الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الواقعة/(3) من قوله تعالى {نحن خلقناكم فلولا تصدقون} الآية 57 إلى قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} الآية 74
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {نحن خلقناكم فلولا تصدقون} الآية 57 إلى قوله تعالى {فسبح باسم ربك العظيم} الآية 74

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الواقعة

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:57-74]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ لله، يذكرُ اللهُ تعالى في هذهِ الآياتِ بعضَ الأدلَّةِ على قدرتِه وحكمتِه ورحمتِه، والمقصودُ الأوَّلُ هو ذِكرُ الأدلَّةِ على قدرتِه على البعثِ الَّتي يكذِّبُ به الكافرونَ، فذكرَ سبحانه وتعالى الدَّليلَ الأوَّلَ في الاستدلال بخلقِهم بالنَّشأة الأولى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهذهِ نشأةٌ معروفةٌ يعرفون أنَّ الإنسانَ يبدأُ خلقُه من الماءِ المهينِ، من ماءٍ مهينٍ، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} علمْتُم نشأتَكم الأولى أفلا تستدلُّون بها على النَّشأةِ الأخرى؟

{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهي النَّشأةُ الأخرى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} فهما نشأتانِ، اللهُ تعالى…، ولهذا يقولُ في غيرِ موضعٍ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78-79]، وهذا الدَّليلُ العقليُّ على البعثِ يأتي في القرآنِ في مواضعَ، الاستدلالُ بالنَّشأةِ الأولى على النَّشأةِ الأخرى.

والدَّليلُ الثَّاني الاستدلالُ بما ينزلُهُ تعالى على الأرضِ من الماءِ وإنباتِ النَّبات وإخراجِ الزَّرعِ، فهذا الزَّرعُ الَّذي يحرثُهُ النَّاسُ يحرثُ النَّاسُ الأرضَ ويبذروها، اللهُ هو الَّذي ينزلُ الماءَ وهو الَّذي ينبتُ النَّباتَ ويخرجُ لهم الزَّرعَ من الأرضِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الزمر:21]، وهذا في القرآنِ في مواضعَ الاستدلالُ بإحياءِ الأرضِ بعدَ موتِها بالنَّباتِ {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وهنا يقولُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} النَّاسُ ليسَ في قدرتهم إخراجُ النَّباتِ من الأرضِ وإتمامُه وتكاملُه إنَّما قدرتُهم أنْ يحرثوا الأرضَ يشقُّوا الأرض بآلاتِهم ويضعُوا فيها الحبَّ، أمَّا حصولُ النَّباتِ وتمام الزَّرع فذلك إلى اللهِ وحدَه، هذا هو الزَّرعُ {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} لو شاءَ اللهُ لأهلكَ هذا الزَّرعَ ولم ينتفعوا به بما يشاءُ بما يرسلُ عليه من ريحٍ أو سَمومٍ أو بَرَدٍ أو ما أشبهَ ذلك، {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} هذا الماءُ الَّذي يشربُه النَّاسُ هو ما ينزلُه اللهُ من السَّماءِ فتجري منه الأنهارُ وتنبعُ منه العيونُ ويفيضُ الماءُ في الآبارِ كلُّه أصلُه الماءُ النَّازلُ مِن السَّماءِ، الأنهارُ الجاريةُ أصلُها ومنابعُها ينزلُ عليها الماءُ من السَّماءِ، قالَ اللهُ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} لو نشاءُ جعلْنا هذا العذبَ الماءَ أجاجًا ملحًا مرًّا لا يصلحُ للشَّرابِ {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} يعني: هلَّا تشكرونَ، دعوةٌ إلى الشُّكر.

ومن الآياتِ هذه النَّارُ الَّتي يستعملُها النَّاسُ في حاجاتهم في التَّسخين وفي الطَّبخ وغيرِ ذلكَ من المصالحِ وفي الصِّناعةِ، النَّارُ أساسٌ في الصِّناعةِ وفي كثيرٍ من مصالحِ الإنسانِ {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} فيها تذكرةٌ بالنَّارِ الكبرى، النَّارُ الَّتي أعدَّها اللهُ للكافرين فيها تذكيرٌ بتلك النَّارِ، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} متاعًا للمسافرين، والنَّاسُ كلُّهم في هذهِ الدَّار مسافرونَ، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} كلُّ هذه الآياتِ تستنطقُ القلوبَ الحيَّةَ والألسنَ بالتَّسبيحِ ولهذا المتفكِّرون في مخلوقاتِ اللهِ لما فكَّروا قالوا: {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:191]

فينبغي للمسلمِ أنْ يتفكَّرَ في هذه المخلوقاتِ وهذه الآياتِ ويسبِّحُ بحمدِ ربِّه العظيمِ، ولما نزلَتْ هذه الآيةُ قالَ الرَّسولُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (اجعلُوها في ركوعِكم) ولهذا ذكرُ الرُّكوعِ: "سبحانَ ربِّي العظيم، سبحانَ ربِّي العظيم".

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

ثمَّ ذكرَ الدَّليلَ العقليَّ على البعثِ، فقالَ: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: نحنُ الَّذينَ أوجدْناكم بعدَ أنْ لم تكونُوا شيئًا مذكورًا مِن غيرِ عجزٍ ولا تعبٍ، أفليسَ القادرُ على ذلكَ بقادرٍ على أنْ يُحييَ الموتى؟ بلى إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ولهذا وبَّخَهم على عدمِ تصديقِهم بالبعثِ، وهم يشاهدونَ ما هوَ أعظمُ منهُ وأبلغُ.

قالَ اللهُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} الآياتِ:

أي: أفرأيْتُم ابتداءَ خلقتِكم مِن المنيِّ الَّذي تُمنُونَ، فهل أنتم خالقونَ ذلكَ المنيَّ وما ينشأُ منهُ؟ أم اللهُ تعالى الخالقُ الَّذي خلقَ فيكم مِن الشَّهوةِ وآلتِها مِن الذَّكرِ والأنثى، وهدى كلًّا منهما لما هنالكَ، وحبَّبَ بينَ الزَّوجَينِ، وجعلَ بينَهما مِن المودَّةِ والرَّحمةِ ما هوَ سببٌ للتَّناسُلِ.

ولهذا أحالَهم اللهُ تعالى بالاستدلالِ بالنَّشأةِ الأولى على النَّشأةِ الأخرى، فقالَ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} أنَّ القادرَ على ابتداءِ خلقِكم، قادرٌ على إعادتِكم.

قالَ اللهُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} الآياتِ:

وهذا امتنانٌ منهُ على عبادِهِ، يدعوهم بهِ إلى توحيدِهِ وعبادتِهِ والإنابةِ إليهِ، حيثُ أنعمَ عليهم بما يسَّرَهُ لهم مِن الحرثِ للزُّروعِ والثِّمارِ، فتخرجُ مِن ذلكَ مِن الأقواتِ والأرزاقِ والفواكهِ، ما هوَ مِن ضروراتِهم وحاجاتِهم ومصالحِهم، الَّتي لا يقدرونَ أنْ يحصوها، فضلًا عن شكرِها، وأداءِ حقِّها، فقرَّرَهم بمنَّتِهِ، فقالَ: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} أي: أأنتم أخرجْتُموهُ نباتًا مِن الأرضِ؟ أم أنتم الَّذينَ نمَّيْتُموهُ؟ أم أنتم الَّذينَ أخرجْتُم سنبلَهُ وثمرَهُ حتَّى صارَ حبًّا حصيدًا وثمرًا نضيجًا؟ أم اللهُ الَّذي انفردَ بذلكَ وحدَهُ، وأنعمَ بهِ عليكم؟ وأنتم غايةُ ما تفعلونَ أنْ تحرثوا الأرضَ وتشقُّوها وتلقوا فيها البذرَ، ثمَّ بعدَ ذلكَ لا علمَ عندَكم بما يكونُ بعدَ ذلكَ، ولا قدرةَ لكم على أكثرِ مِن ذلكَ ومعَ ذلكَ، فنبَّهَهم على أنَّ ذلكَ الحرثَ معرَّضٌ للأخطارِ لولا حفظُ اللهِ وإبقاؤُهُ لكم بلغةً ومتاعًا إلى حينٍ.

فقالَ: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ} أي: الزَّرعُ المحروثُ وما فيهِ مِن الثِّمارِ {حُطَامًا} أي: فتاتًا متحطِّمًا، لا نفعَ فيهِ ولا رزقَ، {فَظَلْتُمْ} أي: فصرْتُم، بسببِ جعلِهِ حطامًا، بعدَ أنْ تعبْتُم فيهِ وأنفقْتُم النَّفقاتِ الكثيرةَ {تَفَكَّهُونَ} أي: تندمونَ وتحسرونَ على ما أصابَكم، ويزولُ بذلكَ فرحُكم وسرورُكم وتفكُّهُكم، فتقولونَ: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي: إنَّا قد نقصْنا وأصابَتْنا مصيبةٌ اجتاحَتْنا.

ثمَّ تعرفونَ بعدَ ذلكَ مِن أينَ أُتِيْتُم، وبأيِّ سببٍ دُهِيْتُم، فتقولونَ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} فاحمدُوا اللهَ تعالى حيثُ زرعَهُ اللهُ لكم، ثمَّ أبقاهُ وكمَّلَهُ لكم، ولم يرسلْ عليهِ مِن الآفاتِ ما بهِ تُحرَمونَ نفعُهُ وخيرُهُ.

قالَ اللهُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} الآياتِ:

لمَّا ذكرَ تعالى نعمتَهُ على عبادِهِ بالطَّعامِ، ذكرَ نعمتَهُ عليهم بالشَّرابِ العذبِ الَّذي منهُ يشربونَ، وأنَّهم لولا أنَّ اللهَ يسَّرَهُ وسهَّلَهُ، لـَمَا كانَ لكم سبيلٌ إليهِ، وأنَّهُ الَّذي أنزلَهُ مِن الـمُزنِ، وهوَ السَّحابُ والمطرُ، ينزلُهُ اللهُ تعالى فيكونُ منهُ الأنهارُ الجاريةُ على وجهِ الأرضِ وفي بطنِها، ويكونُ منهُ الغدرانُ المتدفِّقةُ، ومِن نعمِهِ أنْ جعلَهُ عذبًا فراتًا تسيغُهُ النُّفوسُ، ولو شاءَ لجعلَهُ ملحًا أجاجًا لا يُنتفَعُ بهِ {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} اللهَ تعالى على ما أنعمَ بهِ عليكم.

قالَ اللهُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} الآياتِ:

وهذهِ نعمةٌ تدخلُ في الضَّروريَّاتِ الَّتي لا غنى للخلقِ عنها، فإنَّ النَّاسَ محتاجونَ إليها في كثيرٍ مِن أمورِهم وحوائجِهم، فقرَّرَهم تعالى بالنَّارِ الَّتي أوجدَها في الأشجارِ، وأنَّ الخلقَ لا يقدرونَ أنْ ينشئُوا شجرَها، وإنَّما اللهُ تعالى قد أنشأَها مِن الشَّجرِ الأخضرِ، فإذا هيَ نارٌ تُوقَدُ بقدرِ حاجةِ العبادِ، فإذا فرغُوا مِن حاجتِهم، أطفؤُوها وأخمدُوها.

{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} للعبادِ بنعمةِ ربِّهم، وتذكرةً بنارِ جهنَّمَ الَّتي أعدَّها اللهُ للعاصِينَ، وجعلَها سوطًا يسوقُ بهِ عبادَهُ إلى دارِ النَّعيمِ، {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي: المنتفعينَ أو المسافرينَ، وخصَّ اللهُ المسافرينَ لأنَّ نفعَ المسافِرِ بذلكَ أعظمُ مِن غيرِهِ، ولعلَّ السَّببَ في ذلكَ، لأنَّ الدُّنيا كلُّها دارُ سفرٍ، والعبدُ مِن حينِ وُلِدَ فهوَ مسافرٌ إلى ربِّهِ، فهذهِ النَّارُ، جعلَها اللهُ متاعًا للمسافرينَ في هذهِ الدَّارِ، وتذكرةً لهم بدارِ القرارِ.

فلمَّا بيَّنَ مِن نعمِهِ ما يُوجِبُ الثَّناءَ عليهِ مِن عبادِهِ وشكرِهِ وعبادتِهِ، أمرَ بتسبيحِهِ وتعظيمِهِ فقالَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: نزِّهْ ربَّكَ العظيمَ، كاملَ الأسماءِ والصِّفاتِ، كثيرَ الإحسانِ والخيراتِ، واحمدْهُ بقلبِكَ ولسانِكَ، وجوارحِكَ، لأنَّهُ أهلٌ لذلكَ، وهوَ المستحِقُّ لأنْ يُشكَرَ فلا يُكفَرَ، ويُذكَرَ فلا يُنسَى، ويُطاعَ فلا يُعصَى.