بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب المناسك)
– الدّرس: الثّاني
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين، أمّا بعد؛ قال المصنّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
(وإنْ أعجزَهُ: كِبَرٌ، أو مرضٌ لا يُرجى برؤُهُ لَزِمَهُ: أن يُقيمَ مَن يحجّ ويعتمرُ عنهُ من حيثُ وجبا)
– الشيخ: يقول: من "أعجزَهُ" أي عن الحجِّ "كبرٌ"، بحيثُ لا يستطيعُ الركوبَ، كما في الحديث: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ دينٌ أكنتِ قاضيتَه، قالت: نعم، قال: اقضوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالقضاءِ"، فشبَّهَ الحجَّ بالدَّينِ، ولأنَّ شرطَ الحجِّ موجودٌ فيه، الشروطُ: الإسلامُ والبلوغُ والحريةُ، ومن ذلك القدرةُ الماليةُ؛ الزادُ والراحلةُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، هي الزادُ والراحلةُ. فمن أعجزَهُ كبرٌ أو مرضٌ لا يُرجى بُرؤُهُ وهذا المرضُ مقيسٌ على الكبرِ، وجبَ أن يقيمَ من ينوبُ عنه في الحجِّ والعمرةِ، فهو مستطيعٌ بالمالِ، لكنَّه غيرُ مستطيعٍ بالبدنِ، فيقيمُ من يحجُّ ويعتمرُ عنه.
يقولُ المصنّفُ: "من حيثُ وجبا": من وجبَ عليه الحجُّ في الهندِ بأن بلغَ وهو حرُّ وعاقلٌ ومستطيعٌ ماليًا بحيثُ يملكُ الزادَ والراحلةَ، لكنَّه لا يستطيعُ الحجَّ أداءً، لزمَهُ أن يقيمَ من يحجُّ عنه من الهندِ، فلو أنابَ عنه من يحجُّ ويعتمرُ عنه من العراقِ لم يجزهِ، هذا معنى قولِهم "من حيثُ وجبا". والقولُ الصحيحُ: أنَّه يجزئُهُ من أيِّ مكانٍ، وتوجيهُ قولِهم أنَّه لو حجَّ لوجبَ عليه أن يسيرَ من الهندِ، وهذا النائبُ قائمٌ مقامَه بدلًا عنه، ولأنَّ قطعَ المسافةِ من البلدِ إلى المشاعرِ إلى المواقيتِ هذه وسيلةٌ، فلو قطعَ هذه المسافةَ بلا نيّةٍ، سافرَ إلى الطائفِ، ثمّ جاءَ وقت الحجِّ أجزأَهُ أن يُحرمَ من الطائفِ، مع أنَّه قطعَ المسافةَ الطويلةَ بلا نيّةٍ للحجِّ، وهذا هو الصوابُ.
– مداخلة: أحسنَ اللهُ إليكم، من مكةَ هل يُجزئ؟
– الشيخ: واللهِ ينبغي من الميقاتِ فإنّه أحوطُ.
– القارئ: (ويُجزئُ عنهُ، وإنْ عُوفي بعدَ الإحرامِ)
– الشيخ: يجزئُ عنه إذا أقامَ من يحجُّ ويعتمرُ عنه، أجزأَ عنه ولو عوفي بعد ذلك لأنَّه أدّى ما عليه، فلا يجبُ عليه الحجُّ مرةً أخرى لأنَّه اتقى اللهَ ما استطاعَ، وعبارتُهم "إن عُوفي" تُشعرُ بوجودِ قولٍ آخرَ وهو "إن عوفي وجبَ عليه أن يحجَّ بنفسِهِ". وعبارةُ "بعد الإحرامِ" دقيقةٌ، يعني إذا أقامَ من يحجُّ ويعتمرُ عنه ثمّ شرعَ النائبُ في النُّسكِ أحرمَ في الحجِّ، ثمّ شُفيَ المريضُ فإنَّه يُجزئه؛ لأنَّه بشروعِه شرعَ في الأداءِ وهذا قائمٌ مقامَهُ، فهو بين أمرينِ إمَّا أن يُقالَ: يبطلُ نسكُ الثاني، من البلدِ القريبِ يمكنُ أن يشعرَ، والآن حتى من البلدِ البعيدِ يمكنُ أن يقالَ له: انتظر فإنَّ الرجلَ صاحبَ الحجّ قد شُفي من مرضِهِ، فالمقصودُ: أنَّه سواءٌ كان من بعيدٍ أو قريبٍ فإنَّه لا يبطلُ إحرامُ النائبِ.
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "من حيث وجبا": أي من المكانِ الذي وجبَ على المستنيبِ أن يحجَّ منه. فمثلًا: إذا كان من أهلِ المدينةِ، ووجبَ عليه الحجُّ وهو في المدينةِ، يجبُ أن يقيمَ النائبُ من المدينةِ ولا بدَّ، فلو أقامَ نائبًا من رابغَ من الميقاتِ فإنَّ ذلك لا يجزئُ، ولو أقامَ نائبًا من مكةَ من بابِ أولى، فيجبُ أن يقيمَهُ من البلدِ الذي وجبَ عليه الحجُّ فيه، والعلَّةُ أنَّ هذا الرجلَ لو أرادَ أن يحجَّ لنفسِهِ لحجَّ من مكانِه من المدينةِ، فكذلك نائبُه. وهذا القولُ ضعيفٌ؛ لأنَّ المنيبَ إنَّما يلزُمُه أن يحجَّ من بلدِهِ؛ لأنَّه لا يتمكَّنُ أن يخطوَ خطوةً واحدةً، ويصلُ إلى مكةَ إلَّا بالانطلاقِ من بلدِه، ولهذا لو أنَّ هذا المنيبَ في مكةَ قد سافرَ إليها لغرضٍ غيرِ الحجِّ، إمّا لدراسةٍ أو غيرِها، ثمَّ أرادَ أن يُحرمَ بالفرضِ من مكةَ هل نُبيحُ له ذلك أو نقولُ: اذهبْ إلى المدينةِ لأنَّك من أهلِ المدينةِ، والحجُّ واجبٌ عليك في المدينةِ؟ نقولُ: لا بأسَ بأن يحرمَ بالحجِّ من مكةَ؛ فإذًا لا بأسَ أن يحرمَ النائبُ من المدينةِ والسعيُ من المدينةِ إلى مكةِ ليس سعيًا مقصودًا لذاتِه، وإنَّما هو سعيٌ مقصودٌ لغيرِهِ لعدمِ إمكانِ الحجِّ إلَّا من المدينةِ.
فالقولُ الراجحُ أنَّه لا يلزمُهُ أن يقيمَ من يحجُّ عنه من مكانِه، وله أن يقيمَ من يحجُّ عنه من مكةَ، ولا حرجَ عليه في ذلك؛ لأنَّ السعيَ إلى مكةَ مقصودٌ لغيرِهِ.
– الشيخ: هذا صريحٌ بأنَّه لو أنابَ من يحجُّ عنه من مكةَ أجزأَ، ولكن إذا كان بعيدًا، فإقامتُه من دونِ الميقاتِ ليستثمرَ المناسكَ ابتداءً لعلَّ هذا أحوطُ.
– القارئ: قولُه: "ويجزئُ": الضميرُ يعودُ على الحجِّ. قولُه: "عنه": الضميرُ يعودُ على المنيبِ.
قولُه: "وإن عوفيَ": الضميرُ يعودُ على المنيبِ أيضًا. قولُه: "بعدَ الإحرامِ": أي بعدَ إحرامِ النائبِ، أي لو أنَّ المنيبَ، الذي كان مريضًا، وكان يظنُّ أنَّ مرضَهُ لا يُرجى بُرؤُهُ عافاهُ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ بعدَ أن أحرمَ النائبُ، فإنَّ الحجَّ يُجزئُ عن المنيبِ فرضًا؛ لأنَّ المنيبَ أتى بما أمرَ به من إقامةِ غيرِه مقامَهُ، ومن أتى بما أُمرَ به بَرئتْ ذمَّتُه ممَّا أُمرَ به، وهذا واضحٌ. وفُهمَ من كلامِ المؤلّفِ أنَّه إن عُوفيَ قبلَ الإحرامِ فإنَّه لا يُجزئُ عن المنيبِ؛ لأنَّه لم يشرعْ في النُّسكِ الذي هو الواجبُ، فصارَ وجوبُ الحجِّ على المنيبِ بنفسِهِ قبلَ أن يشرعَ هذا في النُّسكِ الذي أنابَه فيه فلزمَهُ أن يحجَّ بنفسِهِ، ولكن يبقى عندنا إشكالٌ وهو أنَّ هذا النائبَ قد تكلَّفَ، وسافرَ إلى مكةَ ووصلَ إلى الميقاتِ، ولكنَّه لم يحجَّ بعدُ، فماذا تكونُ حالُه بالنسبةِ إلى النفقةِ ذهابًا وإيابًا؟ ثمَّ إنَّ هذا النائبَ، سوفَ يقولُ في إحرامِهِ: لبيكَ عن فلان؟
وجوابُ هذا الإشكالِ: أنَّه إذا علمَ النائبُ بأنَّ المنيبَ قد عُوفي قبلَ أن يُحرمَ، فما فعلَهُ بعد ذلك فهو على نفقتِهِ؛ لأنَّه علمَ أنَّه لا يُجزئه حجُّهُ عن منيبِهِ، وأمَّا ما أنفقَهُ قبلَ ذلك من النفقاتِ فإنَّه على المنيبِ.
مثالُه: رجلٌ أنفقَ منذُ سافرَ من البلدِ إلى أن وصلَ إلى الميقاتِ ألفَ ريالٍ، ثمَّ عُوفيَ صاحبُهُ قبلَ أن يُحرمَ، فلا يُجزئُ أن يحرمَ عنه، فعلى المنيبِ ألفَ ريالٍ لأنَّه أنفقَها بأمرِهِ قبلَ أن تنتهيَ مدَّةُ إنابتِهِ، وما بعدَ ذلك يكونُ على النائبِ.
– الشيخ: يعني إذا علمَ فإنَّه لا يُحرمُ إلَّا على نفسِهِ، فإحرامُهُ عنه خلافُ ما تقتضيهِ الاستنابةُ، قد علمَ أنَّه شُوفيَ وعُوفيَ فليس له أن يحرمَ عنه وقد علمَ ذلك قبلَ أن يُحرمَ، فتكونُ نفقتُهُ بعدَ الإحرامِ عليه، أمَّا نفقتُهُ قبلَ الإحرامِ فعلى المنوبِ عنه، أو نقولُ على المستنيبِ، لأنَّ ذلك حصلَ بأمرِهِ.
– مداخلة: يُكملُ الحجَّ؟
– الشيخ: له حالتانِ، إنْ أحرمَ قبلَ أن يعلمَ أنَّ مُستنيبَهُ قد عُوفيَ فإنَّه يمضي بالنيابةِ، لكنَّه إذا عَلِمَ قبلَ الإحرامِ فليسَ له أن يحرمَ على وجهِ النّيابةِ، وإن أحرمَ فإنَّه يُحرمُ عن نفسِهِ، ويمضي عن نفسِهِ.
– القارئ: إن استمرَّ في السيرِ، وأمَّا إذا رجعَ فنفقَةُ الرجوعِ على المنيبِ؛ لأنَّ هذا النائبَ إنّما سعى من البلدِ لمصلحةِ المنيبِ، فما غرمَهُ فإنَّه يكونُ على المنيبِ، وبذلك يزولُ الإشكالُ.
– الشيخ: يعني تكونُ عليه نفقةُ الذهابِ والرجوعِ؛ لأنَّ كلَّ ما تكلَّفَهُ بحكمِ النّيابةِ.
– القارئ: فإن قُدّرَ أنَّ النائبَ لم يعلمْ بشفاءِ صاحبِهِ واستمرَّ وأدَّى الحجَّ فما الحكمُ؟ نقولُ: هذا الحجُّ لا يُجزئُ عن المنيبِ، لكنَّه يكونُ نفلًا في حقِّهِ، وتلزمُ المنيبَ الأجرةُ التي قدَّرها للنائبِ؛ لأنَّ هذا النائبَ لم يعلمْ، وتصرَّفُ الوكيلُ قبلَ علمِهِ بانفساخِ الوكالةِ، أو زوالِها يكونُ صحيحًا نافذًا، كما لو وكلتَ شخصًا يبيعُ لك شيئًا، ثمّ عزلتَهُ عن الوكالةِ، ولم يعلمْ بالعزلِ حتى تصرفَ، فإنَّ تصرُّفَهُ يكونُ صحيحًا بناءً على الوكالةِ الأولى التي لم يعلمْ بأنَّها فُسختْ.
– القارئ: (ويُشترطُ لوجوبهِ على المرأةِ: وجودُ محرمِها)
– الشيخ: هذا شرطٌ خاصٌّ، الشروطُ العامّةُ في ما تقدَّمَ: الإسلامُ والحريةُ والبلوغُ والاستطاعةُ، وهذا شرطٌ يختصُّ بالمرأةِ. يقولُ المصنّفُ: "ويشترطُ لوجوبِ الحجِّ على المرأةِ وجودُ محرمِها": لأنّها منهيّةٌ عن السفرِ بلا محرمٍ، اذا لم تجدْ محرمًا فلا يجبُ عليها الحجُّ للمانعِ الشرعيّ، فالذي أمرهَا بالحجِّ نهاها عن السفرِ، هذا مضمونُ كلامِ المؤلّفِ.
ومن أهلِ العلمِ من يبيحُ لها الحجَّ مع رُفقةٍ مأمونةٍ، لأنَّ المقصودَ من نهيها عن السفرِ بلا محرمٍ هو صيانتُها والأمنُ على عرضِها، فإذا كانت مع نساءٍ ثقاتٍ جازَ لها، ومقتضى هذا أنَّه يجبُ عليها. وهذا محلُّ اجتهادٍ، وظاهرُ الدليلِ الإطلاقُ: "لا يحلُّ لامرأةِ أن تسافرَ إلَّا مع ذي محرمٍ"، وفي قصةِ الرجلِ الذي قال للنبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لمّا نهى أن تسافرَ المرأةُ إلَّا بمحرمٍ "قال: يا رسول الله إنَّ امرأتي انطلقتْ حاجّةً وإني اكتُتبتُ في غزوةِ كذا، فقال: "انطلقْ وحجَّ مع امرأتِكَ"، فأذنَ له في تركِ الغزوِ ليحجَّ مع امرأتِه. فظاهرُ الأدلةِ أنَّه لا يجوزُ للمرأةِ المسلمةِ أن تسافرَ إلَّا مع ذي محرمٍ، ويدخلُ في ذلك سفرُ الحجِّ، والذي أمرَها بالحجِّ نهاها عن السفرِ إلَّا مع محرمٍ، وعليه فلا يجبُ عليها السفرُ، وهي منهيَّةٌ عنه.
– مداخلة: إذا كانت هذه المرأةُ من أهلِ مكةَ؟
– الشيخ: ما أظنُّ أنَّها تدخلُ في هذا، والمسافةُ قليلةٌ، وقد لا يُعدُّ ذهابُها إلى عرفةَ سفرًا، بل هو ليس سفرٌ على قولِ جمهورِ أهلِ العلمِ.
– مداخلة: من يبيحُ سفرَهَا من دونِ محرمٍ ماذا يجيبُ عن الأحاديث؟
– الشيخ: يظهرُ أنَّه ينظرُ أنَّ المقصودَ هو حفظُها والأمنُ على نفسِها وعرضِها، فلا يجيبُ عن الحديثِ إلى بالنظرِ للمقصودِ، ويلزمُ من هذا بأنْ يقولَ بجوازِ سفرِها مطلقًا بهذا القيدِ؛ مع نسوةٍ مأمونةٍ أو ثقاتٍ.
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "ويشترطُ لوجوبِهِ على المرأةِ": الضميرُ يعودُ على الحجِّ، وكذلكَ العمرة، أي: يشترطُ لوجوبِهِ على المرأة "وجودُ محرمِها": أي أن يوجدَ معها محرمٌ موافقٌ على السفرِ معها، فلا يكفي أن يوجدَ محرمٌ، بل لا بدَّ من وجودِ محرمٍ يوافقُ على السفرِ معها. وفُهمَ من كلامِ المؤلفِ أنَّ وجودَ المحرمِ شرطٌ للوجوبِ؛ لأنَّ وجودَه داخلٌ في الاستطاعةِ التي اشترطَها اللهُ ـ عزّ وجلَّ ـ لوجوبِ الحجِّ، وهذا العجزُ ـ أعني عجزَ المرأةِ التي ليس لها محرمٌ عن الوصولِ إلى مكةَ ـ عجزٌ شرعيٌّ، وليس عجزًا حسيًا، فهي كعادمِ المالِ فلا يجبُ عليها الحجُّ، فإنْ ماتت وعندها مالٌ كثيرٌ، لكن لم تجدْ محرمًا يسافرُ بها، فلا يجبُ إخراجُ الحجِّ من تركتِها، ولا إثمَ عليها.
وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ المحرمَ شرطٌ للزومِ الأداءِ لا للوجوبِ، وعلى هذا القولِ إن وجدتْ محرمًا في حياتِها وجبَ عليها أن تحجَّ بنفسِها، وإن لم تجدْ فإنَّها إذا ماتت يحجُّ عنها من تركتِها؛ لأنَّ وجودَ المحرمِ شرطٌ للزومِ الأداءِ بنفسِها، وليس شرطًا للوجوبِ، لكنَّ المذهبَ أصحُّ أنَّه شرطٌ لوجوبِ الحجِّ، وإذا حجَّتْ المرأةُ بدونِ محرمٍ صحَّ حجُّها، ولكنَّها تأثمُ؛ لأنَّ المحرميَّةَ لا تختصُّ بالحجّ.
– مداخلة: ابنُ قاسم قال: وعند – الشيخ: تحجُّ كلُّ امرأةٍ آمنةٍ، مع عدمِ المحرمِ، لزوالِ العلةِ. وقال: هذا متّجهٌ في سفرِ طاعةٍ، وصحّحَ في الفتاوى المصرية: أنَّ المرأةَ لا تسافرُ للحجِّ إلّا مع رفقاء، أو ذي محرمٍ.
– الشيخ: هذا اجتهادٌ، والقولُ الأولُ وهو ما ذُكرَ بالمذهبِ واللهُ أعلمُ أسعدُ بظاهرِ الدليلِ، لكن كما قال الشيخُ محمّد: القولُ الثاني أنَّه شرطُ أداءٍ يقتضي أنَّها إذا ماتت فإنَّه يُنابُ عنها بمالِها، ومقتضى هذا أنَّها إذا أيستْ من وجودِ محرمٍ فإنَّها تستنيبُ وهي حيّةٌ، والشيخُ محمدٌ يختارُ أنَّ الصحيحَ أنَّه لا يجبُ عليها الحجُّ لأنَّها منهيّةٌ عن السفرِ، واللهُ الذي أمرَها بالحجِّ نهاها عن السفرِ بلا محرمٍ، فلا نتحكّمُ ونقول أنَّه يجوزُ لها.
– مداخلة: عن الإمامِ أحمدَ لا يُشترطُ في القواعدِ؟
– الشيخ: كلّها نظرٌ إلى التعليلِ، ومن هي القاعدُ؟ هل هي التي بلغتْ خمسينَ؟ وسنُّ الكِبرِ كم؟ لأنَّه لا ينضبطُ، والظاهرُ أنَّه لا فرقَ.
مداخلة: في الروضِ قال: لا فرقَ بين الشابّةِ والعجوزِ وقصيرِ السفرِ وطويلِهِ.
– الشيخ: هم في هذه المسألةِ تطبيقُ الظاهريةِ تمامًا، وأرجو أنْ يكونَ هو الراجحُ.
– القارئ: الشيخُ البليهي له تعليقٌ:
قوله "وجودُ محرمِها": هو قولُ أبي حنيفةَ وأكثرِ علماءِ الحديثِ، وهو اختيارُ الشيخِ في الفتاوى المصريةِ، والنصوصُ عن الشارعِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في تحريمِ سفرِ المرأةِ بلا محرمٍ وفي تحريمِ خُلوّها بالأجانبِ كثيرٌ جدًا؛ منها حديثُ أبي هريرةَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "لا يحلُّ لامرأةٍ تسافرُ مسيرةَ يومٍ إلَّا مع ذي محرمٍ عليها" متفقٌ عليه، رواهُ الخمسةُ إلّا النّسائي.
وقال ابنُ المنذرِ: أغفلَ قومٌ القولَ بظاهرِ هذا الحديثِ واشترطَ كلٌ منهم شرطًا لا حجّةَ لهم فيما اشترطوهُ، فقال مالكٌ: تخرجُ مع جماعةٍ من النساءِ، وقال الشافعيُّ: تخرجُ مع ثقةٍ حرّةٍ مسلمةٍ، وقال ابنُ سيرين: تخرجُ مع رجلٍ من المسلمين، ولا نعلمُ مع هؤلاءِ حُجّةً توجبُ ما قالوا.
– الشيخ: هذا فتحُ بابٍ، يعني إذا أخذَ بالمذاهبِ فهذا فتحُ بابٍ لسفرِ المرأةِ بلا محرمٍ، حتى في غيرِ الحجِّ، يعني إذا جازَ لها السفرُ بهذهِ الوجوهِ المذكورةِ فما هو المانعُ إذا انتفتِ العلّةُ، فالتمسُّكُ بظاهرِ الدليلِ أسعدُ في الصوابِ وأحرى واللهُ أعلمُ.
– مداخلة: لو حجّتْ ووقعَ هذا الأمرُ؟
– الشيخ: صحَّ حجُّها مع الإثمِ، إلَّا إذا كانت بناءً على فتوى فإنَّ حجّها صحيحٌ ولا إثمَ عليها.
– القارئ: (وهو: زوجُها، أو من تحرمُ عليهِ على التأبيدِ بنسبٍ، أو سببٍ مباحٍ)
– الشيخ: هذا ضابطُ المحرمِ، فالمحرمُ هو الزوجُ، وهو أكملُهم محرميَّةً، أو من تحرمُ عليه على التأبيدِ بنسبٍ؛ كأبيها، أو ابنِها، أو عمِّها، أو خالِها، فإنَّها تحرمُ عليه بنسبٍ، أو سببٍ مباحٍ كالرضاعةِ أو المصاهرةِ؛ كأبيها من الرضاعِ، أو أخيها من الرضاعِ، أو خالِها من الرضاعِ، وابنِها من الرضاعِ؛ لأنَّها تحرمُ عليه بسببٍ مباحٍ وهو الرضاعُ، أو بالمصاهرةِ؛ كأبِ زوجِها، وابنِ زوجِها، وزوجِ بنتِها.
ويبقى هل في سببٍ تحرمُ عليه على التأبيدِ بسببٍ غيرِ مباحٍ؟ هذا ينطبقُ على مثلِ على قولِ على ما في المذهبِ أنَّ من زنى بامرأةٍ حرمتْ عليه أمُّها وبنتُها على التأبيدِ، فأمُّ المزنيّ بها وبنتُ المزنيّ بها تحرمُ على الزاني على التأبيدِ لكن بسببٍ محرّمٍ، والقولُ الثاني: أنَّها لا تحرمُ، ويذكرونَ أيضًا الموطوءة بشبهةٍ فإنَّ الوطءَ بشبهةٍ ليس مباحًا، ولا يُقالُ أنَّه مباحٌ مع أنَّه يوجبُ التحريمَ فمن وطءَ بشبهةٍ فإنَّه يحرمُ عليها بنتُها وأمُّها تحريمًا مؤبدًا ولكن لا تثبتُ له المحرميَّةُ.
– مداخلة: بنتُه من الزّنى؟
– الشيخ: ينطبقُ عليها أنَّ تحريمَها بسببٍ ليسَ بمباحٍ، لكنَّها بنتَهُ وهي ليست بنتًا شرعيةً؛ فلا يكونُ محرمًا لها.
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
وقولُه: "سببٍ مباحٍ": خرجَ به ما ثبتَ التحريمُ به بسببٍ محرَّمٍ، مثلُ: أمِّ المزنيّ بها، وأمِّ الملوطِ به وبنتِهِ، على القولِ بأنَّه يُوجبُ التحريمَ. مثالُه: رجلٌ زنا بامرأةٍ، فهل يكونُ محرمًا لأمِّها؟ الجوابُ: لا، وأمُّها حرامٌ عليه على التأبيدِ، وبنتُها حرامٌ عليه على التأبيدِ، ولكنَّ القولَ الراجحَ أنَّ أمَّ المزنيّ بها ليستْ حرامًا على الزاني، وأنَّ بنتَ المزنيّ بها ليست حرامًا على الزاني؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وفي قراءةٍ أخرى: وأَحَلَّ لَكُم ما وَرَاءَ ذَلِكُم بالبناءِ للفاعلِ، ولم يذكرِ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ أمَّ المزنيّ بها وبنتَها في المحرماتِ، وإنَّما قال: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]
ومعلومٌ أنَّ المزنيّ بها ليست من نسائِه قطعًا؛ لأنّ نسائَه زوجاتِه، فإذا لم تكن من نسائِهِ فإنَّه لا يصحُّ أن يُلحقَ السفاحُ بالنكاحِ الصحيحِ، فإذا تابَ من الزنا جازَ له أن يتزوَّجَ أمَّ المزنيّ بها وبنتَها، ومن بابِ أولى حِلُّ أمِّ الملوطِ به وبنتِه. أمَّا الموطوءةُ بشبهةٍ، أي: لو وطئَ امرأةً بشبهةٍ، أي: شبهةِ عقدٍ، أو اعتقادٍ، فهل هو مَحرمٌ لأمِّها؟ الجوابُ على المذهبِ: لا؛ لأنَّ هذهِ المرأةَ الموطوءةُ بشبهةٍ لا تحلُّ له في باطنِ الأمرِ، فتحريمُ أمِّها أو بنتِها بسببٍ غيرِ مباحٍ. واختارَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ ـ رحمه الله ـ: أنَّ أمَّ الموطوءةِ بشبهةٍ وبنتَها من محارمِهِ؛ لأنَّه حينَ وطئَ هذه المرأةَ يظنُّها من حلائِلِه، فيترتَّبُ على هذا الوطءِ ما يترتّبُ على الوطءِ المباحِ، وعلى هذا فمن وَطِئَ امرأةً بشبهةٍ فإنَّ أمَّها تكونُ حرامًا عليه، وهي من محارمِهِ أيضًا، وبنتُها كذلك تكونُ حرامًا عليه، وهي من محارمِهِ، فصارَ المذهبُ التسويةُ بين المزنيّ بها والموطوءةِ بشبهةٍ في أنَّ أمَّها وبنتَها ليستا من محارمِ الواطئِ، والصحيحُ التفريقُ بينهما.
– الشيخ: التفريقُ بين الزنا والوطءِ بشبهةٍ، فالوطءُ بشبهةٍ على كلامِ الشيخِ ملحقٌ بالنكاحِ، وإن لم يُوصفَ بأنَّه حلالٌ لكنّه عند مباشرتِهِ يعتقدُ أنَّه حلالٌ فجرَّتْ عليه أحكامٌ بحسبِ اعتقادِهِ، يعني ترتّبَ على هذا الوطءِ ما ترتّبَ على النكاحِ الحلالِ.
القارئُ:والصحيحُ التفريقُ بينهما وأنَّ أمَّ الموطوءةِ بشبهةٍ وبنتَها من محارمِ الواطئِ؛ لأنَّه وطئَ وهو يظنُّ أنَّه وطءٌ حلالٌ. مثالُه: رجلٌ تزوَّجَ امرأةً، ثمَّ بعد ذلك تبيَّنَ أنَّها أختَه من الرَّضاعِ، فوطؤهُ إيّاها شبهةٌ؛ لأنّه لا يعلمُ التحريمَ حينَ الوطءِ فأمُّ هذهِ الزوجةِ حرامٌ عليه وهي من محارمِه؛ لأنَّه حين وطئَ المرأةَ التي تزوَّجَها يعتقدُ أنَّها حلالٌ له.
– الشيخ: هذا المثالُ يعني فيه قوّةٌ، لأنَّه تزوَّجَها وعقدَ عليها وعاشَ معها مدَّةً، ثمَّ تبيّنَ له أنَّها أختَه من الرضاعةِ، لكن فيه صورٌ ما ترقى إلى هذه الدرجةِ، لو وطئَها بشبهةٍ يعني كأنَّها كانت في مكانٍ يظنُّها زوجتَه فوطئَها هكذا غلطٌ، ولم يكن عن عقدٍ، إنَّما هو أخطأ، فظاهرُ الإطلاقِ أنَّه لا فرقَ سواء مبنيّ على عقدٍ أو مباشرةٍ بالخطأ، والشيخُ مثّل بهذا المثالِ لأنَّ فيه قوّةً.
– القارئ: مسألةٌ: هل المرأةُ التي تحرمُ عليه إلى أمدٍ من محارمِه كأختٍ زوجتِه مثلًا؟
الجوابُ: ليست من محارمِهِ؛ لأنَّها ليست محرَّمةً على التأبيدِ، وأختُ الزوجةِ ليست حرامًا على الزوجِ، لأنَّ الحرامَ هو الجمعُ، ولهذا قالَ اللهُ تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23] وقال النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "لا يُجمعُ بين المرأةِ وعمّتِها، ولا بين المرأةِ وخالتِها".
ويشترطُ للمحرَمِ ما يلي: الأولُ: أن يكونَ مسلمًا، فإن كانَ كافرًا فليسَ بمحرَمٍ. وظاهرُ كلامِ الأصحابِ أنَّه ليسَ بمحرمٍ، سواءٌ كانتِ المرأةُ موافقةً له في الدّينِ أو مخالفةً، وبناءً على ذلك لا يكونُ الأبُ الكافرُ محرمًا لابنتِهِ الكافرةِ، ويكونُ الأبُ الذي لا يُصلّي غير محرمٍ لابنتِهِ التي تُصلّي، لأنَّه من شرطِ المحرمِ أن يكونَ مسلمًا، وغيرُ المسلمِ ليسَ بمحرمٍ. ولكنَّ الصحيحَ خلافُ ذلك، وأنَّ الرجلَ محرمٌ لمن توافقُه في الدينِ، فأبو المرأةِ الكافرةِ إذا كان كافرًا يكونُ محرمًا لها، ولا نمنعُهُ من السفرِ هو وابنتُه مثلًا، فإن خالفتْهُ في الدينِ؛ فإن كان دينُهُ أعلى كمسلمٍ مع كافرةٍ فهو محرمٌ بلا شكٍّ، وإن كان دينُه أنزلَ كالكافرِ مع المسلمةِ فإنَّه يكونُ محرمًا للمسلمةِ، بشرطِ أن يؤمنَ عليها، فإن كان لا يؤمنُ عليها فليسَ بمحرمٍ، ولا تُمكَّنُ من السفرِ معه.
– الشيخ: الأمنُ عليها شرطٌ أساسيٌّ في المحرمِ، هذا شرطٌ في المحرمِ مطلقًا، لأنَّ بعضَ المسلمينَ يكونُ فاسقًا فلا يؤمنُ على محرمِهِ، لا يؤمنُ على أختِهِ، فهذا شرطٌ أساسيٌّ في المحرمِ مطلقًا.
– القارئ: الثاني: أن يكونَ بالغًا، فالصغيرُ لا يكفي أن يكونَ محرمًا؛ ووجهُ ذلك أنَّ المقصودَ من المحرمِ حمايةُ المرأةِ وصيانتُها، ومن دونِ البلوغِ لا يحصلُ منه ذلك.
الثالث: أن يكونَ عاقلًا، فالمجنونُ لا يصح ُّأن يكونَ محرمًا، ولو كان بالغًا؛ لأنَّه لا يحصلُ بالمجنونِ حمايةُ المرأةِ وصيانتُها. فإذا فُقدَ المحرمُ البالغُ العاقلُ المسلمُ، فإنَّه لا يجبُ عليها الحجُّ، أو وجدَ ولكن أبى أنْ يسافرَ معها، فإنَّه لا يجبُ عليها الحجُّ، فإذا بذلت له النَّفقةَ أي نفقةَ الحجِّ، فهل يلزمُهُ أن يحجَّ معها؟ الجوابُ: لا يلزمُهُ؛ لأنَّ ذلك واجبٌ على غيرِهِ، وقالَ بعضُ العلماءِ: بل يلزمُهُ، واستدلوا بما يلي:
أولًا: أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال للرَّجلِ الذي قال: يا رسولَ اللهِ إنَّ امرأتي خرجتْ حاجةً، وإنّي اكتُتبتُ في غزوةِ كذا وكذا، قال: "انطلقْ فحجَّ مع امرأتِك"، فأمرَهُ أن ينطلقَ ويحجَّ مع امرأتِه، والأصلُ في الأمرِ الوجوبُ.
– الشيخ: اللهُ أعلمُ، هذا فيه احتمالُ أنَّه إذنٌ، يعني الاستدلالُ بهذا على وجوبِ الحجِّ على المحرمِ إذا بذلتْ له النفقة ليسَ بظاهرٍ.
– القارئ: ثانيًا: لأنَّه إذا كانتِ المرأةُ ستتكفَّلُ بجميعِ النفقةِ فلا ضررَ عليه في الغالبِ، ولا سيّما إذا كان لم يؤدِّ الفريضةَ؛ لأنَّه في هذه الحالِ قد نقولُ إنَّه يجبُ عليه من وجهين: لأداءِ الفريضةِ، ولقضاءِ حاجةِ هذه المرأةِ، والذي أرى أنَّه لا يجبُ عليه الموافقةُ، ولا يلزمُهُ السفرُ معها، وأمَّا الحديثُ فإنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أمرَهُ أن يحجَّ مع امرأتِهِ؛ لأنَّ المرأةَ قد شرعت في السفرِ، ولا طريقَ إلى الخلاصِ من ذلك إلَّا أن يسافرَ معها.
مسألةٌ: امرأةٌ مستطيعةٌ ومعها محرمٌ يمكنُ أن يحجَّ بها كأخيها لكن لم يأذنْ زوجُها؟ الجوابُ: إذا وجبَ الحجُّ على المرأةِ فلا يشترطُ إذنُ الزوجِ بل لو منعها فلها أن تحجَّ؛ لأنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ.
– القارئ: (وإنْ ماتَ من لَزِمَاهُ: أُخْرِجَا من تركتِه)
– الشيخ: يعني أُخرجَ من تركتِهِ ما يُحَجُّ به، يعني ما يُعطى لمن ينوبُ عنه في الحجِّ والعمرةِ، يعني أُخرجتْ نفقتُهما من تركتِهِ مقدمةً على كلِّ الحقوقِ، وقد ذكرَ العلماءُ الحقوقَ المتعلّقةِ بالتركةِ، وقالوا إنَّ الحقَّ الثاني هو الدّينُ للهِ أو لآدمي، الديونُ… أو الحقُّ الثالثُ بخلافِ الحقِّ المتعلِّقِ بعينِ التركةِ كالرهنِ.
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "وإن ماتَ من لزماه أخرجا من تركتِه": أي من تمَّتْ الشروطُ في حقِّهِ، ثمَّ ماتَ فإنّهما يخرجانِ من تركتِهِ قبلَ الإرثِ والوصيةِ؛ لأنَّ ذلك دينٌ لقولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "دَينُ اللهِ أحقُّ بالوفاءِ"، فيؤخذُ من تركتِهِ ما يكفي للحجِّ والعمرةِ، وما بقيَ فإنَّه للوصيةِ والورثةِ، ويُخرَجُ من تركتِهِ سواءٌ أوصى أم لم يوصِ، كما لو كانَ عليه دينٌ أخرجناه من تركتِهِ سواءٌ أوصى به أم لم يوصِ به.
مثالُه: رجلٌ أغناهُ اللهُ قبلَ الحجِّ ثمَّ لم يحجَّ وماتَ وعنده مالٌ، فعلى كلامِ المؤلّفِ يخرجُ من تركتِهِ، ولكن ذهبَ ابنُ القيّمِ ـ رحمهُ اللهُ ـ مذهبًا جيدًا وهو أنَّ كلَّ من فرَّطَ في واجبِهِ فإنَّه لا تبرأُ ذمَّتُه ولو أُديَ عنه بعد موتِه، وعلى هذا فلا يحجُّ عنه ويبقى مسؤولًا أمامَ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ لكنَّ الجمهورَ على خلافِ كلامِ ابنِ القيّمِ، لكنَّ كلامَه هو الذي تقتضيهِ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ، وعُلِمَ من كلامِ المؤلّفِ أنَّه لو ماتَ، ولم يكن له تركةً لم يلزمْ أحدًا أن يحجَّ عنه.
– الشيخ: اللهُ المستعانُ، الحجُّ له أمدٌ، هو فرّطَ، ولا يلزمُ من هذا أنَّه قد عزمَ على أنَّه لا يحجّ، أمَّا من عُلِمَ من حالِه أنَّه عازمٌ على ألَّا يحجَّ فهذا هو الذي لا أرى أنَّه لا يُنابُ عنه ولا يُحجُّ عنه، لكنَّ الحجَّ ليس له وقتٌ بحيث يفوتُ، نعم تجبُ المبادرةُ كما تقدَّمَ وأنَّها تجبُ على الفورِ، لكن ما دامَ حيًا فهو مُطالَبٌ بالحجِّ وإذا حجَّ فحجّه صحيحٌ ويأثمُ بالتّسويفِ والتأخيرِ، وإذا ماتَ يعني لعلَّه سوّفَ، أمَّا من عُلمَ منه أنَّه عازمٌ على ألَّا يحجَّ فهذا قد قيل بكفرِهِ. فلعلَّ هذا التفصيلَ أولى من الجزمِ من ابنِ القيّمِ بأنَّه لا يحجُّ عنه، وقولُ الجمهورِ أقربُ واللهُ تعالى أعلمُ.
– القارئ: هناك تعليقٌ للشيخِ البليهي:
قولُه "أخرجَ من تركتِهِ": وهو قولُ الشافعيّ وكثيرٍ من العلماءِ، وقال أبو حنيفةَ ومالك: يسقطُ بالموتِ فلا يلزمُ الورثةَ أن يحجّوا عنه إلَّا أن يوصيَ بذلك، فإن أوصى أُخرجَا من ثلثِه.
– الشيخ: قولُ الجمهورِ هو الأظهرُ إن شاءَ اللهُ.
خطرَ ببالي في مسألةِ سفرِ المرأةِ بلا محرمٍ، يعني مع هذا التشديدِ من أهلِ العلمِ عملًا بأدلةِ تحريمِ السفرِ بلا محرمٍ، يردُ كثيرٌ من النساءِ في هذه الأوقاتِ إلى أن يسافرنَ للعمرةِ بلا محرمٍ، مع أختِها، أو مع مجموعةٍ من النساءِ لتعتمرَ عمرةً غيرَ واجبةٍ تطوعيّة، فهذا يُعلمُ أنَّه حرامٌ وأنَّه لا يجوزُ لها فعلُ ذلك.
– مداخلة: هل يُشرعُ له أن يُنيبَ من يحجُّ ويعتمرُ عنه نافلةٍ؟
– الشيخ: لا، يحجُّ بنفسِهِ.
– مداخلة: إذا كان والدُهُ حيٌّ ووالدتُه، ما يحجُّ عنهما؟
– الشيخ: ما يحجُّ ولا شيء إلَّا عن العاجزِ، أو الميّتِ.
الأسئلة:
س1: ما معنى أنَّ المحرمَ شرطٌ للزومِ الأداءِ لا للوجوبِ؟
ج: يعني من جنسِ الكبيرِ العاجزِ عن الركوبِ والمريضِ الذي لا يُرجى بُرؤهُ، وهو يستطيعُ بمالِهِ يجبُ أن ينيبَ من يحجُّ ويعتمرُ عنه، ولا يجبُ عليه، فهو واجبٌ عليه بمالِهِ لا ببدنِه، فمن يرى أنَّ المحرمَ شرطٌ للأداءِ يقولُ: يجبُ على المرأةِ التي تجدُ محرمًا، يجبُ عليها أن تنيبَ من يحجُّ عنه؛ لأنَّها لا يجبُ عليها الأداءُ بنفسِها لكنَّ الحجَّ واجبٌ عليها في مالِها، ولا يجبُ عليها ببدنِها، فإذا كان واجبًا عليها بمالِها لزمَ أن تُنيبَ من يحجُّ ويعتمرُ عنها على القولِ بالوجوبِ.
………………………………………….
س2: من ماتَ وهو في الحجِّ قبلَ أن ينتهيَ من الحجّ، هل يسقطُ عنه، أم يحجُّ عنه أحدٌ آخرُ؟
ج: أرجو أنَّه يسقطُ عنه، والرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ لم يأمرْ في شأنِ الرجلِ الذي وقصتْهُ راحلتُه وماتَ قال: "غسّلوهُ بماءٍ وسدرٍ ولا تخمّروا رأسَهُ، ولا تمسّوه طيبًا ولا تحنّطوه فإنَّه يُبعثُ يومَ القيامةِ ملبيًا"، ولم يأمرْ أحدًا بالحجِّ عنه، أو أن يقومَ أحدٌ بتكميلِ المناسكِ عنه.
………………………………………….
س3: هل على المحرمِ شيءٌ إذا امتنعَ عن مرافقةِ المرأةِ مع قدرتِهِ على ذلك؟
ج: نقولُ: تقصيرٌ، ولا نقولُ أنَّه يأثمُ. ومن صلةِ الرحمِ أن يصحبَ أختَهُ أو عمَّتَه أو خالتَه، وينبغي أن يحتسبَ، ولاسيَّما إذا قامتْ بنفقتِه.
………………………………………….
س4: بعضُ العاملاتِ اللاتي يأتينَ إلى المملكةِ بدونِ محرمٍ، هل يجوزُ لهم الحجُّ أو العمرةُ بدونِ محرمٍ سواء رفقةُ نساءٍ، أو مع العائلةِ التي تعملُ لديهم؟
ج: هي أتت بلا محرمٍ، وكلُّ إقامتِها بلا محرمٍ وسفرُها بلا محرمٍ، فإذا حجّت الأسرةُ وحجّتْ معهم صحَّ حجّها، ولا نقولُ اتركوها، فحجُّها معهم أولى من أن يودّعونَها عند بعضِ الناسِ، إذا طلبتِ الحجَّ فليس لهم منعُها، فلها التصرفُ بنفسِها، فإمّا أن تكونَ آثمةً أو معذورةً بجهلِها.
………………………………………….
س5: هل هناكَ دليلٌ على بدلِ المحرمِ بجماعةٍ من النساءِ في السفرِ؟
ج: اجتهادٌ، نظرًا لعلّةِ النهي عن سفرِ المرأةِ بلا محرمٍ وهو ما يخشى عليها ممّا يؤذيها في بدنِها أو عرضِها. وهنا مسألةٌ ينبَّهُ عليها بعضُ الناسِ وهو أنَّ المحرمَ الذي لا ينفعُ وليس له أثرٌ في وجودِهِ في الحملةِ أنَّ هذا لا يصلحُ محرمًا، يمثّلون له برجلٍ كبيرِ السنِّ لا يدري عن المرأةِ، رجلٌ عاجزٌ عن نفسِهِ، يمكنُ هو في حاجةٍ إلى أن تأخذَ بيدِهِ أو شيءٍ من هذا القبيلِ فهذا لا يصلحُ، لأنَّ معنى المحرميَّة غيرُ موجودٍ فيه.
………………………………………….
س6: ما المرادُ بقولِه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، ما هو المرادُ بالكفرِ في هذه الآيةِ؟
ج: الكفرُ هو الكفرُ، فمن جحدَ وجوبَ الحجِّ فهو كافرٌ، وهذا باتفاقِ المسلمين، وكذلك من عزمَ ألا يحجَّ ولو أقرَّ بوجوبِه.
………………………………………….
س7: هل الحجُّ يُكفّرُ كبائرَ الذنوب؟
ج: إذا كان الحجُّ مبرورًا، يعني استوفى صاحبُه المعانيَ فظاهرُ الحديثِ: "خرجَ من ذنوبِه كيومِ ولدتْهُ أمُّه" أنَّه يكفّرُ الذنوبَ الصغائرَ والكبائرَ، ولكنَّ الحجَّ المبرورَ لا بدَّ أنَّه يتضمَّنُ التوبةَ، والإنابةَ إلى اللهِ.
………………………………………….
س8: ما حكمُ ما يفعلُهُ بعضُ الآباءِ والأمهاتِ إذا حجّوا أو اعتمروا بصبيٍّ نَّووا أنَّ عمرتَه لفلانٍ، فهل يصحُّ هذا الشيءُ؟
ج: لا يصحُّ، وحجُّه له، ولمن حجَّ به أجرٌ، قالت المرأةُ: "ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم ولكِ أجرُهُ"، وليس لهم التصرُّفُ بثوابِ حجِّهِ.
………………………………………….
س9: امرأةٌ تأتيها العادةُ كلَّ شهرٍ سبعةَ أيامٍ، وفي هذا الشهرِ زادتْ يومين، والدّمُ فيها مختلفٌ عن السبعةِ، فماذا تصنعُ؟
ج: أقولُ: لا تصلي حتى تطهرَ، لأنَّ زيادةَ الأيامِ وتغيّرَ الدمِ أرجو أنَّه لا يضرُّ، فهو أحيانًا في آخرِ الوقتِ يكونُ كردةً وصفرةً.
………………………………………….
س10: امرأةٌ تسافرُ بأطفالِها بالطائرةِ، وزوجُها يوصلُها إلى المطارِ، وأخوها يستقبلُها في المطارِ الآخرِ؟
ج: كلُّ هذا لا يصلحُ عذرًا، هي سافرت بلا محرمٍ.
………………………………………….
س11: ذهبتُ للعمرةِ في أشهرِ الحجِّ ولم أرجعْ إلى الرياضِ، ولكن خرجتُ من مكةَ وإلى الطائفِ وجدةَ، هل إذا نويتُ الحجَّ فهل أنوي من مكَّةَ وأحرمُ منها؟
ج: نعم تنوي منها، لكن إذا انتظرتَ في الطائفِ أو في جدّةَ حتى جاءَ وقتُ يومِ الترويةِ فأحرمْ من جدّةَ، أمَّا إذا كان في سائرِ الأيامِ فأنت ترجعُ إلى مكانكِ الذي تسكنُهُ وتقيمُ فيه في مكةَ، أمَّا إذا انتظرتَ في الطائفِ أو في جدّةَ حتى أحرمَ أهلُ مكةَ للحجِّ في يومِ الترويةِ فأحرمْ من جدّةَ هذا أحوطُ لك.
………………………………………….
س12: الأذانُ الأوَّلُ يومَ الجمعةِ هل من المناسبِ أن يكونَ قبلَ الأذانِ الثاني بساعةٍ أو بأقلَ، أو بأكثرَ؟
ج: ليس له توقيتٌ، الأذانُ الأولُ المقصودُ منه تنبيهُ الناسِ ليستعدّوا لصلاةِ الجمعةِ، وهذا موضعُ اجتهادٍ، فبعضُ الناسِ يقدّمُهُ كثيرًا مثلَ ساعةٍ ونصفٍ أحيانًا، وبعضُ الناسِ يبالغُ حتى لا يؤذنَ إلَّا قربَ دخولِ الإمامِ كما هو الجاري في الحرمين، إلَّا في الأيامِ الأخيرةِ؛ يُذكرُ أنَّهم تراجعوا وصاروا يقدّمونَ الأذانَ الأولَ لعلَّهُ بربعِ ساعةٍ أو ثلثِ ساعةٍ وهذا حسنٌ، تقديمُه بثلثٍ أو نصفٍ هذا هو الأولى، فيكونُ تقديمُه كتقديمِ الأذانِ قبلَ الإقامةِ، أمَّا التقديمُ الكثيرُ فلا يحصلُ به التنبيهُ المناسبُ.