الإيمان بالقدر

 

الإيمان بالقدر

  تنويه :
– البحث أدناه مختصر، ولتحميل البحث كاملًا يرجى الضَّغط على أيقونتي: word – pdf أعلاه .
-هذا المبحث العلمي مُستخلص مِن مؤلَّفات وفتاوى فضيلة الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك -حفظه الله- .
-إعداد: اللجنة العلميَّة 

***          ***          ***

* معنى القدر
الإيمانُ بالقدرِ هو الأصلُ السادسُ من أصولِ الإيمانِ، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) [1] .
ولفظُ القدرِ يُطلَقُ بمعنى التقدير، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
(كتبَ الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السّماوات، والأرضَ بخمسين ألف سنة) [2] أي: تقديرُ اللهِ لمقادير الأشياء.
ويُطلَقُ القَدَرُ على الشيءِ المقدَّرِ، فإذا حدثَ الآن حادثٌ للإنسان يقولُ: هذا قدرٌ، أي: هذا مُقَدَّرٌ قد قَدَّره الله، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
(وإن أصابَك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعل) [3] . [4]

* القضاء
القضاءُ يُطلَقُ على عدّةِ معاني، ومنها الحُكْمُ، وأمَّا القَدَرُ فهو التقديرُ.
وكلٌّ منهما يُطلَقُ على اسمِ المفعولِ، فيُطلَقُ القضاءُ على المقضيِّ، والقدرُ على المقدَّرِ، فتقولُ عن الشيءِ الواقعِ الذي حدثَ: هذا قدرُ اللهِ، وتقولُ: هذا قضاءُ اللهِ؛ أي: ما حكمَ به سبحانَه وتعالى.
[5]
فالقدرُ مِثلُ القضاءِ؛ فإنه يُطلّقُ ويُرادُ به الحُكْمُ، وهو فعلُ الربِّ تعالى، ويُطلقُ ويُرادُ به المقضي، وهو ما قضاه اللهُ وشاءَه من المخلوقات، ولهذا يقولُ المسلمونَ فيما يحدثُ: هذا قضاءٌ وقدرٌ، أي: هذا أمرٌ مقضيّ مُقدَّرٌ، حَكَمَ اللهُ به، وقدَّرَه سبحانَه وتعالى. [6]

* النهي عن الخوض في القدر
من الأمورِ التي حدثتْ في الأمةِ الاختلافُ في القَدَرِ؛ ولهذا جاءَ في الآثارِ النهيُ عن الخوضِ في القدرِ؛ الخوضُ يعني: الكلامُ في القدرِ. والكلامُ في القدرِ على وجوهٍ: خوضٌ في الآياتِ، ودعوى التعارضِ بينها، والجدالُ في ذلك، وكذلك الكلامُ في شبهاتِ المُثْبتينَ -الجبرية-، والنافين -القدرية المعتزلة-، وكذلك الخوضُ في سِرِّ القدرِ، كلُّ هذا من الخوضِ المذمومِ.
أمَّا الكلامُ في القدرِ لبيانِ وجوبِ الإيمانِ به، وذِكْرِ الأدلّةِ على ذلك، وبيانِ أنَّ ذلك لا ينافي الشرعَ والأمرَ والنهيَ، وأنَّه لا بدَّ من الإيمانِ بهذا وهذا… فالخوضُ في القدرِ لبيانِ الحقِّ، ما يجبُ من الاعتقادِ؛ هذا مِنَ الكلامِ المشروعِ، ومِنَ الكلامِ في العلمِ النافعِ؛ لتحصيلِ الفرقانِ بين الحقِّ والباطلِ.
فلا يصحُّ إطلاقُ القولِ بتحريمِ الخوضِ في القدرِ، لكن إذا أُطلِقَ فالمُرادُ به: الخوضُ على غيرِ بصيرةٍ، ولا لغايةٍ شرعيّةٍ.

* عجز الخلق عن معرفة حِكم وأسرار القدر
قَدَرُ اللهِ وقضاؤه الشاملُ النافذُ له حِكَمٌ وأسرارٌ لا سبيلَ للخلقِ إلى معرفتِها، فإنَّ الخلقَ لا يُحيطون به تعالى علمًا، لا بذاتِه ولا صفاتِه ولا أفعالِه ولا بحكمتِه في خلقِه وأمرِه. وما دامَ أنَّ اللهَ تعالى قد استأثرَ بذلك؛ فلا تطلبْ ما لا سبيلَ إلى معرفتِه.والرسلُ الذين هم صفوةُ الخلقِ، والمقربونَ من الملائكةِ لم يُطلَعوا على سرِّ القدرِ، فهذا يؤكّدُ أنَّ ذلك مما استأثرَ اللهُ به واختصَّ بعلمِه، فسرُّ القدرِ من الغيبِ المطلقِ.

* البحث في أسرار القدر سبب للضلال
التعمُّقُ والنظرُ في أسرارِ القدرِ والبحثُ عن ذلك سببُ الشقاءِ والهلاكِ، وسببٌ لخذلانِه -العبد- وعدمِ توفيقِه، وحرمانِه من الاستقامةِ، وسببٌ للطغيانِ، فالذي يبحثُ ويخوضُ ويتعمَّقُ قد طغى وتعدَّى حدَّهُ، قفْ فأنتَ ضعيفٌ وعبدٌ ومحدودُ الإدراكِ، ولا تطلبْ ما ليس لك، ولا ترمِ ما لا سبيل لك إليه، ولا قدرةَ لك عليه. فالتعمُّقُ والنظرُ سببٌ لكلِّ شرٍّ وشقاءٍ وهلاكٍ، فإنَّه يضربُ في متاهةٍ لا ينتهي فيها إلى حدودٍ، فعلمُ أسرارِ القدرِ من العلمِ الذي لا يجوزُ أن يُطلَبَ. [7]

* معنى الخير والشر في القدر
جاء في الحديث: (وتؤمنَ بالقدرِ خيرِه وشرِّه).
لا شكَّ أنَّ المقدّراتِ المخلوقاتِ فيها خيرٌ وشرٌّ وحلوٌ ومرٌّ، فيها النِّعَمُ والمصائبُ، فيها طيّبٌ وخبيثٌ، وحسنٌ وقبيحٌ، هذه المخلوقاتُ فيها هذا التنويعُ. فإذا أُريدَ بالقَدَرِ: المقدَّرَ فهذا أمرٌ ظاهرٌ، نؤمنُ بأنَّ كلَّ الأشياءِ مُقدَّرةٌ مخلوقةٌ لله، واقعةٌ بقدرةِ اللهِ ومشيئته، لا يخرجُ شيءٌ منها عن ملكِ الله، فكلُّ ما يجري في الوجودِ من خيرٍ وشرٍّ؛ فهو بمشيئةِ اللهِ وخلقٌ لله، ومقدَّرٌ بتقديرِ اللهِ، وهو مَقضيٌّ بحُكْمِ اللهِ وقضائِه.
ويُفسَّرُ الخيرُ باللذاتِ وأسبابِها، والشرُّ بالآلامِ وأسبابِها، لكن هناك لذَّاتٌ في نفسِها لكنَّها أسبابٌ لآلامٍ طويلةٍ، فتكون في ذاتِها خيرًا، لكنَّها شرٌّ باعتبارِ ما تفضي إليه، فالمعاصي شرٌّ وإن استلذّتها النفوسُ؛ لأنّها تُفضي إلى أعظمِ الآلامِ.
[8]
أمَّا فِعْلُ الربِّ سبحانه: حُكْمُه وقضاؤه وتقديرُه فكلُّه خيرٌ، ليس فيه شرٌّ، والشرُّ لا يُضافُ إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلًا، فالشرُّ لا يكون في أسمائِه فكلُّها حُسنى، ولا في صفاتِه فكلُّها صفاتُ كمالٍ وحمدٍ، ولا في أفعالِه فكلُّها أفعالُ عدلٍ وحِكمةٍ، وإنّما يكون في مفعولاتِه، أي: مخلوقاتِه، وهذا ما فُسِّرَ به قولُ النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (والشرُّ ليس إليك) [9] ؛ أنه تعالى لا يخلقُ شرًا محضًا؛ بل كلُّ الشرِّ الذي في المخلوقاتِ شرٌّ نسبيٌّ ليس شرًا محضًا.
والشرُّ الذي في المخلوقات لا يُضافُ إلى الله مفردًا أبدًا؛ بل إمَّا يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، وكقوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، يعني: الخيرَ والشرَّ. وإمّا بصيغةِ البناءِ للمفعول، كقولِه تعالى عن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]. وإمَّا أن يُضافَ إلى خلقِه سبحانه، كقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2].
[10]
هذه الوجوهُ التي يُعبَّرُ بها في إضافةِ الشرِّ المخلوقِ.
وعلى هذا فلا ينبغي أن تقول: اللهُ خالقُ الشرِّ، لكنْ قل: اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، وهذا معنى التعبير بالعموم، وقل: فلانٌ أُريدَ به السُّوءُ، ولا تقل: أرادَ اللهُ به.
وهكذا في النفعِ والضرِّ؛ فلا تقل: اللهُ هو الضارُّ؛ بل قل: اللهُ هو النافعُ الضارُّ، وهذا من جنسِ الأوّلِ في التعبير بالعمومِ. ومن هذا ما ذكرَ اللهُ من قولِ إبراهيمَ عليه السلام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:77-80]، ولم يقل: وإذا أمرضني شفاني، وهذا من الأدبِ في الإخبارِ عن الله سبحانه وتعالى.
[11]
 
* مراتب الإيمان القدر
الإيمانُ بالقدرِ يتضمَّنُ أربعَ مراتبَ:
1. الإيمانُ بعلمِ اللهِ السابقِ بكلِّ شيءٍ.
2. الإيمانُ بكتابتِه سبحانَه لمقاديرِ الأشياءِ كلِّها.
3. الإيمانُ بعمومِ مشيئتِه تباركَ وتعالى.
4. الإيمانُ بأنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير. 

المرتبةُ الأولى: الإيمانُ بأنَّ اللهَ عَلِمَ ما يكون قبلَ أن يكونَ بعلمِه القديمِ الأزلي، وعَلِمَ ما العبادُ فاعلونَ من الطاعاتِ والمعاصي، كلُّ ذلك معلومٌ للربِّ بعلمِه القديمِ.
قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
تأمَّلْ ماذا يتساقطُ من أوراقِ وحبوبِ الزروعِ والأشجارِ المأكولةِ وغيرِ المأكولةِ في القِفَارِ وفي الديارِ؟!
وتأمَّلْ قولَه: وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ، فإنّها تشملُ كلَّ شيءٍ من هذه الكائناتِ، وقِسْ سائرَ المخلوقاتِ على هذين المثالينِ المذكورين.
المرتبةُ الثانيةُ: الإيمانُ بأنَّ اللهَ كتبَ مقاديرَ الأشياءِ عنده في كتابٍ، وهو: اللوحُ المحفوظُ، وهو أمُّ الكتابِ، وهو الكتابُ المبينُ، أو الإمامُ المبينُ، وهو الذِّكرُ، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء:105]، كتبَ ذلك بقلمِ المقاديرِ، كما في الحديثِ الصحيحِ عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (كتبَ اللهُ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفِ سنةٍ) [12] .
وفي الحديثِ الآخر عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
(كان اللهُ ولم يكن شيءٌ قبلَه، وكان عرشُه على الماء، وكتبَ في الذّكرِ كلَّ شيءٍ) [13] ، فكلُّ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ قد كُتِب، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [سورة القمر:53].
ومن أدلّةِ المرتبتين العلمُ والكتابةُ: قولُه تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة الحج:70].
هذا التقديرُ العامُّ الأوَّلُ.
وهناك تقديراتٌ أخرى:
تقديرٌ ثانٍ: يتعلَّقُ بآدمَ وذريّتِه، قَبْلَ أن يَخلُقَ اللهُ آدمَ بأربعين عامًا، كما في الحديثِ الصحيحِ في مُحاجّةِ آدمَ وموسى، قال آدمُ لموسى عليهما السلام:
(… هل وجدت في التوراة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عَملْتُ عملًا كتبَه اللهُ عليَّ أنْ أعملَه قبل أن يخلقني بأربعين سنةٍ؟ قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فحجَّ آدمُ موسى) [14] .
وتقديرٌ ثالثٌ: وهو تقديرٌ يتعلَّقُ بكلِّ إنسانٍ، فكلُّ إنسانٍ له تقديرٌ خاصٌّ، كما في الحديثِ المتّفقِ على صحّتِه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنه قال في الجنينِ عندما يبلغُ أربعةَ أشهرٍ:
(فيأتيه الملكُ فينفخُ فيه الروحَ، ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ بكتْبِ رزقِه وأجلِه وعملِه وشقيٌّ أو سعيدٌ) [15] .
وتقديرٌ رابعٌ: وهو التقديرُ الحوليُّ؛ وهو ما يكون في ليلةِ القدْرِ: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان:3-4].
وسُمّيتْ ليلة القدْرِ؛ لأنَّ اللهَ يُقدِّرُ فيها ما يكون في السنّةِ من ليلةِ القدرِ إلى مثلها؛ أي: من السنةِ إلى السنةِ. وهذه التقديراتُ لا تُناقِضُ التقديرَ والكتابَ الأولَ، واللهُ تعالى حكيمٌ عليمٌ.
المرتبةُ الثالثةُ: الإيمانُ بأنَّ ما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ هذا الوجودَ لا يكون فيه من حركةٍ، ولا سكونٍ، ولا تقديمٍ، ولا تأخيرٍ، ولا وجودِ صغيرٍ ولا كبيرٍ إلا بمشيئةِ اللهِ سبحانه.
وهذه المرتبةُ مضمونُها الإيمانُ بعمومِ مشيئةِ اللهِ؛ لأنَّ مشيئةَ اللهِ عامَّةٌ، لا يخرجُ عنها شيءٌ؛ لا أفعالُ العبادِ، ولا الحيوانِ ولا غيرها.
المرتبةُ الرابعة: الإيمانُ بأنَّ اللهَ تعالى خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٍ، فهو خالقُ السماواتِ والأرض ومن فيهنَّ، وما بينهما من الذواتِ والصفاتِ والأفعالِ، خالقُ العرشِ وما دونَ العرشِ، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الزمر:62].

الخلاصة: أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ لا يتمُّ إلا بهذه الأمورِ الأربعة، وتُسمّى: (مراتبُ الإيمانِ بالقدرِ)، وعلى هذا فكلُّ ما في هذا الوجودِ فهو بقَدَرِ الله، وهو حاصلٌ بتقديره وتدبيره وقضائِه وحكمِه، كما قال اللهُ تعالى: إنَّا كُلَّ شَيءٍ خلقناهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فلا خروجَ لشيءٍ عن مشيئتِه وعن تقديرِه وعن تدبيره، وأهلُ السنّةِ والجماعة يؤمنونَ بالقدرِ على هذا الوجهِ بمراتبِه الأربعةِ. [16]

* مذاهب الناس في الإيمان بالشرع والقدر
ومع الإيمانِ بالقدرِ بما يشتملُ عليه من الأمورِ الأربعةِ التي نقول: إنها مراتبُ الإيمانِ بالقدرِ؛ فإنَّه يجبُ الإيمانُ بالشرعِ، وقد اختلفَ الناسُ في هذا المقامِ:
فمنهم مَنْ آمنَ بالشرعِ، وأنكرَ القَدَرَ، وهم: القدريّةُ؛ كالمعتزلةِ، وغيرِهم.
ومنهم مَنْ آمنَ بالقدرِ، وكفرَ بالشرعِ، أو أعرضَ عن الشرعِ، ولم ينظرْ إليه؛ كالجبريّةِ الذين يقولون: الإنسانُ مجبورٌ على أفعالِه.
وشرُّهم الذين يُعارضونَ الشرعَ بالقدرِ، ومنهم المشركون الذين قالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، فعارضوا دعوةَ الرسلِ محتجّينَ بالقدرِ.
وطائفةٌ قالوا: إنَّ الشرعَ والقدرَ فيهما تناقضٌ، فطعنوا في حكمةِ الربِّ سبحانَه، وتُعَارِضُ بين الشرعِ والقدرِ، وإن أثبتتهما، وتُسمَّى: الإبليسية؛ فزعيمُهم في هذا إبليسُ، فهو الذي أعترضَ على الربِّ، وطعنَ في حكمتِه، مع إقرارِه بالشرعِ والقدرِ، فكان هو إمامُ هذه الطائفةِ المخذولةِ.
وأهلُ السنةِ والجماعةِ: يؤمنونَ بالقدرِ ويؤمنون بالشرعِ، وأنَّ اللهَ أمرَ عبادَه بالإيمانِ والطاعاتِ، ونهاهم عن الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، وأنه تعالى يحبُّ المتقينَ والمقسطيَن والتوّابينَ والمتطهرين، ولا يرضى لعبادِه الكفرَ، ولا يحبُّ الفسادَ والمفسدينَ، ولا يرضى عن القومِ الفاسقين.
فمن أنكرَ واحدًا منهما، أو غفلَ عنه ضلَّ عن الصراطِ المستقيمِ، وانحرفَ في سلوكِه وتصرفاتِه، وفسدَ من أمورِ المجتمعِ بحسبِ ما وقعَ من الخللِ في ذلك، فلا بدَّ من النظرِ إلى الأمرين جميعًا، ووضعِ كلٍّ من الأمرين في موضعِه، فعندَ المصائبِ عليك أن تنظرَ إلى القدرِ، وتؤمنَ بقدرِ اللهِ، ولا تتسخّطَ من قضائِه وقدرِه، وعند المعائِبِ والمعاصي عليك أن تنظرَ إلى الشرعِ؛ فتلومَ نفسكَ، وتستغفرَ وتتوبَ إلى ربّكَ، وتراجعَ نفسَكَ وتندمَ. ومن نظرَ إلى القدرِ عند المعاصي هانتْ عليه، وأصبحَ لا يبالي بمعصيةِ اللهِ فيُقدِمُ عليها، ويستخفُّ بها.
[17]
 
* اللوح المحفوظ
اللوحُ المحفوظُ هو أمُّ الكتابِ، وهو الكتابُ المبينُ، وهو كتابُ الأقدارِ، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج:22-23].
وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4]
وقال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]
وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]
وروى مسلمٌ في صحيحه عن عبدِ اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما أنّ رسولَ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم قال:
(كتبَ اللهُ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلقَ السّمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنّة، وكانَ عرشُهُ على الماءِ) [18] .
وما في هذا الكتابِ هو تقديرٌ عامٌّ لكلّ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ، وهناك تقديراتٌ خاصّةٌ:
– وأمّا قولُه تعالى: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ [الرعد:39]، فقد اختلفَ المفسُرون في متعلّقِ المحوِ والإثباتِ:
فقيل: المرادُ بذلك الشّرائعُ ما يُحْكِمُ الله منها وما ينسخ. وقيل: المرادُ صحفُ الأعمالِ التي في أيدي الملائكة. وكلُّ ما يكون مِن محوٍ وإثباتٍ في الشّرائعِ أو صحفِ الملائكةِ قد سبقَ به علمُ الله وكتابُه الأولُ.
وعلى هذا فالصّوابُ: أنَّ اللوحَ المحفوظَ لا تغييرَ فيه، وما سَبَقَ في علمِه وكتابِه أنّه كائنٌ لابدّ أن يكون كما عَلِمَه -سبحانه وتعالى- بالأسبابِ التي قدَّرها.
 

* الإرادة الكونية والإرادة الشرعية
الإرادةُ المضافةُ للهِ تعالى نوعان: إرادةٌ كونيّةٌ، وإرادةٌ شرعيّةٌ.
أمَّا الإرادةُ الكونيّةُ: فهي بمعنى المشيئةِ، ومن شواهدها قولُه تعالى: فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج:16]، هذه إرادةٌ كونيّةٌ، كلُّ ما شاءَ سبحانه أن يفعلَه فَعَلَهُ؛ لأنَّه لا مُعارِضَ له، ولا يستعصي عليه شيءٌ.
ومن شواهدِ الإرادةِ الكونيّةِ قولُه تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ [الأنعام:125]، يعني من يشأ اللهُ أن يهديه بشرحِ صدرِه للإسلامِ يُوسّعُ صدرَه، ويقذفُ النورَ فيه، ويجعلُ فيه القبولَ للحقِّ، فيقبلُ الحقَّ بانشراحٍ وسرورٍ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ -نعوذُ بالله- يجعلْ صدرَه ضيّقًا حرجًا، ينفرُ من الحقِّ ويشمئزُّ منه، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]
واللهُ تعالى يَمُنُّ على من يشاءُ، يهدي من يشاءُ بفضلِه ورحمتِه، ويُضلُّ من يشاءُ بحكمتِه وعدلِه، يُعطي ويمنعُ، يهدي ويضلُّ، ويعزُّ ويذلُّ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
 وأمَّا الإرادةُ الشرعيّةُ: فمتعلّقةٌ بما أمرَ اللهُ به عبادَه ممّا يُحبّه ويرضاهُ. ومن شواهدِها: قولُه تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، و يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [النساء:26]، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]
 

* والفرقُ بين الإرادتين من وجهين:
الأول: أنَّ الإرادةَ الكونيةَ عامةٌ، فكلُّ ما في الوجودِ فهو مرادٌ للهِ كونًا.
أمَّا الإرادةُ الشرعيةُ فإنّها إنما تتعلّقُ بما يحبُّ سبحانَه وتعالى.
قال أهلُ العلم: فتجتمعُ الإرادتانِ في إيمانِ المؤمنِ، وطاعةِ المطيعِ.
وتنفردُ الإرادةُ الشرعيةُ في إيمانِ الكافرِ، فالكافرُ مطلوبٌ منه الإيمانُ لكنّه لم يحصلْ، فهو مُرادٌ لله شرعًا، لكنّه غيرُ مرادٍ كونًا، إذ لو شاءَ اللهُ لاهتدى، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا [يونس:99]، وكذلك الطاعةُ التي أُمِرَ بها العبدُ، ولم يفعلْها مرادةٌ للهِ شرعًا، لكنّها لم تتعلّقْ بها الإرادةُ الكونيةُ؛ إذ لو تعلّقتْ بها الإرادةُ الكونيةُ لحصلت.
وتنفردُ الإرادةُ الكونيةُ في كفرِ الكافرِ ومعصيةِ العاصي.
الثاني: أنَّ الإرادةَ الكونيةَ لا يتخلَّفُ مُرادُها أبدًا، أمَّا الإرادةُ الشرعيةُ فقد يقعُ مرادُها، وقد لا يقعُ، فاللهُ أرادُ الإيمانَ من الناسِ كلِّهم، أرادَهُ شرعًا؛ يعني: أمرَهم به، وأحبَّ ذلك منهم، ولكن منهم مَنْ آمنَ، ومنهم من كفرَ.
وهل للمخلوقِ إرادةٌ ومشيئةٌ؟ نعم، قال سبحانَه وتعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان:30]، لكنْ إرادةُ المخلوقِ ومشيئةُ المخلوقِ مخلوقةٌ، ومقيّدةٌ، وتابعةٌ لمشيئةِ الله تعالى.
ومشيئةُ المخلوقِ قد يحصلُ مُقتضاها، وقد لا يحصلُ، فقد يشاءُ الإنسانُ ما لا يكون، وقد يكون ما لا يشاء، وهذا شأنُ المخلوقِ، أمَّا الخالقُ فما شاءَه فلا بدَّ أن يكون، وما لا يشاءه فلا يكون ألبتة؛ لأنّه سبحانه وتعالى لا يُعجزُه شيءٌ، ولا يستعصي عليه شيءٌ، فما شاءَ أن يفعلَه فَعَلَهُ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].
[19]
 
* المنكرون للقدر
وأمّا المنكرونَ للقدرِ فهم طائفتان:
غلاةٌ أنكروا العلمَ والكتابَ، ويقولون: إنَّ اللهَ لا يعلمُ الأشياءَ إلا بعد وجودِها، ومعنى هذا: أنَّه لم يقدِّرِ الأشياءَ، ولم يكتبْ ما سيكون. كما يُنكرونَ عمومَ المشيئةِ، وعمومَ الخلقِ، ويُخْرِجونَ أفعالَ العبادِ عن مشيئةِ اللهِ وخلقِه.
وهذا مذهبُ قدماءِ القدريَّةِ وغلاتِهم.
أمَّا المتوسّطونَ منهم فيُنكرونَ المرتبةَ الثالثةَ والرابعةَ، وهي: عمومُ المشيئةِ، والخلقُ، ومنهم: المعتزلةُ، فيُنكرونَ عمومَ المشيئةِ، وعمومَ الخلقِ، فيُخْرِجون أفعالَ العبادِ عن مشيئةِ الله، فعندهم أنَّ أفعالَ العبادِ ليست بمشيئةِ اللهِ، والعبدُ يتصرّفُ بغيرِ مشيئةِ الله، واللهُ لا يقدرُ أنْ يُغيِّر من حالِ الإنسانِ شيئًا، فيتضمّنُ ذلك تعجيزَ الربِّ، تعالى اللهُ عن قولِهم علوًا كبيرًا، ويُخْرِجونَ أفعالَ العبادِ عن ملكِه، فمضمونُ قولِهم: أنَّه تعالى ليس له الملكُ كله.
 وأهلُ السنّةِ والجماعةِ يؤمنونَ بأنّه اللهُ تعالى له الملكُ كلُّه، وله الأمرُ كلُّه سبحانَه وتعالى.
[20]
 
* خلق أفعال العباد
مسألةُ "أفعالِ العبادِ" من المسائلِ التي وقعَ فيها اختلافٌ بين الناس:
فالجبريةُ يقولون: إنَّ العبدَ لا فِعْلَ له أصلًا، فأفعالُه -عندهم- كصفاتِه؛ كطولِه ولونِه وشكلِه، فهي أفعالٌ مخلوقةٌ لله، وليس للعبدِ فيها مشيئةٌ ولا اختيارٌ ولا قدرةٌ، بل هو مضطرٌ إليها، كحركةِ المرْتَعِش والنَّائِم، وحركة الرِّيشَة في مهبِّ الرِّيح، وأنَّ إضافتَها ونسبتَها إليه نسبةٌ مجازيَّةٌ.
ويُقابِلُ الجبريةَ: 
المعتزلةُ فإنَّ المعتزلةَ ينفون القَدَرَ، فيُخْرِجُون أفعالَ العبادِ عن أن تكون بمشيئة الله وقدرتِه وخلْقِهِ، فالعبدُ عندهم هو الذي يخلُقُ فِعْلَ نفسِه بمشيئةٍ هو فيها مستَقِلٌّ عن مشيئَةِ الله، فالعبدُ يشاءُ ولو لم يشأ اللهُ.
وعلى مذهبِهم الباطلِ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يقدرُ على أنْ يجعلَ المطيعَ عاصيًا، ولا العاصي مطيعًا، ولا الكافرَ مؤمنًا، ولا المؤمنَ كافرًا، فمذهبُهم يتضمَّنُ تَعْجِيزَ الربِّ، وأنَّه غيرُ قادرٍ، وأنَّه يقعُ في ملكِه ما لا يُريدُ، فهذان المذهبان على طرفي نقيضٍ.
وأمَّا
الأشاعرةُ: يقولون: "إنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ للهِ"، وهذا كلامٌ طَيِّبٌ، "وكسبٌ من العِبَاد"، وتفسيرُ "الكَسْبِ" عندهم أنَّه وقوعُ الفعلِ مقارنًا للقدرةِ الحادثةِ، فيكون العبدُ له قدرةٌ، ولكنها قدرةٌ لا تأثيرَ لها في أفعالِه، بل غايةُ الأَمرِ أن تكون القدرةُ علامةً على الأفعالِ، وهم بذلك يقتربون جِدًّا من مذهب الجبريَّة.
أمَّا
أهلُ السنَّة والجماعة فيقولون: إنَّ أفعالَ العبادِ هي أفعالٌ لهم حقيقة، وهي واقعةٌ منهم بقدرتِهم ومشيئتِهم، وأنَّ مشيئةَ العبادِ تابعةٌ لمشيئةِ الله عزّ وجل على حَدِّ قوله تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]
فاللهُ تعالى خالقُ العبادِ وخالقُ قدرتِهم وخالقُ أفعالهم، فأفعالُ العبادِ هي أفعالُهم حقيقةً، ولكنَّها في الوقتِ نفسِه هي مفعولةٌ، وفرقٌ بين الفعلِ والمفعولِ، فأفعالُ العبادِ هي مفعولةٌ لله؛ أي: مخلوقةٌ لله، لكنَّها ليست أفعالًا لله، فإنَّ الفعلَ بالمعنى المَصْدَرِي إنما يقوم بالفاعل، فالكلام ـ بالمعنى المَصْدَرِي ـ يقوم بالمتكَلِّم، والخَلْقُ يقوم بالخالِق، والضربُ يقوم بالضاربِ، وهكذا.
[21]
 
* الآجال مقدَّرة
الأجلُ: يُطلَقُ على نهايةِ المدّةِ المقدّرةِ، أو على نفسِ المدّةِ المقدّرةِ كلّها، فالدنيا لها أجلٌ ينتهي بيومِ القيامة؛ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2]
والأممُ لها آجالٌ؛ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49]، كلُّ أمّةٍ لها أجلٌ ثم تنتهي كيف شاءَ الله، وفي تاريخِ المسلمين الدولةُ الأمويةُ لها تاريخٌ وانتهت، ثمَّ الدولةُ العباسيةُ وانتهت، وهكذا غيرُها.
وكذلك آجالٌ مُختصّةٌ بكلِّ فردٍ، مثل ما جاءَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه عن النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
(فيُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ: بكتبِ رِزقِه وأجله) [22] ، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].
إذن: بأيّ شيءٍ يموتُ الإنسانُ؟
هو ميِّتٌ بأجلِه، وفي الوقتِ المحدودِ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، فالمقتولُ ميتٌ بأجلِه هذا عند أهلِ السُنّةِ، خلافًا للمعتزلة؛ فإنّهم يقولون: إنَّ المقتولَ قد قَطَعَ القاتلُ عليه أجلَه، فيمكن أنه سيعيشُ مائةَ سنةٍ؛ لكن اعتدى عليه القاتلُ فقتلَه وهو ابنُ عشرينَ سنةٍ، فضيّعَ عليه القاتلُ ثمانينَ سنةٍ!
[23] نعوذُ باللهِ من الجهالةِ والضلالةِ؛ بل المقتولُ ميتٌ بأجلِه.
فالآجالُ والأعمارُ كلُّها مُقدَّرةٌ، ودلَّتِ النصوصُ على أنَّ لطولِ العمرِ وقِصرِه أسبابًا كونيةً وشرعيةً؛ فمن الأسبابِ الشرعيةِ: صلةُ الرحمِ، وبرُّ الوالدين، ففي الصحيحين عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
(من أحبَّ أنْ يبسطَ له في رِزقِه وينسأَ له في أثرِه فليصلْ رحمَه) [24] ، وفي الحديثِ الآخرِ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ولا يزيدُ في العمرِ إلا البرُّ) [25] .
والتحقيقُ أنَّه لا ينافي القدرَ، فليس معناه أنَّ هذا سبقَ في عِلمِ اللهِ وكتابِه أنَّ عمرَه ستونَ سنةٍ، ثمَّ يحدثُ أنه يبرُّ بوالديه فيزادُ في عمرِه، لا؛ بل هذا الذي وصَلَ رحمَه، ومَدَّ اللهُ في عمرِه جزاءً له؛ قد سبقَ في علمِ اللهِ وفي كتابِه أنّه يطولُ عمرِه بهذا السببِ، وكلُّ الأمورِ جاريةٌ على الأسبابِ والمسبّباتِ، ومندرجةٌ في قدرِ اللهِ التامِّ.
[26]
 
* الإنسان مُسيَّرٌ أم مُخيَّرٌ
وأمّا هل الإنسانُ مُخيّرٌ أم مُسيّر؟ فهذا اللفظُ لم يردْ في الكتابِ ولا في السنّةِ؛ بل الذي دلَّا عليه: أنَّ الإنسانَ له مشيئةٌ ويتصرفُ بها، وله قدرةٌ على أفعالِه، ولكن مشيئتُه محكومةٌ بمشيئةِ اللهِ، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيم * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].
فليستْ مشيئتُه مُستقلّةٌ عن مشيئةِ اللهِ، ولفظُ "مخيّر ومسيّر" لا يصحُّ إطلاقُهما، فلا يُقال: الإنسانُ مُسيّرٌ، ولا يُقال: إنّه مُخيّرٌ؛ بل لابدّ من التفصيلِ، فإن أُريدَ أنه "مُسيّرٌ" بمعنى أنَّه مجبورٌ ولا مشيئةَ له ولا اختيار: فهذا باطلٌ، وإن أُريدَ أنّه "مُسيّرٌ" بمعنى أنَّه مُيسّرٌ لِما خُلِقَ له، وأنَّه يفعلُ ما يفعلُ بمشيئةِ اللهِ وتقديره: فهذا حقٌّ. وكذلك إذا قيل "إنّه مُخيّرٌ" وأُريدَ أنه يتصرَّفُ بمحضِ مشيئتِه دونَ مشيئةِ اللهِ: فهذا باطلٌ، وإن أُريدَ "أنه مخيرٌ" بمعنى أنَّ له مشيئة واختيارًا وليس بمجبرٍ: فهذا حقٌّ. وأوسعُ كتابٍ تضمّنَ الكلامَ عن القدرِ ومراتبِه وعن أفعالِ العبادِ كتابُ "القضاء والقدر والحكمة والتعليل" للإمامِ ابنِ القيّمِ رحمهُ الله.
 

* شرح حديث: (رُفعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ)
جاءَ في حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : (واعلمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلّا بشيءٍ قد كتبَه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوكَ بشيءٍ لم يضروك إلّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفعتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ) [27] ، فالأمرُ قد فرغَ منه، وهذا يوجبُ للعبدِ أنْ يُعلّقَ رجاءَه وخوفَه بربّه لا بالأسبابِ ولا بالعبادِ؛ لأنَّ العبادَ إن نفعوكَ فاللهُ هو الذي أجرى تلك المنفعةَ على أيديهم، وأقْدَرَهم عليها، وجعلَهم يُريدونها، وهيَّأ لهم أسبابَها، وإن حصلت لك مضرَّةٌ على يدِ أحدٍ؛ فاعلمْ أنَّ هذا بتقديرِ اللهِ، فلا تغفلْ عن اللهِ وتُعلّقْ قلبَك بهم فتخافهم.
وجاءَ في الحديثِ عن النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
(جَفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ) [28] . جفَّ القلمُ: هذه كنايةٌ عن الفراغِ من الأمرِ الذي سَبَقَ به القدرُ، فكلُّ ما يجري في الوجودِ فقد سبقَ به علمُ اللهِ وكتابُه، لكن نؤكّدُ على أنَّ اللهَ قضى بحكمتِه وعلمِه وكتابِه، إنَّ هذه الأقدارَ متربطٌ بعضُها ببعضٍ، ومِنْ قدرِ اللهِ ترتيب المسبَّبَات على الأسبابِ، ما يجيءُ لك ولد إلا إذا تزّوجتَ، ولا يُعقَلُ أنْ تقولَ: إنْ كتبَ اللهُ لي ولدًا فسيأتي ولو لم أتزوجْ! أو تترك طلبَ الرزقِ وتقولَ: إنْ كتبَ اللهُ لي رزقًا سيأتيني وأنا نائمٌ! نعم قد يكون؛ لكن ليس هذا مُوجبُ العقلِ والفطرةِ والشرعِ؛ بل موجبُ العقلِ والفطرةِ والشرعِ: أنْ تسعى في طلبِ الرزقِ، ولو توكَّلتَ على الله، فلا بدَّ لك من الأخذِ بالأسبابِ، وأعظمُ من ذلك أمرُ السعادةِ، فلا تكون السعادةُ إلا بأسبابِها؛ وهي الإيمانُ والعملُ الصالحُ، ولا يمكن أن يكون الإنسانُ سعيدًا إلّا بالأسبابِ، فمنْ تحقَّقتْ له أسبابُ السعادةِ فنعلمْ بذلك أنه قد سبقَ عِلمُ اللهِ وكتابُه بسعادتِه. [29]
 
* مقولة "اللهمَّ إني لا أملكُ ردَّ القضاءِ ولكن أسألك اللطفَ فيه"

سُئل الشيخ: ما صحَّةُ هذه العبارةِ: "اللهمَّ إني لا أملكُ ردَّ القضاءِ ولكن أسألك اللطفَ فيه"؟
فقال: لا أصلَ لهذا التفصيلِ وهذا الدعاءِ أبدًا، قل: اللهمَّ إني أسألكَ العافيةَ، والدعاءُ يردُّ القدرَ، والدعاءُ من القدرِ، والأقدارُ تتدافعُ، لمّا سُئل النبيُّ عن رُقى يسترقي بها الناسُ أتردُّ قدرَ اللهِ؟ قال:
(هي من قَدَرِ اللهِ)، وقال عمرُ: (نفرُّ من قدرِ اللهِ إلى قدرِ الله). [30]
الدعاءُ من القدرِ، وهو سببٌ لدفعِ كثيرٍ من الأقدارِ ورفعِ كثيرٍ من البلاءِ. [31]
 
* أوسعُ كتابٍ يتكلّمُ عن القدرِ
قال الشيخ: أوسعُ كتابٍ تضمّنَ الكلامَ عن القدرِ ومراتبِه وعن أفعالِ العبادِ كتابُ "القضاء والقدر والحكمة والتعليل" للإمام ابن القيم رحمه الله.
 

 


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 رواه مسلم (8) من حديث عمر رضي الله عنه.
2 – رواه أحمد (2/169) والفظ له، ومسلم (2653)، والترمذي (2156)، وابن حبان (6138) وصححاه، وعند مسلم: (كتب الله ..)
3 – رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4 – شرح العقيدة الطحاوية للبراك (ص: 245-246).
5 – إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد (70).
6 – شرح العقيدة الطحاوية (246).
7 – شرح العقيدة الطحاوية (171).
8 شرح العقيدة الطحاوية للبراك (ص:246)
9 – رواه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
10 – منهاج السنة (5/410)، ومجموع الفتاوى (14/266)، وبدائع الفوائد (2/724).
11 – شرح العقيدة الطحاوية للبراك (249).
12 – رواه أحمد (2/169) والفظ له، ومسلم (2653)، والترمذي (2156)، وابن حبان (6138) وصححاه، وعند مسلم: (كتب الله …).
13 – رواه البخاري (7418) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، وانظر شرحًا موسعًا لهذا الحديث في مجموع الفتاوى (18/210-244).
14 – رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر تعليقا لشيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (11/ 258).
15 – رواه البخاري (3208) ، ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
16 – انظر: إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد (71)، توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (196).
17 – توضيح مقاصد الواسطية (199-200).
18 – صحيح مسلم (2653).
19 – توضيح مقاصد الواسطية (60).
20 – توضيح مقاصد العقيدة الواسطية (ص:198).
21 – شرح القصيدة الداليَّة (89).
22 – رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643).
23 – مجموع الفتاوى (8/516).
24 – البخاري (5986)، ومسلم (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
25 – أحمد (5/277)، وابن ماجه (90)، وصححه ابن حبان (872) والحاكم (1/493)، وحسنه العراقي فيما نقله البوصيري في مصباح الزجاجة (33) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
26 – شرح العقيدة الطحاوية (72).
27 – رواه أحمد (1/293)، والترمذي (2516)، وقال: حسن صحيح، والضياء في المختارة (10/22-25) ، وحسنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص345).
28 – رواه البخاري تعليقا (5076) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
29 – شرح العقيدة الطحاوية (182).
30 – شرح زاد المستقنع (الصلاة:42).
31 – شرح "الداء والدواء" (درس فجر: 22-2-1439).