الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الفرقان/(8) من قوله تعالى {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} الآية 45 إلى قوله تعالى {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به} الآية 52
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(8) من قوله تعالى {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} الآية 45 إلى قوله تعالى {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به} الآية 52

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفرقان

الدَّرس: الثَّامن

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ [الفرقان:45-53].

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : عفا اللهُ عنكُم

– الشيخ : سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم، لا إله إلّا الله، سبحان الله العظيم، يُصرِّفُ اللهُ في هذا القرآنِ يُصرِف، -يرحمُكَ اللهُ- يُصرِّفُ المعاني والمواعظ، ولقد، ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾ [طه:113]

فبعدما ذكرَ اللهُ بعضَ أحوال الكافرين وما كانَ منهم من أنواعِ الكفرِ والأقوالِ الباطلةِ، وذكرَ ما أحلَّ بالمكذبين من المثُلاتِ والعقوباتِ، قوم نوح وعاد وثمود قوم لوط.

يذكرُ في هذهِ الآياتِ بعضَ آياتِه الكونيّة، (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، يعني ألم تعلمْ كيف مدَّ ربُّك الظلّ؟ مدَّهُ وبسطَه على هذه الأرض.

 قال المفسِّرون: إن هذا أعظم ما يكون الظلُّ ممدوداً ما بين طلوعِ الفجرِ إلى طلوعِ الشمس، فالظلُّ ممدود، كيف مدَّ الظل ولو شاءَ لجعله ساكناً مستقِرَّاً، لكنَّ الله جعل الشمس عليه دليلاً، فهو يقبضه سبحانه وتعالى شيئاً فشيئاً.

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) يتقلَّص إذا طلعت الشمس، يتقلَّصُ الظلُّ حتّى ينتهي عند قيام الشمس في الظهيرة وتوسُّطها في كبِدِ السماءِ، فهذا آية من آيات الله.

وقولُهُ (لو شاءَ لجعلَهُ ساكناً) يشبه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا﴾ [القصص:71].

لو شاءَ الله لجعل الليلَ دائماً، ولو شاء لجعل النهار دائماً، ولكن اقتضت حكمته أن يُقلِّبَ الليل والنهار ويولجُ النهارَ في الليل ويولجُ الليل في النهار.

ثمّ قالَ تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) جعلَ الليلَ لباس يغشى هذا الوجودَ ويغطّي هذا الكونَ بظلامِه، يغطّي ما على الأرض بالظلام، جعل الليل لباساً، فالليل بالنسبة لما يغطّيه كاللباس.

والنومَ سباتاً راحةً للنفوسِ بعدَ العناءِ بعدَ الجهدِ الّذي يعانونه في النهار فإنّهم يقطعُ عنهم هذه المعاناة، هذا النوم، ثمّ تعودُ إليهم الحياة، يتوفاكم بالليل ويعلمُ ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه، فالحياة تتقلّب من من موتٍ إلى حياةٍ وحياةٍ إلى موتٍ، فالنوم أخو الموت.

(والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً)، وقت انتشار الناس ومباشرتهم لأعمالهم في الحياة مثل الآية الأخرى: (جعلَ النهارَ معاشاً)، معاش وقت في اكتساب مكاسب وأسباب المعيشة أسباب العيش.

وجعل النهار نشوراً، ثمَّ ذكر آياتٍ أخرى من نوع آخر، يُرسل الرياحَ فتثيرُ سحاباً، وهو الّذي، والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا، وهو الذي أرسل الرياح بُشْراً بين يدي رحمتِه، (وهو الّذي أرسلَ الرياحَ بُشْراً بينَ يدي رحمتِه وأنزلْنا من السماءِ ماءً طهوراً).

تهبُّ الرياحُ فيُنشئُ اللهُ السحابَ ويسوقُها إلى حيثُ يشاءُ، ويُنزِلُ منها الماء، الماء النقيّ الطهور، فهو طاهر ومطهِّر، طاهر في نفسه ومطهِّرٌ يُتَطَهَّرُ به.

ماءً طهوراً، لنحيي به بلدةً ميّتاً، فتحيا به الأرض بعد أن كانت هامدةً وميِّتة، (ونُسقيهم ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً)، تحيا به الأرض ويحيا به الناس ويسقون ويشربون وتشربُ البهائمُ، (ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً).

ثمَّ قالَ تعالى: (ولقد صرَّفْناه بينَهم)، صرَّف هذا الماءَ بينَ العبادِ، تارةً هنا وتارةً هنا وتارةً هنا، كما تقتضيه حكمتُه البالغةُ، تصريفٌ في المكانِ وتصريفٌ في الزمانِ، فالمطرُ يكثُرُ في بعضِ البلادِ ويَكثُرُ في بعضِ الزمانِ، ويَقِلُّ كذلك، فهذا من التصريفِ.

(فأبى أكثرُ الناسِ إلَّا كفوراً)، أكثرُ الناسِ كافرٌ بالله وكافرٌ بنِعَمِ اللهِ، ومن الكفرِ بنعمِ اللهِ أنْ يقولوا: مُطِرْنا بنوءِ كذا وكذا، كان ينسبون المطرَ إلى الكوكبِ، وهكذا من ينسِبُه إلى يعني أحوال الجوّ وأنَّ هذا بسبب كذا المنخفضِ الجوّيّ ويغفلون عن التدبير، فالّذين الآن يتحدَّثون عن الطقس أو الجوّ والتحوّلات الّتي تكون فيه، حرّاً وبرداً ومطراً وجفافاً، لا يكادون يذكرون الله، إنّما يذكرون علومهم، إن انطبق عليهم فرحوا بما عندهم من العلم، وهذه آيات كونيّة دالّة على قدرة الله وعلى رحمته وحكمته سبحانه وتعالى.

(فأبى أكثرُ الناسِ إلّا كفوراً)، قال الله: (ولو شئْنا لبعثْنا في كلِّ قريةٍ نذيراً)، أرسلَ اللهُ الرُّسلَ في بلادٍ مختلفةٍ، منهم من عرفْناه بقصصِ القرآن ومنهم من لم يقصّهُ الله علينا، وآخر الرُّسل وخاتم النبيين محمّد المبعوثِ بأمِّ القرى، فبعثَ أفضلَ الرُّسلِ في أفضلِ البلادِ.

(ولو شئْنا لبعثْنا في كلِّ قريةٍ نذيراً، فلا تطعِ الكافرين وجاهدْهم به جهاداً كبيراً)، نعم يا محمّد.

 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرَّحمنِ السعديُّ-رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) الآيات.

أي: ألمْ تشاهدْ ببصرِكَ وبصيرتِكَ كمالَ قدرةِ ربِّكَ وسعةِ رحمتِهِ، أنَّهُ مَدَّ على العبادِ الظِّلَّ وذلكَ قبلَ طلوعِ الشمسِ {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ} أي: على الظِّلَّ {دَلِيلاً} فلولا وجودُ الشمسِ لما عُرِفَ الظِّلُّ فإنَّ الضِّدَّ يُعرَفُ بضدِّهِ.

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فكلَّما ارتفعَتِ الشمسُ تقلَّصَ الظِّلُّ شيئاً فشيئاً، حتَّى يذهبَ بالكُلِّيِّةِ فتوالى الظلُّ والشَّمسُ على الخلقِ

– الشيخ : تتوالى يعني تارةً تكون الشمس يعني عامّة على وجه الأرض وتارةّ الظلّ، وهما يتعاقبان كتعاقُبِ الليل والنهار، كتعاقُبِ الليل والنهار، حتّى إنَّ بعض المفسِّرين قال إنَّ المراد بالظلّ الليل.

 

– القارئ : الَّذي يشاهدونهُ عياناً وما يترتبُ على ذلكَ مِن اختلافِ الليلِ والنهارِ وتعاقُبِهما وتعاقُبِ الفصولِ، وحصولِ المصالحِ الكثيرةِ بسببِ ذلكَ مِن أدلِّ دليلٍ على قدرةِ اللهِ وعظمتِهِ وكمالِ رحمتِهِ وعنايتِهِ بعبادِهِ وأنَّهُ وحدَهُ المعبودُ المحمودُ المحبوبُ المُعظَّمُ، ذو الجلالِ والإكرامِ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} الآية، أي: مِن رحمتِهِ بكم ولطفِهِ أنْ جعلَ الليلَ لكم بمنزلةِ اللباسِ الَّذي يغشاكُم.

– الشيخ : بمنزلة اللباس الّذي يغشاكُم ويستركُم.

– القارئ : حتَّى تستقرُّوا فيهِ وتهدؤُوا بالنومِ وتسبتَ حركاتُكُم أي: تنقطعُ عندَ النومِ، فلولا الليلُ لما سكنَ العبادُ ولا استمرُّوا في تصرُّفِهم فضرَّهم ذلكَ غايةَ الضررِ، ولو استمرَّ أيضاً الظلامُ لتعطَّلَتْ عليهم معايشُهم ومصالحُهم، ولكنَّهُ جعلَ النهارَ نشوراً ينتشرون فيهِ لتجاراتِهم وأسفارِهم وأعمالِهم فيقومُ بذلكَ ما يقومُ مِن المصالحِ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} الآيات.

أي: هوَ وحدَهُ الَّذي رحمَ عبادَهُ وأدرَّ عليهم رزقَهُ بأنْ أرسلَ الرياحَ مُبشِّراتٍ بينَ يدي رحمتِهِ وهوَ المطرُ فثارَ بها السحابُ وتألَّفَ وصارَ كسِفاً وألقحَتْهُ وأدرَّتْهُ بإِذنِ آمرِها والمُتصرِّفِ فيها ليقعَ استبشارُ العبادِ بالمطرِ قبلَ نزولِهِ، وليستعدُّوا لهُ قبلَ أنْ يفاجئَهم دفعةً واحدةً.

{وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} يُطهِّرُ مِن الحدثِ والخُبثِ ويُطهِّرُ مِن الغِشِّ والأدناسِ، وفيهِ بركةٌ مِن بركتِهِ أنَّهُ أنزلَهُ ليُحييَ بهِ بلدةً ميتاً فتختلفُ أصنافُ النوابتِ والأشجارِ فيها ممَّا يأكلُ الناسُ والأنعامُ.

{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي: نسقيكُمُوهُ أنتم وأنعامُكم، أليسَ الَّذي أرسلَ الرياحَ المُبشِّراتِ وجعلَها في عملِها مُتنوِّعاتٍ، وأنزلَ مِن السماءِ ماءً طهوراً مُباركاً فيهِ رزقُ العبادِ ورزقُ بهائمِهم، هوَ الَّذي يستحقُّ أنْ يُعبَدَ وحدَهُ ولا يُشرَكُ معَهُ غيرُهُ؟

ولمَّا ذكرَ تعالى هذهِ الآيات ِالعيانيَّةَ المشاهدةِ وصرَّفَها للعبادِ ليعرفُوه ويشكرُوهُ ويذكرُوهُ معَ ذلكَ أبى أكثرُ الناسِ إلَّا كفوراُ، لفسادِ أخلاقِهم وطبائعِهم.

قالَ اللهُ تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرا} الآيات، يُخبِرُ تعالى عن نفوذِ مشيئتِهِ وأنَّهُ لو شاءَ لبعثَ في كلِّ قريةٍ نذيراً، أي: رسولاً ينذرُهم ويحذِّرُهم فمشيئتُهُ غيرُ قاصرةٍ عن ذلكَ، ولكن اقتضَتْ حكمتُهُ ورحمتُهُ بكَ وبالعبادِ -يا محمَّدُ- أنْ أرسلَكَ إلى جميعِهم أحمرِهم وأسودِهم، عربيِّهم وعجميِّهم، إنسِهم وجنِّهم.

{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} في تركِ شيءٍ ممَّا أُرسِلْتَ بهِ بلْ ابذلْ جهدَكَ في تبليغِ ما أُرسِلْتَ بهِ. {وَجَاهِدْهُمْ} بالقرآنِ {جِهَادًا كَبِيرًا} أي: لا تُبقِ مِن مجهودِكَ في نصرِ الحقِّ وقمعِ الباطلِ إلَّا بذلْتَهُ ولو رأيْتَ مِنهم مِن التكذيبِ والجراءةِ ما رأيْتَ فابذلْ جهدَكَ واستفرغْ وِسعَكَ، ولا تيأسْ مِن هدايتِهم ولا تتركْ إبلاغَهم لأهوائِهم.

قالَ اللّهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} الآية، أي: وهوَ وحدُهَ الَّذي مرجَ البحرينِ يلتقيانِ.

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : أحسنَ اللهُ إليكَ