بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
علم الأخلاق
الدَّرس: الثَّامن
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرينَ والمستمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصرٍ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى وأسكنَهُ فسيحَ جنانِهِ- في كتابِهِ "فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلَّامِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ" قالَ رحمَهُ اللهُ:
التَّوسُّطُ في كلِّ الأمورِ والاعتدالُ والاقتصادُ
هذا الخلقُ الجليلُ قد دلَّ عليهِ القرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ عامَّةٍ وخاصَّةٍ:
فمِن العامَّةِ: الأمرُ بالعدلِ والقِسطِ في عدَّةِ آياتٍ، والإخبارُ بأنَّ هذهِ الأمَّةَ وسَطٌ وذلكَ في كلِّ أمورِها، فهم وسطٌ في الإيمانِ بالأنبياءِ، والقيامِ بحقوقِهم بينَ مَن غَلَوا فيهم حتَّى جعلُوا لهم أو لبعضِهم مِن حقوقِ اللهِ الخاصَّةِ ما جعلُوهُ، مِن الغلوِّ فيهم والعبادةِ لهم، وبينَ مَن جفَوهم، فكفرُوا ببعضِهم أو لم يقومُوا بحقِّهم.
وهذهِ الأمَّةُ -وللهِ الحمدُ- آمنَتْ بكلِّ رسولٍ أرسلَهُ اللهُ، واعترفَتْ بجميعِ ما فضَّلَهم اللهُ بهِ، وخصَّهم بهِ مِن المزايا والخصائصِ الَّتي جعلَتْهم أرفعَ الخلقِ في كلِّ صفةِ كمالٍ، ولم يغلُوا فيهم.
وهم وسَطٌ بينَ مَن حرَّمَ الطَّيِّباتِ مِن الرُّهبانِ المتعبِّدةِ والمشركينَ. الَّذين حرَّمُوا ما لم يأذنْ بهِ اللهُ اتباعًا لخطواتِ الشَّيطانِ، وبينَ مَن استحلَّ المحرَّماتِ والخبائثَ، بل اتَّبعُوا النَّبيَّ الأمِّيَّ الَّذي يأمرُهم بالمعروفِ، وينهاهم عن المنكَرِ، ويُحِلُّ لهم الطَّيِّباتِ، ويحرِّمُ عليها الخبائثَ.
وقد أمرَ اللهُ بالتَّوسُّطِ والاعتدالِ في النَّفقاتِ في قولِهِ: وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء:26]، وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً [الإسراء:29]، وأثنى على المتوسِّطينَ فقالَ: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، وهذا يشملُ النَّفقةَ على النَّفسِ والأهلِ والعيالِ والممالِكِ مِن الآدميِّينَ والبهائمِ في جميعِ وجوهِ الإنفاقِ.
فإنَّ هذهِ الحالَ فيها اعتدالُ خُلُقِ الإنسانِ وكمالُ حكمتِهِ، حيثُ قامَ بالواجباتِ، وبما ينبغي وتركِ ما لا ينبغي.
ومِن فوائدِ ذلكَ أيضًا: أنَّ في الاعتدالِ سِرَّ بركةٍ، وما عالَ مَن اقتصدَ، وأنَّهُ يمنعُ العبدَ النَّدمَ، فإنَّ المسرِفَ في الإنفاقِ إذا أملقَ واحتاجَ لعبَتْ بهِ الحسراتُ، وجعلَ يقولُ بلسانِ مقالِهِ، أو لسانِ حالِهِ: يا ليتَني لم أفعلْ ذلكَ.
وأمَّا المقتصِدُ فإنَّهُ لا يندمُ العاقلُ على نفقةٍ وضعَها في محلِّها، وأقامَ بها واجبًا مِن الواجباتِ، أو سدَّ بها حاجةً مِن الحاجاتِ، فإنَّ المالَ لا يُقصَدُ إلَّا لمثلِ هذهِ الحالةِ.
وأيضًا فإنَّ المسرِفَ في النَّفقاتِ، لا بدَّ أنْ يكونَ مترَفًا معتادًا أمورًا، إذا عجزَ عنها شقَّ عليهِ الأمرُ مشقَّةً كبيرةً، وكبرَ عليهِ الصَّبرُ، وثقلَ عليهِ حملُهُ بخلافِ المعتدِلِ، فإنَّهُ سالمٌ مِن هذهِ الحالةِ.
وأيضًا فإنَّ الاعتدالَ في النَّفقةِ أحدُ قسمي الرُّشْدِ. فالرُّشْدُ الَّذي هوَ معرفةُ تدبيرِ الدُّنيا أنْ يعرفَ الطُّرقَ الَّتي يحصِّلُها فيها، فيسلكُ النَّافعَ منها، ثمَّ إذا حصلَتْ عرفَ كيفَ يصرفُها ويبذلُها، وعلمَ التَّدبيرَ مِن العلومِ النَّافعةِ دينًا ودنيًا، وشرعًا وعقلاً.
ثمَّ قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى: الإحسانُ والعفوُ
– الشيخ : حسبُكَ، التَّوسُّطُ هو من العدلِ، وهو تخلُّصٌ من الإفراط والتَّفريط، فكلٌّ من الإفراطِ والتَّفريط كلاهما انحرافٌ، واللهُ تعالى قد شرعَ لعبادِه الصِّراطَ المستقيمَ، والصِّراطُ المستقيمُ كلُّه عدلٌ لا إفراطَ فيه ولا تفريطَ، ولا غلوَّ ولا جفاءَ، وإنَّما يُؤتَى النَّاسُ من الوقوعِ في أحدِ هاتين الرَّذيلتَينِ: الإفراط والتَّفريط، وكلُّ ضلالِ الأممِ راجعٌ إلى هذين الأمرينِ، فالإفراطُ مجاوزةُ الحدودِ، واللهُ تعالى يقولُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، والتَّفريطُ هو إخلالٌ في الواجبات بأدائِهِ.