وجوبُ الزكاةِ في الحُليِّ المعدِّ للاستعمال قولٌ قويٌّ، وينبغي الاحتياطُ بإخراج الزكاة
اختلفَ العلماءُ في الحُليِّ المُعدِّ للاستعمال أو المُقتنى للاستعمال، فذهب جمهورُ العلماء إلى أنَّه لا زكاة فيه، بل هو كالثّياب وكلّ ما يُقصد للقنية، أي لا للتّجارة [1]، ومُستندُهم في ذلك: ما جاءَ عن جمعٍ مِن الصّحابةِ -رضي اللهُ عنهم- أنَّهم لا يروَن الزَّكاةَ في الحُليِّ؛ كعائشةَ [2]، وأسماءَ [3]، وجابرٍ[4]، وغيرِهم مِن الصَّحابةِ [5]، وهذا أقوى ما يستدلّونَ به، وأمَّا حديثُ: (ليسَ في الحُليِّ زكاةٌ) [6] فقد ضعّفه أهلُ العلمِ، وإلَّا لو صحَّ لكانَ حاسِمًا للموضوعِ، لكنّه ضعيفٌ، وقالوا: قياسًا على سائرِ حاجاتِ الإنسانِ التي يتّخذُها للقُنيةِ.
والقولُ الآخرُ أنَّ فيها الزَّكاةُ [7]، يعني فيما بلغَ منها نصابًا، ودليلُهم في المسألةِ: عمومُ الحديثِ المتّفقِ على صحّته: (مَا مِن صَاحبِ ذَهَبٍ أو فضَّةٍ لا يُؤدِّي مِنها حقَّها، إلّا إذا كانَ يومُ القيامةِ صُفِّحتْ لَهُ صَفائحَ مِن نارٍ، فأُحمي عَليها في نارِ جَهنَّم، فيُكوى بِها جَنبُه وجَبينُه وَظَهرُه) [8]، على حدِّ ما جاءَ في الآيةِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]
فالآيةُ والحديثُ فيهما عمومٌ: الذّهبُ والفضّةُ، فلا يَخرجُ من هذا العمومِ إلّا بدليلٍ، والأصلُ بقاءُ العامِّ على عمومِه إلّا أنْ يخصّه دليلٌ صحيحٌ، وعَضَدَوا هذا الاستدلالَ بهذا العمومِ بما وردَ في الأحاديثِ، وهي أحاديث مُتكلَّمٌ فيها [9]، لكنّهم اعتضدوا بها لموافقتِها للعمومِ؛ لأنّها موافِقةٌ لعمومِ الكتابِ والسُّنّةِ، ومنها: حديث عَمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّهِ في قصّةِ المرأةِ التي حضرتْ عند الرّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ومعها ابنةٌ لها وفي يدي ابنتِها مَسكتانِ غليظتان. [10]
وأجابوا عن حديث: (ليسَ في الحُلِيِّ زكاةٌ) بأنَّ فيه ضعفًا، وأمّا ما جاءَ عن الصّحابةِ فيقولون: لا قولَ لأحدٍ مع قولِ الرّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، ومعناهُ أنَّه يُؤخَذُ مِن أقوالِهم ما لم يُخالفْ نصًا مِن كتابِ اللهِ أو سنَّةٍ، فلا يُخصُّ الكتابُ والسنّةُ بقولِ صحابيٍّ، ولو كان إجماعًا لتوجّه قولُهم، لكنَّ الذي يظهرُ أنَّه ليس بإجماعِ الصَّحابة، يعني القول بعدمِ وجوب الزَّكاةِ في الحُليِّ، فلو كان إجماعًا لقلنا إنَّ الإجماعَ دليلٌ، والإجماعُ لا يُخصُ به العمومُ بذاتِه، لكنَّ الإجماعَ دليلُ وجودِ مُخصّصٍ، لأنَّه لا يجوزُ أنْ يُجمِعَ الصَّحابةُ بل لا يجوزُ للأمَّةِ أن تُجمِعَ على خلافِ نصٍّ، فإذا وُجِدَ الإجماعُ دلَّ ذلك على وجودِ مُخصّصٍ وإنْ لم نعلمْ به.
والشَّيخُ محمَّد -رحمهُ اللهُ- معروفٌ مذهبُه في هذا، وقد تكلَّمَ عن هذهِ المسألةِ وألّفَّ فيها رسالةً [11]، وشرحَ الموضوعَ، وسبقهُ إلى هذا شيخُنا عبدُالعزيزِ بن بازٍ [12]، ولعلّه هو أوّلُ مَن أظهرَ هذا الرَّأيَ وقال به، ومعلومٌ عن منهجِ الشَّيخِ عبدِ العزيزِ بن بازٍ أنَّه يُعوّلُ على الأدلَّةِ، ولا يلتزمُ بمذهبٍ وإن كانت مدرستُه حنبليّةٌ، ودرسَ على علماء يلتزمونَ في الغالبِ مذهبَ الإمامِ أحمدَ وإن كانوا يختارون ويُرجّحون ولا يتعصّبون رحمهم اللهُ تعالى.
فيظهرُ مِن مُجملِ استدلالاتِ الطّرفينِ أنَّ القولَ بوجوبِ الزكاةِ قولٌ قويٌّ، لذا أرى أنَّه ينبغي الاحتياط بإخراج الزَّكاة، وقد قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 110]
ومَن كانَ في ماضي الزَّمان لا يُخرج زكاة الحُليِّ عملًا بفتوى مَن لا يرى الزَّكاة في الحليّ: فليسَ عليه أن يُخرِجَ زكاة ما مضى مِن أعوام، ولكن عليه أن يستقبل السّنين القادمة بإخراج الزّكاة.
وعلى كلّ حالٍ: تبقى المسألةُ خلافيّةً ومحلَّ اجتهادٍ، ولا يُعنَّفُ على مَن ترجَّحَ عنده أحدُ القولين، ولا يتعصّبُ لرأيٍ أو مذهبٍ، ويجبُ العدلُ وتحرّي الحقَّ، ونسألُ اللهَ أن يهدينا لِمَا اختُلفِ فيه مِن الحقِّ بإذنِه.
وأنا أمامَ هذا الاختلافِ لم أجدْ في نفسي قوَّةَ الجزمِ بالوجوبِ، بحيث أقولُ للسَّائلِ: "إنّها واجبةٌ، وإذا لم تزكّ فأنتَ آثمٌ"، وأعطيه حكمَ مانعِ الزّكاةِ !
ولابدَّ مِن التَّنبيه إلى أنَّ الذين لم يُوجبوا الزَّكاةَ في الحُلي خصَّوه بما إذا كان معدًّا للاستعمالِ، سواءً استُعمِلَ أو لم يُستعمَل، يعني ليس لُبسُ الحُليِّ هو الشّرطُ في إسقاطِ الزَّكاةِ عندهم، بل الشَّأنُ أنَّه مُعَدٌّ للباسِ لُبِسَ أم لم يُلبَس، أو العاريةِ فإنّها أيضًا لباسٌ، لأنَّه مِن النَّاسِ مَن يتملَّكُ ذهبًا مِن أجلِ أن يُعيرَه، وهذا عملٌ صالحٌ لأنَّه إعانةٌ على أمرٍ مباحٍ يحتاجُ إليه النَّاسُ في بعضِ الأحوالِ.
قالوا: أمَّا إذا أُعِدَّ للكِرى أو النّفقةِ أو كان محرَّمًا مثلَ الذّهبِ للرّجالِ: ففيه الزَّكاةُ، أو إذا كان ذهبًا كثيرًا وفيه إسرافٌ كما في حُليِّ المرأةِ قالوا: ففيهِ الزّكاةُ، لأنَّ الرّخصةَ لا تُجامعُ التّحريمَ، فالمحرَّمُ ليس محلًا للتّرخيصِ، فإذا كان هذا الحُليُّ محرَّمًا فهو ليس محلًا للرّخصةِ بل تجبُ فيه الزَّكاةُ.
وكل ما سبق إذا كان الحُلي معدًّا للاستعمال، أمّا إذا كان الحُلي معدًّا لحفظ المال: فإنَّها تجبُ فيه الزَّكاة بإجماع العلماء ولابد، والله أعلم . [13]
وأخرجه عبد الرزاق 7051 عن ابن جريج قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها سألت عائشة عن حلي لها هل عليها فيه صدقة؟ قالت: «لا».
وأخرجه عبد الرزاق 7048 و7049، وابن أبي شيبة 10177 من طرق، عن أبي الزبير المكي، عن جابر مثله.
وأخرجه الدارقطني 1955 عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله: قال: «ليس في الحلي زكاة». وقال: أبو حمزة هذا ميمون ضعيف الحديث.
وأخرجه النسائي 2480 من طريق المعتمر بن سليمان، عن حسين، عن عمرو بن شعيب مرسلًا. وقال عقبه: "خالد أثبت من المعتمر، وحديث معتمر أولى بالصواب". وقال البيهقي: "وهذا يتفرد به عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده". وقال الترمذي: "وفي إسناد هذا الحديث مقال".
وأخرجه الدارقطني 1961 من طريق الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، وبه. وقال عقبه: "حجاج هو ابن أرطأة لا يحتج به".
وأخرجه الترمذي 637 من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، به. وقال عقبه: "وهذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان في الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء".