مَا أحلى سكونَ الليلِ !
الحمدُ لله والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه، أَمَّا بعد:
لقد ذُقنا في هذه الأيام طعمَ سكونِ الليل، فلا ضجيجَ ولا صخبَ ولا تجوالَ ولا زِحامَ، وأدركنا إدراكًا حسِّيًّا وعقليًا حكمةَ الله في خلقِ الليل، وقد نبَّهَنا عليها في آياتٍ مِن كتابه ممتننًّا بذلك على عباده؛ قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي: في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] أي: بالنَّهار، وقال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام: 96]، وقالَ تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [النمل: 86]، وقالَ تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [غافر: 61].
ومِن المؤسف أَنَّ كثيرًا مِن المسلمين قد حَرموا أنفسَهم مِن الاستمتاعِ بهذه النّعمة والرَّحمة حين نقلوا خصائصَ النَّهارِ مِن الانتشار وطلبَ المعاشِ إلى الليلِ، فأسواقُ التّجارةِ عامرةٌ والأعيُنُ في كلِّ مكانٍ ساهرةٌ، وسببُ ذلك معلومٌ؛ وهو ما تيسَّرَ لهم مِن وسائل الإضاءةِ القويَّةِ بالمصابيح الكهربائيَّة التي حوَّلت الليلَ إلى ما يُشبه النَّهارَ، ولا سيَّما مع التَّوسُّعِ بل الإسرافِ في استخدام الطَّاقةِ الكهربائيَّة في الإضاءة، فأضاعوا المالَ وحُرموا المتعةَ، ولا يخفى ما يتهيَّأ لشياطين الإنس والجنِّ مِن فُرص الفساد والإفساد الأخلاقي؛ بانتشار الرّجال والنِّساء وغشيانهم الأسواقَ، ولا سيَّما مع ضَعفِ وازعِ الإيمان، وهذا ولا يُنكر ما لإضاءةِ الشَّوارعِ في الأحياء وغيرها مِن جانبٍ أمني، والطَّاقةُ الكهربائيَّةُ نعمةٌ مِن نِعم اللهِ، وهي بحسب الاستخدام كمًّا وكيفًا، ويجبُ أن يكون التَّصرُّفُ في هذه النّعمة بموجبِ الشرَّع، وذلك مِن شكرِ الله عليها.
ومِن العَجَبِ كما ذُكر لي: أَنَّ كثيرًا أو أكثرَ الدُّولَ الغربيَّة تُغلَقُ فيها المحلاتُ التجاريَّةُ في ساعة مبكرةٍ مِن الليل، فيا ليت هذا يُتَّبعَ في بلادنا مستقبلًا في الظروف العادية، فيستقرُّ النَّاسُ في بيوتهم، ويَدَعوا التَّسوُّقَ في الأسواق، ويُقطَعُ الطَّريقُ على السُّفهاء مِن الرِّجال والنِّساء، ويَستمتعُ الجميعُ بسكونِ الليلِ وبالنَّوم الهني، فتجري الأمورُ على السُّنَّةِ والفِطرةِ، ويدعُ النَّاسُ السَّمَرَ [1] والسَّهرَ، (وَكَانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- يَكرَهُ النَّومَ قَبْلَهَا -أي: قَبلَ صَلاةِ العِشَاءِ- وَالحديثَ بَعْدَهَا). [2]
ومِن آثار هذا السّلوكِ: حفظُ الطاقةِ الكهربائيَّة، وخفضُ فاتورةِ الاستهلاك، وقد كانَ المسلمون عبرَ التَّاريخ جاريةً أُمورُهم على النَّهج القويم؛ ينامون الليلَ وينتشرون في النَّهار، على حدِّ قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47].
وبَعدُ: فلابدَّ مِن وقفةٍ مع معنى جليلٍ؛ وهو دأبُ الصَّالحين في سائر عصور الأمةِ، فقد كانَ لهم وِردٌ في الليل مِن الصَّلاة وتلاوةِ القرآن، وِردٌ لا يُفرِّطون فيه، ويتجنَّبون كلَّ ما يَعوقهم عنه أُسوةً بنبيِّهم الذي كانَ يقومُ الليلَ ويطيلُ القيامَ حتى تتفطَّرَ قدماه [3] ، أولئك هم عبادُ الرَّحمن الذين قال اللهُ فيهم: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64]، وقال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون [الذاريات: 17-18].
وَلا ريبَ أَنَّ طولَ السَّمرِ والسَّهرِ مِن أَعظم العوائقِ عن قيامِ الليلِ والمنافسة فيه، فاغتنمْ أَيُّها المسلمُ أَيامَ حياتِكَ وصِحَّتكَ وفراغِكَ فإنَّكَ مسؤولٌ عن هذا كلِّه، وفي الحديث: (الكيِّسُ مَنْ دَانَ نَفسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ الأماني). [4]
فكُن كيِّسًا لا عاجزًا، وشمِّرْ إلى الدَّرجات في الجنَّات، فعندَ الصَّباحِ يحمدُ القومُ السُّرَى، [5] وعندَ المماتِ يحمدُ العبدُ التقى؛ نسألُ اللهَ الثَّبات والوفاةَ على الإيمان.
قال ذلك:
عبدُالرَّحمنِ بنُ ناصر البرَّاك
حرر في يوم الجمعة الموافق 1 رمضان 1441 هـ
الحاشية السفلية
↑1, ↑5 | السَّمَرُ: الحديثُ بالليل. الصحاح (2/688)، لسان العرب (4/377). |
---|---|
↑2 | أخرجه البخاري (568)، ومسلم (647)، من حديث أبي برزة رضي الله عنه. |
↑3 | أخرجه البخاري (4837)، ومسلم (2820)، من حديث عائشة رضي الله عنها. |
↑4 | أخرجه أحمد (17123)، والترمذي (2459) وحسَّنه، وابن ماجه (4260)، والبيهقي في شعب الإيمان (10062)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. |