الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة سبأ/(7) من قوله تعالى {ويقولون متى هذا الوعد} الآية 29 إلى قوله تعالى {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل} الآية 33

(7) من قوله تعالى {ويقولون متى هذا الوعد} الآية 29 إلى قوله تعالى {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل} الآية 33

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة سبأ

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ*وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ*قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ*وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:29-33]

– الشيخ : إلى هنا بس، لا إله إلا الله، يُخبِرُ تعالى عن الكفارِ الجاحِدِين للمَعَادِ والبَعْثِ أنَّهم يَسألونَ سؤالَ استبعادٍ وتَكذيبٍ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ليسَ سؤالَ استعلامٍ وطلبَ علمٍ، لا {مَتَى}؟ {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قالَ الله: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} يوم آتٍ، آتٍ لا محالةَ، لَه أجلٌ مضروبٌ ووقتٌ معلومٌ لا يَتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ {لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}: إصرارٌ على التكذيبِ والعِنادِ، يقولونَ: {لَنْ نُؤْمِنَ} {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} ولا الذي قبلَه {وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فعندَهم إصرارٌ على الكفرِ، إصرارٌ على التكذيبِ، عنادٌ.

ثم يذكرُ -تعالى- مَشْهدًا مِن مشاهدِ القيامةِ وهو ما يكونُ بين الظالميَن مِن جدالِ، المُستكبرين والمستضعفين. المستضعَفُون يلومونَ المستكبرينَ السادةَ، يلومُونَهم أنَّهم همُ الذين أغْوَوهم وأضلُّوهم، والمستكبرينَ يُكَذِّبُونَ ذلكَ، يُكذِّبونَهم فيما زعمُوا.

{وَلَوْ تَرَى} هذا أسلوبُ تهويلٍ {وَلَوْ تَرَى} يعني: لرأيتَ أمرًا عظيمًا وهائلًا {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يَتَرَادُّون {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}

ثم يُفَصِّلُ اللهُ هذه المراجعاتِ وهذا الحوارَ:

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أنتمْ السبب، أنتم الذين أضْلَلتُمُونَا وأغْوَيْتُمُونَا. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أنتمُ المجرمون، أنتم اللي اخْترتُم الضلالَ. أنتم الذين، {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}

{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} يعني: يذكرونَ لهم ما كانوا يَفعلونَ بهمْ، {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا} تأمرونَنَا بالـمَكْرِ وبالشِّركِ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} لكنَّهم ما أكرهُوهُم، أمروهُم فأطاعوا، أمروهُم فأطاعوهُم.

{وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} قالَ الله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} كلُّهم أَسَرُّوا النَّدَامَةَ، كلُّهم نَدِمُوا وأخفَوا ندمَهم.

قالَ الله: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} تُجعَلُ الأغلالُ في أعناقِهم ويُسْحَبُون إلى جهنَّم، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ*الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ*إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ*فِي الْحَمِيمِ} [غافر:69]

أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من الشقوة، أعوذ بالله من الشِّقوة.

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسير قول الله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] الآيات.

يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا لِيُبَشِّرَ جَمِيعَ النَّاسِ بِثَوَابِ اللَّهِ، وَيُخْبِرَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وَيُنْذِرَهُمْ عِقَابَ اللَّهِ، وَيُخْبِرَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، فَلَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَكُلُّ مَا اقْتَرَحَ عَلَيْكَ أَهْلُ التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، فَلَيْسَ مِنْ وَظِيفَتِكَ، إِنَّمَا ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ -تَعَالَى-، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28] أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ صَحِيحٌ، بَلْ إِمَّا جُهَّالُ، أَوْ مُعَانِدُونَ لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ، وَمَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ، جَعْلُهُمْ عَدَمَ الْإِجَابَةِ لِمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَى الرَّسُولِ، مُوجِبًا لِرَدِّ دَعْوَتِهِ.

فَمِمَّا اقْتَرَحُوهُ، اسْتِعْجَالُهُمُ الْعَذَابَ، الَّذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَهَذَا ظُلْمٌ مِنْهُمْ، فَأَيُّ مُلَازَمَةٍ بَيْنَ صِدْقِهِ، وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ بِوَقْتِ وُقُوعِهِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا رَدٌّ لِلْحَقِّ، وَسَفَهٌ فِي الْعَقْلِ؟! أَلَيْسَ النَّذِيرُ فِي أَمْرٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَوْ جَاءَ قَوْمًا، يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَنُصْحَهُ، وَلَهُمْ عَدُوٌّ يَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ مِنْهُمْ وَيُعِدُّ لَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: تَرَكْتُ عَدُوَّكُمْ قَدْ سَارَ، يُرِيدُ اجْتِيَاحَكُمْ وَاسْتِئْصَالَكُمْ. فَلَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَخْبِرْنَا بِأَيَّةِ سَاعَةٍ يَصِلُ إِلَيْنَا، وَأَيْنَ مَكَانُهُ الْآنَ؟ فَهَلْ يُعَدُّ هَذَا الْقَائِلُ عَاقِلًا أَمْ يُحْكَمُ بِسَفَهِهِ وَجُنُونِهِ؟!

هَذَا، وَالْمُخْبِرُ يُمْكِنُ صِدْقُهُ وَكَذِبُهُ، وَالْعَدُوُّ قَدْ يَبْدُو لَهُ غَيْرُهُمْ، وَقَدْ تَنْحَلُّ عَزِيمَتُهُ، وَهُمْ قَدْ يَكُونُ بِهِمْ مَنَعَةٌ يُدَافِعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَذَّبَ أَصْدَقَ الْخَلْقِ الْمَعْصُومَ فِي خَبَرِهِ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى بِالْعَذَابِ الْيَقِينِ، الَّذِي لَا مَدْفَعَ لَهُ، وَلَا نَاصِرَ مِنْهُ؟! أَلَيْسَ رَدُّ خَبَرِهِ بِحُجَّةِ عَدَمِ بَيَانِهِ وَقْتَ وُقُوعِهِ مِنْ أَسْفَهِ السَّفَهِ؟!

{قُلْ} لَهُمْ – مُخْبِرًا بِوَقْتِ وُقُوعِهِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ -: {لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} فَاحْذَرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ،

– الشيخ : يعني: لم يُخبِرْهُم بميعادِه ووقتِه على وجهِ التحديدِ، ولكن أكَّدَ لهمْ أنَّه آتٍ، آتٍ لا محالةَ، وإلا لم يُجابُوا عَن سؤالِهم، ولم يُخبَروا بوقتِ حلولِ ذلكَ اليوم.

لكن أمرَ الله نبيَه أن يؤكد لهم الخبر، أمرٌ يقين، وما دامَ أنه أمرٌ متحققٌ ومُستيقَنٌ، يعني: تحديدُ الزمنِ أمرٌ آخر، ولا يجوزُ أن يتوقَّفَ الإيمانُ باليومِ الآخرِ على معرفةِ الميقاتِ، على معرفة الميعادِ، فمَنْ قالَ: "لا أؤمنُ إلا أنْ أعرفَ متى؟ بعد كم؟"، لمْ يكنْ مؤمنًا، يكونُ جاحدًا كفورًا.

 

– القارئ : فَاحْذَرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} الآيات:

لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- أَنَّ مِيعَادَ الْمُسْتَعْجِلِينَ بِالْعَذَابِ، لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، ذَكَرَ هُنَا حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ حَالَهُمْ إِذَا وَقَفُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَاجْتَمَعَ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَتْبَاعُ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا وَهَوْلًا جَسِيمًا، وَرَأَيْتَ كَيْفَ يَتَرَاجَعُون، وَيَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ، {فَيَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وَهُمُ الْأَتْبَاعُ {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وَهُمُ الْقَادَةُ: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} وَلَكِنَّكُمْ حُلْتُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَزَيَّنْتُمْ لَنَا الْكُفْرَانَ، فَتَبِعْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ عَلَى الرُّؤَسَاءِ دُونَهُمْ.

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} مُسْتَفْهِمِينَ لَهُمْ وَمُخْبِرِينَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْجُرْمِ: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} أَيْ: بِقُوَّتِنَا وَقَهْرِنَا لَكُمْ. {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أَيْ: مُخْتَارِينَ لِلْإِجْرَامِ، لَسْتُمْ مَقْهُورِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ زَيَّنَّا لَكُمْ، فَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ.

قال الله تعالى: {وقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} أَيْ: بَلِ الَّذِي دَهَانَا مِنْكُمْ، وَوَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ إِضْلَالِكُمْ، مَا دَبَّرْتُمُوهُ مِنَ الْمَكْرِ، فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِذْ تُحَسِّنُونَ لَنَا الْكَفْرَ، وَتَدْعُونَنَا إِلَيْهِ، وَتَقُولُونَ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَتَقْدَحُونَ فِي الْحَقِّ وَتُهَجِّنُونَهُ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْبَاطِلُ، فَمَا زَالَ مَكْرُكُمْ بِنَا، وَكَيْدُكُمْ إِيَّانَا، حَتَّى أَغْوَيْتُمُونَا وَفَتَنْتُمُونَا.

فَلَمْ تُفِدْ تِلْكَ الْمُرَاجَعَةُ بَيْنَهُمْ شَيْئًا إِلَّا براءةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالنَّدَامَةَ الْعَظِيمَةَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أَيْ: زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لِيَنْجُوَ مِنَ الْعَذَابِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ لَهُ، فَنَدِمَ كُلٌّ مِنْهُمْ غَايَةَ النَّدَمِ، وَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّهُ تَرَكَ الْبَاطِلَ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَى هَذَا الْعَذَابِ، سِرًّا فِي أَنْفُسِهِمْ؛ لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْفَضِيحَةِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَفِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ دُخُولِهِمُ النَّارَ، يُظْهِرُونَ ذَلِكَ النَّدَمَ جَهْرًا.

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً*يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} الْآيَاتِ [الفرقان:27-28]

{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10-11]

{وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} يُغَلُّونَ كَمَا يُغَلُّ الْمَسْجُونُ الَّذِي سَيُهَانُ فِي سِجْنِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} الْآيَاتِ

{هَلْ يُجْزَوْنَ} فِي هَذَا الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَتِلْكَ الْأَغْلَالِ الثِّقَالِ {إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.