بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الصّيام)
– الدّرس: الرّابع
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين، أمَّا بعد؛ قالَ المصنِّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
[بابُ ما يُفْسِدُ الصّومَ ويُوجِبُ الكفارةَ]
– الشيخ: يعني بابُ ذكرِ مفسداتِ الصومِ، وما يُوجِبُ الكفّارةَ منها، فعطفُ ما يُوجبُ الكفّارةَ هو من عطفِ الخاصِّ على العامِّ، فإنَّ الموجبَ للكفّارةِ هو الجماعُ كما سيأتي، وهو من مفسداتِ الصيامِ ولهذا خصَّهُ بالذِّكرِ، وخصَّهُ بفصلٍ سيأتي. "ما": من صيغِ العمومِ، اسمٌ موصولٌ، فيعمُّ جميعَ المفسداتِ. وهذه المفسداتُ تُسمَّى المفطّرات؛ لأنَّها تُوجِبُ إفسادَ الصومِ ويكونُ الإنسانُ حينئذٍ مفطرًا.
وتنوَّعتْ عباراتُ الفقهاءِ في التعبيرِ عمّا يُفسِدُ العبادة في الوضوءِ والصلاةِ والحجِّ والصيامِ، ففي الوضوءِ يقولون: نواقضُ الوضوءِ، ولهم في هذا التنويعِ ملاحظةٌ عجيبةٌ ودقيقةٌ، وفي الغُسلِ: مُوجباتُ الغُسلِ، وفي الصلاةِ: مُبطلاتُ الصلاةِ، وفي الصيامِ: مفسداتُ الصيامِ، وفي الحجِّ: محظوراتُ الحجِّ، فلهم في هذا التنويعِ ملاحظاتٌ دقيقةٌ، وربَّما سَبَقَ التنبيهُ إلى هذا. والذي لاحظتُه أنَّه هناك تطابقٌ أو تقاربٌ جدًا بين مبطلاتِ الصلاةِ ومفسداتِ الصيامِ، أمَّا محظوراتُ الإحرامِ فعبّروا عنها بأنَّها محظورةٌ أي ممنوعةٌ، يعني المحرّماتُ في الإحرامِ، ولا يصحُّ أن يُقالَ: مفسداتُ الإحرامِ؛ لأنَّهم -أي الفقهاءُ- نصّوا على أنَّه لا يُفسدُ الإحرامَ من محظوراتِ الإحرامِ إلّا الجماع، أمَّا الباقي فإنَّها لا تُفسدُ الإحرامَ، لكنَّها كلَّها –المحظورات- محرّماتٌ على المُحرمِ.
– القارئ: (مَنْ أكلَ، أو شَرِبَ، أو اسْتَعَطَ، أو احتقنَ، أو اكتحلَ بما يَصِلُ إلى حَلْقِه، أو أدخلَ إلى جوفِه شيئًا مِنْ أيّ موضعٍ كانَ غيرَ إحليلِه، أو استقاءَ، أو استمنى، أو باشرَ فأمنى، أو أمذى، أو كرر النظرَ فأنزلَ، أو حجمَ، أو احتجمَ، وظهرَ دمٌ، عامدًا، ذاكرًا، لصومِه: فَسدَ)
– الشيخ: مَنْ: اسمُ شرطٍ، و "أكلَ" وما عُطِفَ عليها هي كلُّها فعلُ الشرطِ، و "فَسدَ صومُهُ": جوابُ الشرطِ. من حصلَ منه شيءٌ من هذه المذكوراتِ معناه فسدَ. إذًا كلُّها مفسداتُ الصومِ، هذا مجملُ الكلامِ في هذه العبارةِ. وهذه التي ذكرَهَا وهي المفسداتُ منها ما هو مُجمعٌ عليه ومعلومٌ بالضرورةِ من دينِ الإسلامِ وهي: "الأكلُ والشربُ والجماعُ"، هذه هي الأصلُ في المفطّراتِ، وهي الصريحةُ في القرآنِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، هذا وقتُ الإباحةِ، ثمَّ أتمُّوا الصيامَ: الإمساكُ إلى الليلِ، فهذه هي المفطّراتُ الأصليّةُ أو القطعيّةُ، أو المنصوصةُ في القرآنِ.
المؤلِّفُ لم يذكرِ الجماعَ هنا في هذهِ العبارةِ، لأنَّه خصَّهُ بالذّكرِ وهو الموجِبُ للكفّارةِ وهو الجماعُ. فمفسداتُ الصيامِ القطعيّةِ هي هذه الثلاثةُ، وما سواها فيه اختلافٌ، وقد يكونُ الرّاجحُ ما ذكرَهُ المؤلّفُ، وقد يكونُ الراجحُ خلافَهُ.
"واسْتَعَطَ": من السَّعوط، وهو صبُّ الشيءِ أو الدَّواءِ في الأنفِ. فهذا في منزلةِ الشربِ أو الأكلِ، لأنَّ الأنفَ مدخلٌ إلى الجوفِ، الأصلُ هو الفمُ، لكنَّ الأنفَ أيضًا يُعتبرُ منفذٌ. ويستدلُّ له بحديثِ لقيطِ بن صَبِرَةَ: "وبالغْ في الاستنشاقِ إلَّا أن تكونَ صائمًا".
والاستنشاقُ: هو جذبُ الماءِ إلى باطنِ الأنفِ، والمبالغةُ في حدودِ ما لا يضرُّ الإنسانَ.
"إلَّا أن تكونَ صائمًا": لأنَّه لا يؤمنُ أن يدخلَ الماءُ إلى الحلقِ ثم إلى الجوفِ والمعدةِ، فهذا الذي أخذَ منه الفقهاءُ أنَّ الأنفَ منفذٌ، إذًا نقولُ أنَّ قطرةَ الأنفِ تُفطّرُ، لأنَّ الأنفَ منفذٌ.
"أو احتقنَ": وهو استعمالُ الحقنةِ، ويقصدونَ بها صبُّ الشيءِ من الدُّبُرِ من ماءٍ أو دواءٍ، وهو عمليةٌ طبيّةٌ جاريةٌ، ويتخذونها لعلاجِ بعضِ الأمراضِ، والإمساكِ، والآنَ هناك أدويةٌ غيرُ الحقنةِ. الحقنةُ في الغالبِ تكونُ عبارةً عن سائلٍ يُحقنُ في الشرجِ من الدُّبرِ، وفي أدويةٍ تُسمى تحميلةً، وهي تدخل بسهولةٍ وتعالجُ بعضَ الحالاتِ المرضيةِ. إذًا: المقصودُ أنَّ المؤلِّفَ يقولُ: "أو إذا احتقن"، وعلى هذا فالحقنةُ من مفسداتِ الصيامِ عندَه. وفي هذا خلافٌ، فمن أهلِ العلمِ من يقولُ أنَّها لا تُفطّر لأنَّها ليست أكلًا ولا شربًا ولا في منفذٍ معتادٍ كالفمِ والأنفِ، وهذه بالعكسِ فإنَّها تباشرُ الفضلاتِ وما في المحلِّ من نجاسةٍ، فهي علاجٌ لاستخراجِ ما هنالكَ، وهذا هو الصوابُ إن شاءَ اللهُ، فالحقنةُ لا تُفطّرُ ولا تُفسِدُ الصيامَ.
"أو اكتحلَ بما يصلُ إلى حلقِه": فالكحلُ موجودٌ في عهدِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولم ينهَ عنه، ولم يصحَّ النهيُ عنه، وما وردَ من أنَّه نهى الصائمَ عن الاكتحالِ لم يصحَّ عنه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، والعينَ ليست منفذًا طبيعيًا فهي تشبهُ ما سيأتي من مسألةِ الإبرِ وما نحوها. والصّحيحُ أنَّه لا يُفطّر أيضًا واللهُ تعالى أعلمُ، وكذلك القطرةُ.
"أو أدخلَ إلى جوفِه شيئًا مِنْ أيّ موضعٍ كانَ غيرَ إحليلِه": "أو أدخلَ إلى جوفِهِ": إلى أيِّ موضعٍ مجوّفٍ في جسمِهِ؛ إلى بطنِهِ إلى صدرِهِ إلى حلقِهِ. "شيئًا": عامٌ فتشملُ أيَّ شيءٍ من أيِّ موضعٍ كان. إذًا: من أدخلَ إلى جوفِهِ شيئًا من أيِّ موضعٍ كان فَسَدَ صومُه.
نبقى في المسائلِ التي طرأتْ وحدثتْ يعني هذه يُسمّونَها الحقنَ، ويُسمّونَها الإبرَ التي يكونُ فيها مادةٌ وتُغرزُ في الإنسانِ في مواضعَ؛ تارةً في العضلِ، وتارةً في العروقِ فهذهِ صارتْ محلَّ خلافٍ، فمن أهلِ العلمِ من يطبّقُ هذا المعنى ويقولُ: إنَّ أيَّ إبرةٍ تغرزُ في جسمِ الإنسانِ فإنَّها تفسدُ صيامَه، فكلُّ ما سَبَقَ من أنَّه استعطَ أو اكتحلَ يُلحقونَها بالأكلِ، ويجعلونَها من نوعِ الأكلِ، لأنَّ العلّةَ هي إدخالُ شيءٍ إلى باطنِ الإنسانِ، فمنهم من ذهبَ إلى ظاهرِ ما ذهبَ إليه المؤلّفُ وأنَّ هذه الإبرَ مفطّرةٌ.
ومن أهلِ العلمِ من قالَ أنَّها لا تفطُّر لأنَّها ليست أكلًا ولا شربًا، فمثلًا إذا كان الصائمُ عطشانًا واغتسلَ خفَّ عطشُهُ كثيرًا وربَّما تداوى بشيءٍ غيرِ مباشرٍ يعني يذكرونَ أشياءَ تُستعملُ ولها أثرٌ على الجسمِ وهي لم يدخلْ منها جزءٌ، لكن لها تأثيرٌ فهذه الإبرُ من هذا النوعِ، فلا تفطّرُ. وتوسّط بعضُهم في القولِ، إذا كانت من النوعِ الذي يُحقنُ بالبدنِ ويقومُ مقامَ الغذاءِ الأكلِ والشربِ فإنَّها تُفطّرُ. الآن المريضُ الذي جلسَ في المشفى تركّب عليه أجهزةً يُسمونَها مغذّيةً، فهذا المغذِّي قائمٌ مقامَ الأكلِ والشربِ، يستغني به المريضُ أيامًا عن الأكلِ والشربِ، فقياسُ هذا النوعِ على الأكلِ والشربِ مسلّمٌ وصحيحٌ لأنَّه يقومُ مقامَ الأكلِ والشربِ. ومع ذلك كلّه فالاحتياطُ تجنُّبُ الإبر وعدمُ تعاطيها إذا أمكنَ في رمضانَ، ولكن لا نقولُ لمن احتاجَ إبرةً تغرزُ في عضلهِ أنَّه أفطرَ.
"أو استقاءَ": أي استدعى القيءَ. قاءَ يشملُ ما كان باختيارِهِ أو بغيرِ اختيارِهِ، لكن استقاءَ أي أنَّه طلبَ القيءَ فقاءَ وهذا قيدٌ. يعني لو طلبَ القيءَ ولم يقئْ فظاهرُهُ أنَّه لا يُفطرُ، لكن قد يَرِدُ عليه أنَّه من نوى الإفطارَ أفطرَ، إذا استقاءَ وحاولَ القيءَ لكنَّه لم يحصلْ فإنَّه نوى الإفطارَ، وهذه المسألةُ أظنُّ أنَّ الشيخَ محمدٌ لم يتعرّضْ لها، فعندي حسبَ التقعيدِ السابقِ أنَّ من نوى الإفطارَ وعزمَ عليه أفطرَ أنه حاولَ لكنَّه لم يقئْ، فمعناهُ أنَّه عازمٌ على الإفطارِ. والعمدةُ في هذا الحديثُ المعروفُ وفي صحّتِه خلافٌ "من ذَرَعهُ القيئُ فلا قضاءَ عليه، ومن استقاءَ فعليه القضاءُ". من ذَرَعَهُ القيءُ فإنَّه بغيرِ اختيارِهِ كمن شمَّ رائحةً فهيّجَ المعدةَ فقاءَ، أمَّا من استقاءَ فعليه القضاءُ. والظّاهرُ هذا الحديثُ لا بأسَ به، والظّاهرُ أنَّ هذا قولُ الجمهورِ في هذا.
– مداخلة: الشيخُ محمّدٌ نبَّهَ على هذهِ المسألةِ فقالَ: من استقاءَ: أي استدعى القيءَ، ولكن لابدَّ من قيءٍ، فمن استدعى القيءَ ولكنَّه لم يقيءْ فإنَّ صومَه لا يفسدُ.
– الشيخ: يعني الشيخُ محمّدٌ قرّرَ ما ذكرَهُ المؤلِّفُ.
– مداخلة: إذا كان جاهلًا؟
– الشيخ: هذا خطأ، وهذا يدخلُ فيما سيأتي عالمًا عامدًا.
"أو استمنى": استدعى المنيَّ بشيءٍ من الاشياءِ حتى يُنزلَ شهوتَه. فإذا استمنى فأمنى فإنَّه فسدَ صومُهُ، وهذا قولُ الجمهورِ. وقال بعضُ أهلِ العلمِ أنَّه لا يفسدُ صومُهُ ولو تعمَّدَ وهذا قولٌ مشهورٌ عن الظّاهريةِ. والصّحيحُ ما ذهبَ إليه الجمهورُ أنَّه إذا تعمّدَ واستمنى فإنَّه يفسدُ صومُه، لأنَّه في منزلةِ الجماعِ، ويحصلُ به قضاءُ الشهوةِ، وفي الحديثِ: "يتركُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه"، فهذا يحصلُ له قضاءُ الوَطَرِ، وإن لم يكن جماعٌ لكنَّه في منزلةِ الجماعِ من حيثُ قضاءِ الشهوةِ. والصيامُ هو تركٌ للشهواتِ، وهذا ما تركَ الشهوةَ، فالصوابُ أنَّه يفسدُ الصومُ بالاستمناءِ.
"أو باشرَ فأمنى": المباشرةُ سيأتي أنَّه يجوزُ للصائمِ أن يُباشرَ بأنواعِ المباشرةِ من ضمٍ أو قبلةٍ أو لمسٍ، فإنْ باشَرَ فأمنى، المباشرةُ حلالٌ، لكنَّه باشرَ فأمنى. إن كان باشرَ ليُمني ويُنزلُ فعندي أنَّه على ما ذكرَ المؤلّفُ، أمَّا لو باشرَ ثمَّ ثارتْ شهوتُه فأنزلَ وهو ما توقَّعَ أنَّ هذا سيحصلُ فأرجو أنَّه لا يفطرُ بذلك لأنَّه لم يقصدْ الإنزالَ. وتطبيقًا لهذا المعنى الذي أقولُه: إذا كان يعرفُ من نفسِهِ ثورانَ الشّهوةِ فيمكنُ أن نقولَ تحرمُ عليه المباشرةُ، كمن عرفَ نفسَه أنَّه إذا باشرَ فإنَّه لا يصبرُ يعني يقعُ في الجماعِ فإنّنا نقولُ: أنَّه يحرمُ عليه أن يباشرَ ما دامَ أنَّه يعرفُ نفسّه أنَّه لا يصبُر، أمَّا لو أنَّه لم يتوقّعْ لكن حالةٌ عارضةٌ ثارتْ شهوتُه فأنزلَ؛ أقولُ: لا يفسدُ الصومُ في هذه الحالةِ لأنَّه لم يقصدِ الإنزالَ.
"أو أمذى": وهو يحصلُ بأقلِّ المباشرةِ، والفرقُ بين المنيِّ والمذيِّ معلومٌ لكم من حيثُ الطبيعةِ، ومن حيثُ صفةِ خروجِهما، أمَّا الطبيعةُ: فالمنيُّ ماءٌ أبيضٌ غليظٌ، والثاني ماءٌ رقيقٌ، وأمَّا من حيثُ صفةِ الخروجِ فالمنيُّ يخرجُ بقوّةٍ ودفعٍ ولذةٍ، وأمَّا المذيُّ فإنَّه يخرجُ من دونِ أن يشعرَ الإنسانُ به ومن غيرِ اندفاعٍ ولذّةٍ. وفرقٌ بينهما في الحكمِ: فخروجُ المنيِّ مُوجبٌ للغُسلِ ومُفسدٌ للصيامِ كما هنا، والمذيُّ لا يُوجبُ الغُسلَ وغايتُهُ الوضوءُ. والقولُ الآخرُ في المذيِّ أنَّه لا يُفسدُ الصومَ لأنَّ تشبيهه بالجماعِ وإلحاقَه به غيرُ ظاهرٍ، ولا يحصلُ به قضاءُ الشهوةِ. فالصّوابُ أنَّ المذيَّ لا يُفسدُ الصومَ، لكن نقولُ الأفضلُ تجنّبُ أسبابِ الإمذاءِ فقط.
"أو كرَّرَ النظرَ فأنزلَ": نظرةٌ عارضةٌ أثارتْ شهوتَه فأنزلَ لا يفسدُ بها الصومُ، لكن لو كرَّرَ النظرَ حتى يحصلَ الإنزالُ، فتكريرهُ كأنَّه استدعاءٌ للإنزالِ، هذا كلُّه يرجعُ إلى أنَّ الإنزالَ مفسدٌ للصومِ، أمَّا المشهورُ عند الظاهريةِ أنَّ الإنزالَ لا يفسدُ الصومَ سواءٌ كان استمناءً أو بأيِّ سببٍ كان.
"أو حجمَ أو احتجمَ وظهرَ دمٌ": هذه مسألةٌ عظيمةٌ وكبيرةٌ، والاختلافُ فيها واسعٌ، وعند المؤلفِ والمشهورِ من مذهبِ الإمامِ أحمدَ أنَّه كذلك، من حجمَ فسدَ صومُهُ وهو الحاجمُ، أو احتجمَ وهو المحجومُ، فمن حجمَ أو احتجمَ عالمًا بالحكمِ فظهرَ دمٌ، أمَّا لو احتجمَ ولم يظهرْ دمٌ فإنَّه من جنسِ ما تقدَّمَ استقاءَ فقاءَ. هنا يقولُ: "فظهرَ دمٌ": أيُّ دمٍ قليلًا كان أم كثيرًا.
"عامدًا ذاكرًا": عامدًا تقابلُ مختارًا، يعني غيرَ مُكرهٍ، متعمّدٌ، وهي تتضمّنُ لا مخطئًا كجاهلٍ بالحكمِ. فالعامدُ هو العالمُ بالحكمِ المتعمّدُ للفعلِ، فالذي حجمَ ولا يعلمُ أنَّ الحجامةَ تُفطّرُ أو فعلَ شيئًا من هذه الأمورِ ليس متعمّدًا للفطرِ، فتتناولُ هذه العبارةُ قولُنا عالمًا أي عالمًا بالحكمِ، عالمًا بأنَّ هذا يُفطّرُ. "ذاكرًا": خرجَ به الناسي، ولهذا ذكرَ المقابلَ وهو لا ناسيًا ولا مكرهًا. وكما قلتُ لكم أنَّ هذه المسألةَ فيها خلافٌ كبيرٌ، ومنشأُ الخلافِ هو تعارضُ الأدلّةِ، فالذين قالوا بالفطرِ بالحجامةِ اعتمدوا على حديثٍ رواهُ عددٌ من الصحابةِ وهو قولُ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ"، قالوا رواهُ عددٌ من الصحابةِ. والذين -وهم الجمهورُ- قالوا: إنَّ الحجامةَ لا تُفطّرُ، تمسّكوا برواياتٍ أخرى ومنها ما رُويَ عن ابن عباسٍ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- "احتجمَ وهو صائمٌ"، وفي روايةٍ أخرى: "احتجمَ وهو مُحرمٌ"، وفي حديثٍ أيضًا عن أنسٍ: "إنَّما نُهيَ عن الحجامةِ من أجلِ الضعفِ"، لأنَّ الحجامةَ تُضعِفُ الجسدَ، ثمَّ رخّصَ. ولهذا الجمهورُ يستدلّونَ بحديثِ ابنِ عباسٍ ويقولون: إنَّ الفطرَ بالحجامةِ منسوخٌ بحديثِ أنسٍ. وفي الحقيقةِ أنَّ المسألةَ عظيمةٌ، وأنَّ كلًّا من القولين فيه عندي قوّةٌ، ولكنَّ الأحوطَ هو الامتناعُ عن الحجامةِ، ومن احتجمَ ننصحُهُ بأنْ يقضيَ.
– مداخلة: ما هو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية؟
– الشيخ: الحجامةُ عنده تُفطّرُ، ويوجّهونَ الأدّلةَ ويدفعونَ استدلالاتِ الجمهورِ، وحديثُ ابنِ عباسٍ لهم فيه كلامٌ، وابنُ القيّمِ كذلك تبعٌ له، ولكن في الحقيقةِ المتأمّلُ لمجموعِ الأحاديثِ والرواياتِ ما يجزمُ بالصّوابِ في هذا واللهُ أعلمُ.
– مداخلة: ألا يأخذُ حكمَ هذا أخذُ عيّنةٍ من الدمِ؟
– الشيخ: لا، إذا كانَ هذا الشأنُ في الحجامةِ، أمَّا على مُقتضَى كلامِ المؤلّفِ: "فظهرَ دمٌ"، مع أنَّهم عند الحنابلةِ هنا لا يفطّرُ إلَّا الحجامةُ، أمَّا الفصدُ والشرطُ فلا يُفطّرُ، ومعنى ذلك أنَّ التحليلَ لا يُفطّرُ، وكذلك التبرّعُ على قولِهم، ولكن في الحقيقةِ يلزمُ من قال بالفطرِ في الحجامةِ أن يقولَ بالفطرِ ولا سيّما بالتبرّعِ، لأنَّ فيه سحبٌ للدمِ، فهي من جنسِ الحجامةِ واللهُ تعالى أعلمُ بالصّوابِ.
– مداخلة: الآن بالنّسبةِ للحجامةِ بالوسائلِ الحديثةِ؟
– الشيخ: التعليلُ لما؟ قالوا: أمّا المحجومُ لأنَّ هناك أثرًا على بدنِه من الإضعافِ وما إلى هنالكَ من التعليلاتِ التي استنبطها العلماءُ وتشيرُ إليها بعضُ الآثارِ، وأمَّا الحاجمُ فليس لفطرِهِ توجيهٌ إلَّا أنَّهم علَّلوا بأنَّ الحاجمَ كان يستخدمُ آلةً تحتاجُ أن يشفطَ بفمِه، فربّما هذا مظنّةُ أنَّه يدخلُ إلى جوفِهِ شيءٌ، وبالحقيقةِ هناك بالنّفسِ من هذا شيءٌ، وهذا يمكنُ أن يكونَ مما يقوّي قولَ أنَّ الحجامةَ لا تُفطّرُ، كونُ هذا التعليلَ يحتملُ أنَّ شيئًا يسيرًا يدخلُ فمَهُ ولا يُدخلُهُ إلى جوفِه. أمَّا الآنَ فعلى قولِ الجميعِ أنَّ الحاجمَ لا يفطرُ فهو لا يَشفطُ، إلَّا على قولِ من يقولُ بما قالَه الظاهريّةُ وهو تعبّدًا، لكنّه غيرُ ظاهرٍ واللهُ أعلمُ بالصوابِ.
– مداخلة: بالنسبةِ للمباشرةِ بعضُ الفقهاءِ قالوا أنَّ الضابطَ فيها هو حديثُ السيدةِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها وهو قولُها: "كان أملكُكم لإربِه"، فنقولُ أنَّه لا يجوزُ المباشرةُ أصلًا؟
– الشيخ: الذي يعلمُ أنَّه ستثيرُ شهوتَه ويُنزلُ نقولُ له: لا، لأنَّه يعرفُ هنا يعرفُ من نفسِهِ أنَّه لا يصبرُ، ولهذا قال بعضُ أهلِ العلمِ يروونَ في هذا حديثًا: "أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- سألَه شيخٌ عن المباشرةِ فرخّصَ له، وسألَه شابٌّ فلم يُرخّصْ له"، لأنَّ الشيخَ بحكمِ العادةِ والسنّةِ ضعيفٌ.
– مداخلة: هل التفكيرُ يلحقُ بالنّظرِ؟
– الشيخ: التفكيرُ فيه كلامٌ.
– القارئ: (لا ناسيًا، أو مكرهًا)
– الشيخ: فالنّاسي لا يفطرُ بأكلٍ ولا شربٍ ولا شيءٍ من هذه المفطّراتِ، وقد صحَّ بذلك الحديثُ: "من أكلَ أو شربَ ناسيًا فليتمَّ صومَه، فإنَّما أطعمَه اللهُ وسقاهُ"، ولقولِه تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قالَ اللهُ: قد فعلت. والمكرهُ أمرُهُ كذلك، فإنَّ اللهَ رخَّصَ للإنسانِ أن يقولَ كلمةَ الكفرِ دفعًا للإكراهِ، فلَأَنْ يأكلَ ويشربَ ما يُفسِدُ صومَه مكرهًا ألَّا يفسدَ صومُهُ ويكونُ معذورًا.
– مداخلة: بالنسبةِ للبخورِ؟
– الشيخ: البخورُ لا يفطّرُ، وأنا أتطيّبُ ولا أُبالي.
– مداخلة: قالَ الشيخُ ابنُ عثيمين في ورقةٍ من مكتبِ الدّعوةِ إذا استنشقَ البخورَ عمدًا مع العلمِ يُفطِّرُ، أمّا مجرّدَ الشمِّ فإنَّه لا يُفطِّرُ؟
– الشيخ: كلامُ الشيّخِ هذا فيه تأمُّلٌ.
الأسئلة:
س1: كيفَ يوجّهُ العلماءُ الذين لا يرونَ فسادَ صومِ الحاجمِ حديثَ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ"؟
ج: يوجّهونَه بالتعليلِ، لأنَّهم علّلوا فطرَ الحاجمِ بأنَّه كذا، فإنَّهم ينظرونَ للعلّةِ فقط، وبعضُهم يقولُ: إنَّه منسوخٌ، ولهم أمورٌ أخرى من أقواها ما في حديثِ أنسٍ: أنَّه كان النّهيُ أو الفطرُ من الحجامةِ كانَ من أجلِ الضعفِ ثمَّ رُخّصَ فيها.
……………………………………….
س2: هل قاعدةُ الفطرِ ممّا دخلَ لا ممّا خرجَ على إطلاقِها، وهل تقتضي هذه القاعدةُ أنَّ القيءَ عمدًا لا يفطّرُ وكذلك الاستمناءُ؟
ج: لا، ليست على الإطلاقِ، بل الفطرُ يكونُ بما دخلَ وبما خرجَ. يقولونَ ممّا خرجَ بالاتفاقِ دمُ الحيضِ، المرأةُ الصائمةُ إذا حاضتْ فسدَ صومُها، وإذا استحاضتْ فلا تفسدُ الصيامَ، فالقاعدةُ غيرُ صحيحةٍ.
……………………………………….
س3: بعدَ الفراغِ من الأكلِ أشعرُ بعضَ الأحيانِ أنَّ الأكلَ يخرجُ من المعدةِ ويصلُ إلى الفمِ بحيث أنَّ الطعمَ في فمي يتغيّرُ، وهل خروجُ الأكلِ من المعدةِ ينقضُ الوضوءَ؟
ج: أخشى أن يكونَ مدخلَ وسواسٍ، لكنْ لو حصلَ شيءٌ من هذا يلفظُهُ وينتهي كلُّ شيءٍ مثل النخامةِ كما سيأتي، والصحيحُ في القيءِ أنَّه لا ينقضُ الوضوءَ.
……………………………………….
س4: ما علّةُ إفسادِ شربِ الدخانِ للصومِ؟
ج: لأنَّه هو علّةٌ في نفسهِ.
……………………………………….
س5: بعضُ الناسِ يكتحلُ ليومِ الجمعةِ، هل وردَ في ذلكَ شيءٌ؟
ج: الرّسولُ كانَ يكتحلُ، وهو من العاداتِ.
– مداخلة: من تعمَّدَ أنْ يكتحلَ ليومِ الجمعةِ فلا يدخلُ ذلكَ في البدعةِ؟
– الشيخ: لا.
……………………………………….
س6: من دخلَ المسجدَ قبلَ آذانِ المغربِ بعشرِ دقائقَ، هل له أن يُصلّي تحيةَ المسجدِ؟
ج: نعم، لأنَّه كما تعلمون أنَّ تحيّةَ المسجدِ من ذواتِ الأسبابِ، ومثلُها صلاةُ الكسوفِ، فلو كسفتِ الشمسُ بعدَ العصرِ فإنّنا نصلي.
……………………………………….
س7: أنا مشرفُ حلقاتِ تحفيظِ القرآنِ، ويكونُ من طلابِ الحلقةِ طلابٌ سيؤونَ، وربّما لو بَقَوا في الحلقةِ أضرّوا ببقيّةِ الطلابِ، فهل يجوزُ فصلُهم من الحلقةِ حفاظًا على بقيّةِ الطلابِ؟
ج: يجوزُ، والجسمُ يجوزُ أن يُقطعَ فيه العضو الفاسدُ فيه.
……………………………………….
س8: هل يجوزُ السفرُ إلى مكة لأجلِ رؤيةِ داخلِ الكعبةِ حين يقومُ أولوا الأمرِ بتنظيفِها بالسنّةِ؟
ج: …
……………………………………….
س9: ما حكمُ قولِ: جمعةٌ مباركةٌ؟
ج: التّهنئةُ بها ليس فيها أصلٌ، وليس سنّة، لكن لو جاءَ ذكرُ اسمِها بأنْ تقولَ مثلًا: لو أنّنا رأيناه في هذه الجمعةِ المباركةِ فليسَ فيها شيءٌ، لكن التهنئة: لا.
……………………………………….
س10: هل طلبُ الدّعاءِ من الناسِ يدخلُ في السؤالِ المذمومِ؟
ج: شيخُ الإسلامِ يُشدّدُ في هذا، ينبغي أن نتواصى في دعاءِ بعضنا لبعضٍ فقط، يعني بدون يا فلان أدعُ لي.
……………………………………….
س11: هل الحجامةُ سنّةٌ أم عادةٌ؟
ج: عادةٌ، وهي علاجٌ.
……………………………………….
س12: في صلاةِ التطوعِ إذا مررتُ بهذه الآياتِ كقولِه تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وقولِه تعالى: فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] يقولُ: اللهمَّ إنّي أسألَك بحقِّ هذه الآيةِ أنْ تُيسّرَ أمري وتفرّجَ همّي، هل دعائي بهذهِ الصيغةِ خطأٌ؟
ج: يقولُ: اللهمَّ إنّي أسألُك بكرمِكَ وإحسانِك، وليسَ بحقِّ هذهِ الآيةِ، أو يقولُ: أسألُكَ يا كريمُ بأنْ تيسّرَ أمري.
……………………………………….
س13: نرجو من فضيلتكم شرحَ الحديثِ: "إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتُم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزّرعِ، وتركتمُ الجهادَ، سلّطَ اللهُ عليكم ذلًا لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دينِكم"، وكيف نطبّقُ الحديثَ في هذا العصرِ؟
ج: هذا فيه تحذيرٌ من بيعِ العينةِ، وهو بيعٌ معروفٌ عندَ الفقهاءِ ومشهورٌ، ويتضمّن نوعًا من الربا. "ورضيتم بالزّرعِ": وهو الإخلادُ إلى الدنيا، والإعراضُ عن الآخرةِ. "وتركتمُ الجهادَ": وهذا ظاهرٌ. "سلّطَ اللهُ عليكم": فالناسُ إذا ركنوا إلى اللذاتِ والشهواتِ وملذّاتِ الحياةِ الدنيا وأعرضوا عمّا به نجاتُهم وسعادتُهم في الآخرةِ فهم معرِّضونَ أنفسَهم بتسليطِ العدوِّ عليهم. وتطبيقُ الحديثِ يكونُ بأن لا تبيعَ بالعينةِ واهتمَّ بأمرِ آخرتِكَ قبلَ دنياكَ، وإذا تهيّأتِ الأسبابُ بأن تكونَ مجاهدًا في سبيلِ اللهِ وهو الجهادُ المشروعُ البريءُ فجاهدْ، والمسلمون الآن وضعُهم يتمثّلُ في أغلبِ الأحوالِ بمضمونِ هذا الحديث، وهذا الحديثُ يَصدقُ على واقعِ الأمّةِ.