الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة القلم/(3) من قوله تعالى {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم} الآية 34 إلى قوله تعالى {خاشعة أبصارهم} الآية 43
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم} الآية 34 إلى قوله تعالى {خاشعة أبصارهم} الآية 43

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة القلم

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:34-43]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله.

يقولُ تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} لَمَّا ذكرَ العذابَ الَّذي أعدَّهُ اللهُ للكافرين ذكرَ جزاءَ المتَّقينَ {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.

ثمَّ بيَّنَ حكمتَهُ سبحانَهُ وأنَّهُ لا يُسوِّي بينَ المسلمين والمجرمين {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ هذا لا يليقُ باللهِ، حكمةُ اللهِ جاريةٌ على التَّسويةِ بينَ المتماثلاتِ والتَّفريقِ بينَ المختلفاتِ، وبينَ المسلمينَ وبينَ المجرمينَ، بينَهما تبايُنٌ فكيفَ يُقالُ: إنَّه تعالى يسوِّي؟! والمنكرونَ للبعثِ يتضمَّنُ كلامَهم أنَّ اللهَ يسوِّي بينَ المسلمين والمجرمين، والمتَّقين والفجَّارِ، لأنَّه إذا لم يكنْ بعثٌ فسيستوي هؤلاءِ وهؤلاءِ، لأنَّهم كلُّهم لا يُجازونَ ولا يُعاقَبون ولا يُثابون، لا يُثابُ هؤلاءِ ولا يُعاقَبُ هؤلاءِ، وقد أبطلَ اللهُ ذلكَ بآياتٍ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ هذا استفهامٌ إنكاريٌّ، أي: لا يكونُ، لا يكونُ هذا، ولا يجعلُ اللهُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ.

ثمَّ ينكرُ عليهم ذلكَ، هذا القولُ وهذا الزَّعمُ وهذا الظَّنُّ {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27-28]، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ هذا أسلوبُ إنكارٍ، واستفهامُ إنكارٍ، مَا لَكُمْ تقولون هذا؟! كيفَ تحكمونَ هذا الحكمَ الجائرَ الباطلَ، {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} يعني: هل لكم مُستنَدٌ من كتابٍ لما تزعمونَ وتدَّعونَ؟ وليسَ لهم كتابٌ ولا أصلٌ لزعمِهم وظنِّهم الكاذبِ، {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}

{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} فليسَ لهؤلاء المبطلينَ، ليس لهم أنْ يحكموا بما شاءوا ويتخيَّروا، ولهذا من تخيُّلِهم أنَّهم يقولون: لنا الحسنى، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} [النحل:62]، والآخرُ يقولُ: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، فهم يُنكِرونَ الآخرةَ ويدَّعون أنَّ لهم الحُسنى ولهم الجنَّةُ، يعني: لو كانَ هناكَ بعثٌ ونشورٌ لكانوا هم أهل الجنَّةِ.

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} الزَّعيمُ هو الضَّامنُ، سلْهم من هو الضَّامنُ لهم فيما يدَّعون لأنفسِهم، {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ}

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} وشركاؤُهم لا تُغني عنهم شيئًا، لا تُغني عنهم في نجاةٍ ولا حصولِ كرامةٍ ولا حصولِ ثوابٍ {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يعني: اذكرْ أو اذكروا {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} وقد دلَّتْ السُّنَّةُ أنَّ المرادَ أنَّ اللهَ يكشفُ عن ساقِهِ يومَ القيامةِ فيسجدُ له المؤمنون الَّذين كانوا يسجدونَ في الدُّنيا، ويعجزُ المنافقون والكفَّارُ، والمنافقون الَّذين كانوا يسجدونَ كذبًا ونفاقًا.

{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}، {وَقَدْ كَانُوا} في الدُّنيا {يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} إلى الصَّلاةِ {وَهُمْ سَالِمُونَ} ولكنَّهم يأبونَ ذلكَ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] فيوم القيامةِ إذا سجدَ المؤمنون عجزَ المنافقون وصارَ ظهرُ الواحدِ منهم طبقًا لا يستطيعُ أنْ ينحنيَ بركوعٍ ولا سجودٍ، وقد كانُوا في الدُّنيا يُدعَون إلى السُّجودِ وهم سالمونَ لا علَّةَ بهم ولكنَّهم يستكبرونَ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآياتِ:

يخبرُ تعالى بما أعدَّهُ للمتَّقينَ للكفرِ والمعاصي

– الشيخ : إي كلمةُ " للكفرِ والمعاصي" ترجعُ للمتَّقين، يعني الَّذين يتَّقون الكفرَ والمعاصيَ، يتَّقونها ويجتنبونها.

 

– القارئ : مِن أنواعِ النَّعيمِ والعيشِ السَّليمِ في جوارِ أكرمِ الأكرمينَ، وأنَّ حكمتَهُ تعالى لا تقتضي أنْ يجعلَ المتَّقينَ القانتينَ لربِّهم، المنقادينَ لأوامرِهِ، المتَّبعينَ لمراضيهِ كالمجرمينَ الَّذينَ أوضعُوا في معاصيهِ، والكفرِ بآياتِهِ، ومعاندةِ رسلِهِ، ومحاربةِ أوليائِهِ، وأنَّ مَن ظنَّ أنَّهُ يسوِّيهم في الثَّوابِ، فإنَّهُ قد أساءَ الحكمَ

– الشيخ : إي تمام، أساءَ، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}

– القارئ : وأنَّ حكمَهُ باطلٌ، ورأيَهُ فاسدٌ، وأنَّ المجرمينَ إذا ادَّعوا ذلكَ، فليسَ لهم مُستنَدٌ، لا كتابَ فيهِ يدرسونَ ويتلونَ أنَّهم مِن أهلِ الجنَّةِ، وأنَّ لهم ما طَلبُوا وتَخيَّرُوا.

وليسَ لهم عندَ اللهِ عهدٌ ويمينٌ بالغةٌ إلى يومِ القيامةِ أنَّ لهم ما يحكمونَ، وليسَ لهم شركاءُ وأعوانُ على إدراكِ ما طلبُوا، فإنْ كانَ لهم شركاءُ وأعوانُ فليأتُوا بهم إنْ كانُوا صادقينَ، ومِن المعلومِ أنَّ جميعَ ذلكَ مُنتفٍ، فليسَ لهم كتابٌ، ولا لهم عهدٌ عندَ اللهِ في النَّجاةِ، ولا لهم شركاءُ يُعِيْنُونَهُم، فعُلِمَ أنَّ دعواهم باطلةٌ فاسدةٌ، وقولُهُ: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي: أيُّهم الكفيلُ بهذهِ الدَّعوى الَّتي تبيَّنَ بطلانُها فإنَّهُ لا يمكنُ أحدًا أنْ يتصدَّرَ بها، ولا يكونُ زعيمًا فيهِ.

قالَ اللهُ تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ} الآياتِ:

أي: إذا كانَ يومُ القيامةِ، وانكشفَ فيهِ مِن القلاقلِ والزَّلازلِ والأهوالِ ما لا يدخلُ تحتَ الوهمِ، وأتى الباري لفصلِ القضاءِ بينَ عبادِهِ ومجازاتِهم فكشفَ عن ساقِهِ الكريمةِ الَّتي لا يشبهُها شيءٌ، ورأى الخلائقُ مِن جلالِ اللهِ وعظمتِهِ ما لا يمكنُ التَّعبيرُ عنهُ، فحينئذٍ يُدعَونَ إلى السُّجودِ للهِ، فيسجدُ المؤمنون الَّذينَ كانُوا يسجدونَ للهِ، طوعًا واختيارًا، ويذهبُ الفجَّارُ المنافقونَ ليسجدُوا فلا يقدرونَ على السُّجودِ، وتكونُ ظهورُهم كصياصي البقرِ، لا يستطيعونَ الانحناءَ، وهذا الجزاءُ مِن جنسِ عملِهم، فإنَّهم كانُوا يُدعَونَ في الدُّنيا إلى السُّجودِ للهِ وتوحيدِهِ وعبادتِهِ وهم سالمونَ، لا عِلَّةَ فيهم، فيستكبرونَ عن ذلكَ ويأبونَ، فلا تسألْ يومئذٍ عن حالِهم وسوءِ مآلِهم، فإنَّ اللهَ قد سخطَ عليهم، وحقَّتْ عليهم كلمةُ العذابِ، وتقطَّعَتْ أسبابُهم، ولم تنفعْهم النَّدامةُ ولا الاعتذارُ يومَ القيامةِ، ففي هذا ما يزعجُ القلوبَ عن المقامِ على المعاصي، ويوجبُ التَّداركَ مدَّةَ الإمكانِ، انتهى.