بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الثَّالث والستون
*** *** *** ***
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهمَّ اغفرْ لنا ولشيخِنا ولوالدينا والمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ":
فَصْلٌ: وَمِمَّا يُلْحَقُ بِهَذَا الْبَابِ: شَهَادَةُ الرَّهْنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ، إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَدْرِهِ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، مَا لَمْ يَدَّعِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ، عِنْدَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَمَذْهَبُهُ أَرْجَحُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَحُجَّتُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الرَّهْنَ بَدَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ يَحْفَظُ بِهِ الْحَقَّ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ، لَمْ تَكُنْ فِي الرَّهْنِ فَائِدَةٌ، وَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ الَّذِينَ دُيُونُهُمْ بِغَيْرِ رَهْنٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يُشْرَعْ لِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَائِمًا مَقَامَ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، فَهُوَ شَاهِدٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ مَا يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى دِرْهَمٍ.
وَمَنْ يَقُولُ: "الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ" يَقْبَلُ قَوْلَهُ: إنَّهُ رَهَنَهُ عَلَى ثَمَنِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ الْعُرْفُ بِبُطْلَانِهِ. وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقَوْلَ قَوْلَ الرَّاهِنِ: أَلْزَمُوا مُنَازَعِيهِمْ بِأَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، فَكَذَلِكَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ.
وَفَرَّقَ الْآخَرُونَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْحَقِّ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَالرَّهْنُ شَاهِدُ الْمُرْتَهِنِ، فَمَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِلْزَامِ.
قالَ رحمَهُ اللهُ:
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْعَلَامَاتُ الظَّاهِرَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، نَزِيدُ هَاهُنَا: أَنَّ أَصْحَابَنَا وَغَيْرَهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الرِّكَازِ وَاللُّقَطَةِ بِالْعَلَامَاتِ.
فَقَالُوا: الرِّكَازُ مَا دَفَنَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ عَلَامَاتِهِمْ عَلَيْهِ، كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ، فَأَمَّا مَا عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْمُسْلِمِينَ -كَأَسْمَائِهِمْ أَوْ الْقُرْآنِ وَنَحْوَهُ- فَهُوَ لُقَطَةٌ، لِأَنَّهُ مِلْكُ مُسْلِمٍ لَمْ يَعْلَمْ زَوَالَهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّهُ صَارَ لِمُسْلِمٍ فَدَفَنَهُ، وَمَا لَا عَلَامَةَ عَلَيْهِ فَهُوَ لُقَطَةٌ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّقِيطَ لَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ، وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً مَسْتُورَةً فِي جَسَدِهِ: قُدِّمَ فِي ذَلِكَ، وَحُكِمَ لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُحكَمُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا عَيْنًا سِوَاهُ، وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا فِيهَا عَلَامَاتٍ خَفِيَّةً.
وَالْمُرَجِّحُونَ لَهُ بِذَلِكَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ الْتِقَاطٍ، فَقُدِّمَ بِالصِّفَةِ، كَلُقَطَةِ الْمَالِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ، وَقِيَاسُ اللَّقِيطِ عَلَى لُقَطَةِ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى دَعْوَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ إذَا وَصَفَهَا أَحَدُهُمَا بِمَا يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى صِدْقِهِ نَظَرًا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِي مَسْأَلَةِ تَدَاعِي الزَّوْجَيْنِ: تَرْجِيحُ الْوَاصِفِ إذًا.
وَقَدْ جَرَى لَنَا نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا صُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ، فَسَأَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَحَدَهُمَا عَنْ صِفَتِهَا؟ فَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ خَفِيَّةٍ، فَسَأَلَ الْآخَرَ؟ فَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ أُخْرَى، فَلَمَّا اُختبِرَتْ طَابَقَتْ صِفَاتِ الْأَوَّلِ لَهَا، وَظَهَرَ كَذِبُ الْآخَرِ، فَعَلِمَ وَلِيُّ الْأَمْرِ وَالْحَاضِرُونَ صِدْقَهُ فِي دَعْوَاهُ وَكِذْبَ صَاحِبِهِ، فَدَفَعَهَا إلَى الصَّادِقِ.
وَهَذَا قَدْ يَقْوَى بِحَيْثُ يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَقَدْ يَضْعُفُ، وَقَدْ يَتَوَسَّطُ.
وَمِنْهَا: وُجُوبُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى وَاصِفِهَا.
قَالَ أَحْمَدُ -فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ- إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ الْوِكَاءَ وَالْعِفَاصَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا نَذْهَبُ إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ مُشَيْشٍ: إنْ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى اللُّقَطَةَ وَأَعْطَاهُ عَلَامَتَهَا: تُدْفَعُ إلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ: وَإِذَا جَاءَ بِعَلَامَةِ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَعَدَدِهَا فَلَيْسَ فِي قَلْبِي مِنْهُ شَيْءٌ.
وَنَصَّ أَيْضًا عَلَى الْمُتَكَارِيَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي دَفِينٍ فِي الدَّارِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيه فَمَنْ أَصَابَ الْوَصْفَ كَانَ لَهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُلْتَقِطِ صِدْقُهُ جَازَ الدَّفْعُ، وَلَمْ يَجِبْ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -فَذَكَرَ الْحَدِيثَ- وَفِيهِ: (فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ).
وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ) وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَالْوَصْفُ بَيِّنَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهَا مِنْ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْكَشْفُ وَالْإِيضَاحُ، وَالْمُرَادُ بِهَا: وُضُوحُ حُجَّةِ الدَّعْوَى وَانْكِشَافُهَا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَصْفِ.
قالَ رحمَهُ اللهُ: الطَّرِيقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ الْحُكْمُ بِالْقُرْعَةِ
– الشيخ : حسبُكَ