الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة التحريم/(2) من قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} الآية 6 إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله} الآية 9
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} الآية 6 إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله} الآية 9

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة التَّحريم

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:6-8]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ لله، يُوصي اللهُ عبادَه المؤمنين الذين آمنوا باللهِ ورسلِه أنْ يأخذُوا بأسبابِ النجاة من عذابِ الله من النارِ الكبرى التي وقودُها الناسُ والحجارة، أن يفعلوا الأسبابَ التي يقُون بها أنفسَهم {قُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني اتَّخذُوا ما يقِيْكُم أنتم ويَقِي أهلِيكم {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} نعوذُ بالله من النارِ، وهذه النارُ هي النارُ الكبرى، كيف وهي {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} تُوقَدُ بالناسِ والحجارة، بالكفارِ الذين أُعدَّت لهم النارُ كما قالَ سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] وهذه النارُ مُوكَّلٌ بها ملائكةٌ وهم خُزَّانها أو خزنةُ النارِ مُوكَّلٌ بها ملائكةٌ ليس فيهم رحمةٌ، وهذا مِنْ تمامِ شدةِ العذاب، هؤلاءِ الملائكةُ المُوكَّلون ليس فيهم رحمةٌ بل {غِلَاظٌ شِدَادٌ} فيهم غُلظةٌ وقوةٌ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} مُطيعون للهِ فيما أمرَهم وهم قادرون على فِعلِ ما أُمِروا به، ولهذا {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} النقصُ يأتي من المعصية أو المُخالفة أو من العجزِ فبرَّأَهم اللهُ من المعصيةِ ومن العجز، حيث قالَ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} بل هم مُطيعون للهِ فيما يأمرُهم من تعذيبِ أولئك الكافرين وَهُم {يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} قادرون عليهِم.

ثم توجَّهَ الخِطابُ إلى الكفارِ الذين في النارِ وهم أهلُها {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وفي هذا مزيدُ غمٍّ وهمٍّ، فيجتمعُ لهم عذابُ الأرواحِ وعذابُ الأجسادِ نعوذُ بالله، فكلُّ أنواعِ العذابِ مُجتمعةٌ في نارِ جهنمَ: العذابُ الجِسمانيُّ والعذابُ الروحاني.

ثم توجَّهَ الخطابُ للمؤمنين مرةً أخرى، أمرٌ من اللهِ ووصيةٌ من اللهِ لعباده المؤمنين بالتوبةِ النَّصوحِ وهي التوبةُ الخالصةُ المُستوفيةُ لشروطِ التوبة: وهي الندمُ على ما مضَى والعزمُ على عدمِ العودِ والإقلاعُ عن المعصيةِ وأنْ تكون التوبةُ للهِ خالصةً. هذه هي التوبةُ النصوحُ ومن تابَ تابَ اللهُ عليه {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17] {تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يُكَفِّرَ سَيِّئَاتِكُمْ بالتوبةِ، قالَ العلماءُ: "عسى" من اللهِ واجبةُ، يعني: هذا ضمانٌ -ضمانٌ من اللهِ لأن من تابَ كفَّر اللهُ سيِّئَاتِه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فوعدَهم أمرَين: تكفيرُ السيئاتِ وبذلك ينجُون من النار، وأنْ يُدخلهم الجنةَ، فجمعَ لهم بين الأمنِ مما يخافُون والفوزِ بما يحبون.

{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} في ذلك اليوم يُكرِمُ اللهُ أولياءَه -الرسولَ والمؤمنين- يُكرمُهم بكرامتِه ولا يُخزيهم ولا يفضحُهم بل يُظهرُ كرامتَهم عنده وشرفَهم وفضلَهم ويُعلِي قدرَهم، يقولُ تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} في مسيرِهم إلى الجنةِ على الصِّراطِ يكونُ معهم نورٌ يسعى بين أيديهم وبأيمانِهم يتقدَّمُهم، وإذا طَفئَ نورُ المُنافقين قالَ المؤمنون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيُتمُّ الله لهم نورَهم ويُطفئ نورَ المنافقين حين يقولون للمُؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} كما تقدَّمَ في "سورة الحديد".

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الآيات:

أَيْ: يَا مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ، قُومُوا بِلَوَازِمِهِ وَشُرُوطِهِ.

فَـ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} نَارًا مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْفَظِيعَةِ، وَوِقَايَةُ الْأَنْفُسِ بِإِلْزَامِهَا أَمْرَ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ امْتِثَالًا وَنَهْيِهِ اجْتِنَابًا، وَالتَّوْبَةِ عَمَّا يَسْخَطُ اللَّهُ وَيُوجِبُ الْعَذَابَ، وَوِقَايَةُ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ ، بِتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَإِجْبَارِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَلَا يَسْلَمُ الْعَبْدُ إِلَّا إِذَا قَامَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ.

– الشيخ : يقولُ اللهُ في إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] واللهُ يقول لنبيه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه:132] هذا تفصيلٌ لهذا الأمرِ المُجملِ في هذه الآيةِ، فوقايةُ الأهلِ بأمرهم بطاعةِ الله وفرائضِ الله ونهيِهم عن معاصي الله، بهذا يَقُونَهُم هذه النار، يَقُون أنفسَهم ويقُون أهلِيهم، وأهمُّ ما على الإنسانِ أهلُه وولدُه فيسعى في نجاحتِهم ويأخذُ في أسبابِ وقايتِهم من النار، والرسلُ وأتباعُهم والدعاةُ إلى الخيرِ يقصدون وقايةَ الناسِ من النار، فهم يَسْعَون في وقايةِ الناسِ من النارِ يدعونهم إلى أداءِ ما أوجبَ اللهُ ويَنهَونهم عن معاصي الله، وبهذا يَقُون مَن استجابَ لهم مِن هذه النارِ.

 

– القارئ : وَفِيمَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنَ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ.

وَوَصَفَ اللَّهُ النَّارَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، لِيَزْجُرَ عِبَادَهُ عَنِ التَّهَاوُنِ بِأَمْرِهِ فَقَالَ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].

– الشيخ : يعني من الحجارةِ معبوداتِ المُشركين، من الحجارةِ التي تُوقَدُ بها النارُ، معبوداتُ المُشركين الذين يعبدُون الأحجارَ والأصنامَ تكونُ معهم في نارِ جهنم {إنكم وما تعبدون من الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} [الأنبياء:98-99].

 

– القارئ : {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} أَيْ: غَلِيظَةٌ أَخْلَاقُهُمْ، شَدِيدٌ انْتِهَارُهُمْ، يُفْزِعُونَ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيُزْعِجُونَ بِمَرْآهُمْ، وَيُهِينُونَ أَصْحَابَ النَّارِ بِقُوَّتِهِمْ، وَيُنَفِّذُونَ فِيهِمْ أَمْرَ اللَّهِ، الَّذِي حَتَّمَ عَلَيْهِمُ بِالْعَذَابِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ شِدَّةَ الْعِقَابِ، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}: وَهَذَا فِيهِ أَيْضًا مَدْحٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ، وَانْقِيَادُهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَطَاعَتُهُمْ لَهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.

قالَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية:

أَيْ: يُوَبِّخُ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَذَا التَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} أَيْ: فَإِنَّهُ ذَهَبَ وَقْتُ الِاعْتِذَارِ، وَزَالَ نَفْعُهُ، فَلَمْ يَبْقَ الْآنَ إِلَّا الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَأَنْتُمْ لَمْ تُقَدِّمُوا إِلَّا الْكُفْرَ بِاللَّهِ، وَالتَّكْذِيبَ بِآيَاتِهِ، وَمُحَارَبَةَ رُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.

قالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} الآية:

قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَعَدَ عَلَيْهَا بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَدُخُولِ الْجَنَّاتِ، وَالْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ، حِينَ يَسْعَى الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ، وَيَمْشُونَ بِضِيَائِهِ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِرُوحِهِ وَرَاحَتِهِ، وَيُشْفِقُونَ إِذَا طُفِئَتِ الْأَنْوَارُ، الَّتِي تُعْطِي الْمُنَافِقِينَ، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهُمْ نُورَهُمْ فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ دَعْوَتَهُمْ، وَيُوَصِّلُهُمْ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ النُّورِ وَالْيَقِينِ، إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَجِوَارِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ. وَالْمُرَادُ بِهَا: التَّوْبَةُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ، الَّتِي عَقَدَهَا الْعَبْدُ لِلَّهِ، لَا يُرِيدُ بِهَا إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ وَالْقِرَبَ مِنْهُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ.

– الشيخ : أحسنت .