بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة "المنافقون"
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون:5-8]
– الشيخ : إلى هنا.
الحمدُ لله، يخبرُ تعالى في هذه الآياتِ عن بعضِ خصالِ المنافقين فهم طوائفُ وأصنافُ، ومن أولئك المنافقين في عهد النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَن إذا {قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} يعني: صدُّوا وأعرضُوا عمَّن يدعوهم إلى ذلك، وقد قيلَ: إنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في عبد اللهِ بنِ أُبيٍّ رأسِ المنافقين، حملَه على ذلك الكبرُ، ولهذا يقولُ تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}.
ثمَّ يقولُ تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} فأخبرَ تعالى أنَّ هؤلاءِ المنافقينَ حتَّى لو استغفرَ لهم الرَّسولُ لن يغفرَ اللهُ لهم، وكما قالَ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، وذلك أنَّهم كفَّارٌ، والكافرُ لا يغفرُ اللهُ له، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فالمنافقون من أفسقِ خلقِ اللهِ، والفسقُ: هو الخروجُ، والمرادُ بالفاسقين: الخارجونَ عن طاعةِ اللهِ، وهم من أشدِّ النَّاسِ خروجًا عن طاعةِ اللهِ.
ومن أقوال بعضِ المنافقين وكبرائِهم، من يقولُ: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} ينهون أصحابَهم من المسلمين وإخوانهم من أقاربهم، ينهونهم عن أنْ يُنفقوا على المهاجرين ويُحسنُوا إليهم، {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} أي: من أجلِ أن ينفضُّوا عنهُ ويتركوهُ، فالأنصارُ كانوا يُؤوونَ إخوانَهم من المهاجرين ويُحسنونَ إليهم، كما قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، وهؤلاء المنافقون ينهون أصحابهم وأقرباءَهم مِن أنْ يُنفِقوا على المهاجرين {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} قالَ اللهُ: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} فالرِّزقُ عندَ اللهِ، وإذا قطعْتُم أو منعْتُم الإنفاقَ عليهم فاللهُ تعالى يرزقُهم من فضله ويهيِّئ لهم أسبابًا ويفتحُ لهم أبوابًا من أبواب الرِّزقِ، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} وبسببِ عدمِ فقهِهم سوَّلَ لهم الشَّيطانُ ما قالوا، يظنُّون أنَّهم إذا منعُوا الإنفاقَ على أصحابِ رسولِ اللهِ أنَّهم سينقطعون وسيهلكون وسينفضُّون.
ومن أقوالهم وهذا أيضًا منسوبٌ لعبد اللهِ بنِ أُبيٍّ أنَّه قالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} وكانُوا في غزوةٍ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} يريدُ بـ {الْأَعَزُّ} نفسَه وبـ {الْأَذَلَّ} الرَّسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين، لكن أتى بجملةٍ مجمَلةٍ {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قالَ اللهُ: نعم، لكن لمن العزَّة؟ نعم الأعزُّ يُخرِجُ الأذلَّ، لكن من هو الأعزُّ؟ الأعزُّ هو الرَّسولُ والمؤمنون، ولهذا قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فإذا كانَ الأعزُّ يُخرِجُ الأذلَّ فالحقيقُ بالإخراجِ هم أولئك المنافقون أصحابُ هذه المقالةِ.
قالَ اللهُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} لا يعلمونَ الحقائقَ، ولا يعلمون لمن العزَّة الحقَّة، لمن العزَّة الحقَّة، والعزَّةُ الحقُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وبهذه الآيةِ ينتهي الحديثُ عن المنافقين في هذهِ السُّورةِ، وينتقلُ الكلامُ إلى توجيهِ المؤمنينَ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
{وَإِذَا قِيلَ} لهؤلاءِ المنافقينَ {تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} عمَّا صدرَ منكم، لتحسُنَ أحوالُكم، وتُقبَلَ أعمالُكم، امتنعُوا مِن ذلكَ أشدَّ الامتناعِ، و {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} امتناعًا مِن طلبِ الدُّعاءِ مِن الرَّسولِ، {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} عن الحقِّ بغضًا لهُ {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} عن اتِّباعِهِ بغيًا وعنادًا، فهذهِ حالُهم عندما يُدعَونَ إلى طلبِ الدُّعاءِ مِن الرَّسولِ، وهذا مِن لطفِ اللهِ وكرامتِهِ لرسولِهِ، حيثُ لم يأتُوا إليهِ، فيستغفرَ لهم، فإنَّهُ سواءٌ استغفرَ لهم أم لم يستغفرْ لهم فلن يغفرَ اللهُ لهم، وذلكَ لأنَّهم قومٌ فاسقونَ، خارجونَ عن طاعةِ اللهِ، مؤثرونَ للكفرِ على الإيمانِ، فلذلكَ لا ينفعُ فيهم استغفارُ الرَّسولِ، لو استغفرَ لهم كما قالَ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
قالَ اللهُ تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ…} الآياتِ:
وهذا مِن شدَّةِ عداوتِهم للنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمسلمينَ، لما رأَوا اجتماعَ أصحابِهِ وائتلافَهم، ومسارعتَهم في مرضاةِ الرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قالُوا بزعمِهم الفاسدِ: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} فإنَّهم -على زعمِهم- لولا أموالُ المنافقينَ ونفقاتُهم عليهم، لما اجتمعُوا في نصرةِ دينِ اللهِ، وهذا مِن أعجبِ العجبِ، أنْ يَدَّعيَ هؤلاءِ المنافقونَ الَّذين هم أحرصُ النَّاسِ على خذلانِ الدِّينِ، وأذيَّةِ المسلمينَ، مثلَ هذهِ الدَّعوى، الَّتي لا تروجُ إلَّا على مَن لا علمَ لهُ بالحقائقِ، ولهذا قالَ اللهُ ردًّا لقولِهم: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} فيؤتي الرِّزقَ مَن يشاءُ، ويمنعُهُ مَن يشاءُ، وييسِّرُ الأسبابَ لمَن يشاءُ، ويعسِّرُها على مَن يشاءُ، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} فلذلكَ قالُوا تلكَ المقالةَ، الَّتي مضمونُها أنَّ خزائنَ الرِّزقِ في أيديهم، وتحتَ مشيئتِهم.
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} وذلكَ في غزوةِ الـمُريسيعِ، حينَ صارَ بينَ بعضِ المهاجرينَ والأنصارِ، بعضُ كلامِ كدرِ الخواطرِ، ظهرَ حينئذٍ نفاقُ المنافقينَ، وأظهرُوا ما في نفوسِهم.
وقالَ كبيرُهم، عبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنُ سلولٍ: ما مثلُنا ومثلُ هؤلاءِ -يعني المهاجرينَ- إلَّا كما قالَ القائلُ: "سمِّنْ كلبَكَ يأكلْكَ"
وقالَ: لئنْ رجعْنا إلى المدينةِ {لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} بزعمِهِ أنَّهُ هوَ وإخوانُهُ مِن المنافقينَ الأعزُّونَ، وأنَّ رسولَ اللهِ ومَن اتَّبعَهُ هم الأذلُّونَ، والأمرُ بعكسِ ما قالَ هذا المنافقُ، فلهذا قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فهم الأعزَّاءُ، والمنافقونَ وإخوانُهم مِن الكفَّارِ هم الأذلَّاءُ. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} ذلكَ، فلذلكَ زعمُوا أنَّهم الأعزَّاءُ، اغترارًا بما هم عليهِ مِن الباطلِ.
– الشيخ : حسبُكَ.