطَّواف مادام هو في سعة، وفي إمكانه أن يعيد الطّواف، حتى يخرج مِن الخلاف، ولاسيما أن جماهير أهل العلم على هذا، حتى يكون على يقين، وعلى طمأنينة ؛ لأنَّه لو سأل سيجد مَن يفتيه، أو أكثر مَن سيفتيه سيقول له: طوافك غير صحيح !.
ولا شك أن القول بعدم اشتراط الطَّهارة قوي ؛ لأنَّ الأمر بالوضوء للصَّلاة جاء صريحاً في القرآن: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:٦].
وقال النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-:
(لا تُقبلُ صلاةٌ بغيرِ طُهورٍ) [11] ، وقال: (لا يقبلُ اللهُ صلاةَ أحدكم إذا أحدثَ حتى يتوضّأ) [12] ، وفي الحديث الآخر: (إذا فَسَا أحدُكم في الصلاةِ، فلينصرفْ، وليَتَوَضَّأْ، وليُعِدِ الصلاةَ) [13] . وفي حديث عبد الله بن زيد قال: (لا ينصرف حتى يسمعَ صوتاً أو يجد ريحاً) [14] ، معناه: أنَّه إذا أحدث وجبَ عليه الانصراف.
ولم يأت شيء مِن هذا النوع في الطَّواف، والناس الذين حجوا مع النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كثيرون، فهل يتطلب أن يبيّن الرّسول هذا الأمر: أن لا يطوف أحد منكم حتى يتوضأ ! إذا أحدث أحدكم فلا يطوف بالبيت، أو ما أشبه ذلك، كما جاء في الصَّلاة ! .
فالقول بعدم اشتراط الطهارة: فيه قوّة، لولا جماهير أهل العلم، ولأهل العلم تقدير لاجتهادهم، وفهمهم، فلا يستهان به، ولا يستخف بأمر الطَّهارة في الطواف، مع أننا نقول هذا لكم، ولو حصل لي -مثلاً في الطواف- لأعدت طوافي، ولو حصل لي في حال سعة -طواف مستحب- خرجت، وجددت الوضوء، والحمد لله
[15] .


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1   ينظر: "المغني" 5/222- 223.
2   أخرجه الدارمي 1889-1890، وابن الجارود 461، وابن خزيمة 2739، والحاكم 1686، وابن حبان 3836، والبيهقي 9303 من طرق، عن عطاء بن السائب، عن طاووس، عن ابن عباس، مرفوعًا.
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد أوقفه جماعة".
قلنا: وعطاء بن السائب صدوق إلا أنه اختلط، وقد رواه عنه الثوري، وهو "ممن سمع قبل اختلاطه باتفاق"، كما قال الحافظ في "التلخيص" 1/359. ولم ينفرد به عطاء عن طاووس، فقد تابعه جماعة.
والصحيح عنه أنه موقوف: أخرجه عبد الرزاق 9790، والنسائي في "الكبرى" 3931، والبيهقي 9306 من طرق، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس موقوفًا.
وتابعه ابن طاووس: أخرجه عبد الرزاق 9789 ومن طريقه البيهقي 9293 عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس موقوفًا.
والحاصل أن الحديث كما قال الحافظ: "اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف: النسائي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي، ورجح رفعه: الحاكم" ومال إليه الحافظ. وينظر: "نصب الراية" 3/57، و"البدر المنير" 2/487، و"التلخيص الحبير" 1/358، رقم 174، و"إرواء الغليل" 1/154، رقم 121.
3   أخرجه البخاري 1614 و 1615 ومسلم 1235 من حديث أم المؤمنين عائشة.
4   أخرجه البخاري 305، ومسلم 1211
5   ينظر: "المغني" 5/223.
6   ينظر: "مجموع الفتاوى" 21/270.
7   ينظر: "مجموع الفتاوى" 21/270، 273 26/123.
8   ينظر "المغني" 5/232.
9   ينظر: "المغني" 5/231.
10   ينظر: "مجموع الفتاوى" 26/199، 242 ، 243، "الاختيارات" ص45.
11   أخرجه مسلم 224 من حديث عبد الله بن عمر.
12   أخرجه البخاري 6954 من حديث أبي هريرة.
13   أخرجه عبد الرزاق 529 وعنه أحمد 39/ رقم 33-36، وأبو داوود 205، والترمذي 1164، والنسائي في "الكبرى" 8976 و 8977، وابن حبان 2237، والدارقطني 562، والبيهقي 3381، والبغوي 752 من طرق، عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن علي بن طلق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وزاد بعضهم: "ولا تأتوا النساء في أعجازهن، فإن الله لا يستحيي من الحق".
قال الترمذي: " حديث علي بن طلق حديثٌ حسن، وسمعتُ محمدًا يقول: لا أعرف لعلي بن طلق عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد" وبنحوه قال في "العلل الكبير" رقم 40.
قلنا: مسلم بن سلام لم يرو عنه غير عيسى بن حطان، وكلاهما مجهولان، فأما عيسى بن حطان: فقد نقل الترمذي عن البخاري في "العلل الكبير" 41 قوله: "وعيسى بن حطان الذي روى عنه هذا الحديث رجل مجهول". ومسلم بن سلام لم يوثقه غير ابن حبان، وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 5/191: " مجهول الحال" وضعّف الحديث، وأقرّه الزيلعي في "نصب الراية" 2/62، والحافظ في "التلخيص" 1/653، رقم 429، والألباني في "ضعيف أبي داود" 1/66، رقم 27.
14   أخرجه البخاري 137، ومسلم 361.
15   "شرح زاد المستقنع"، كتاب الطهارة، درس رقم 14، وكتاب الحج، درس رقم 12.