بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة غافر
الدَّرس: الثَّالث عشر
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:60-65]
– الشيخ : أحسنت.
يُخبِرُ تعالى عَن نفسِه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أخبرَنَا أنَّه قالَ للعباد: {ادْعُونِي} كما قالَ تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة:186] وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} [الأعراف:55] -في آيات- {ادْعُوا رَبَّكُمْ}.
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمرَ بالدعاءِ وَوَعَدَ بالإجابةِ، أمرَ بالدعاء وَوَعَدَ بالإجابةِ، وجاءَ عن عمرَ رضيَ الله عنه أنه قالَ: "إنِّي لا أحملُ همَّ الإجابةِ، ولكن أحملُ همَّ الدُّعاءِ، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاءَ فالإجابةُ معَهُ". والدعاءُ يدلُّ على افتقارٍ، وعلى تعظيمٍ لِرَبِّ العالمينَ، وإيمانٍ بأنه يسمعُ، وأنه قادرٌ على أنْ يُجيبَ، وأنَّه كريمٌ، {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] لو تدعو بتحريكِ شَفَتَيْكَ فاللهُ يعلمُ ذلك، ويَرَى ذلك.
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ أنْ يَدعوا الله يَسْتَكْبِرُونَ، فهؤلاء تَوَعَّدَهُم بدخولِ جهنَّمَ، والاستكبارُ عن دعاءِ اللهِ أعظمُهُ الاستكبارُ عَن عبادتِهِ؛ لأنَّ الدعاءَ -قال العلماء- يشملُ: دعاءَ المسألةِ، كقولِ العبدِ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي.."، ودعاءَ العبادةِ هو: كلُّ عَمَلٍ يُتقرَّبُ بِه إلى اللهِ مِن صلاةٍ وصيامٍ.
{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ويَشهدُ لهذا قولُهُ تعالى عن الكفارِ: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] يَسْتَكْبِرُونَ أنْ يقولوا: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ".
ثمَّ ذكرَ سبحانه وتعالى بعضَ الأدلَّةِ على قدرتِهِ وعلى رحمتِهِ وعلى كَرَمِهِ وتَفَضُّلِهِ على الناسِ، فمِنْ ذلكَ أنَّه خَلَقَ للناسِ الليلَ والنهارَ، وجعلَ الليلَ؛ لِيَسْكُنُوا فيهِ، سَكَن، والنهارُ جعلَه مجالًا للانتشارِ وطلبَ الـمَعَاشِ، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47] وجعلَهُ منيراً مُبْصَراً، جعلَ آيةَ النهارِ الشَّمس الـمُضيئة.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} مِن حِكَمِ خلقِ الليلِ سكونُ الناسِ فيهِ بعدَ العَنَاءِ والجُهْدِ، تسكنُ فيه الحركاتُ.
ولهذا نقولُ: أنَّ ما أفْرَزَتْهُ هذه الحضارةُ مِن وسائلِ الإضاءةِ التي أسرفَ فيها الناسُ حتى صَيَّرُوا بهذا الإسرافِ، الليلَ مكانَ النهارِ يَنْتَشِرونَ فيه، يَنتشرُ فيهِ كثيرونَ، كثيرٌ مِن الناسِ، فها هِي الأسواقُ والتِّجاراتُ تُمَارسُ في الليلِ، وينتشرُ الناسُ ويخرجونَ كثيرًا، صِنْفٌ مِن الناسِ لا يخرجُ في النهارِ إنَّما يخرجُ في الليلِ، فهم عَكَسُوا الفطرةَ حيثُ جعلُوا الانتشارَ في الليلِ، والرُّقَادَ في النهارِ، فيَسْهَرُ كثيرٌ -كثيرٌ مِن الناسِ كما تعلمونَ- هذا بلاءٌ، هذا بلاءٌ، يسهرونَ كثيرًا مِن الليلِ، نصفَ الليلِ، أو ثُلُثَي الليلِ، أو كلَّ الليلِ، هكذا الناس
{جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} مُضِيْئَاً فيهِ فرصةٌ للانتشارِ، ضياءٌ، {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} [يونس:5]
ثمَّ ذكرَ بأنَّ ذلكَ تَفَضُّلٌ مِن اللهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أكثرُ الناسِ: الكفارُ لا يَعرفونَ ربَّهُم ولا يشكرونَهُ، كثيرٌ مِن المسلمينَ تَغْلبُ عليهِم الغَفْلَةُ عَن آياتِ اللهِ وعَن نِعَمِ اللهِ، عَن آياتِ اللهِ وعَن نِعَمِ اللهِ، يَتَمَتَّعُونَ بهذه النِّعَمِ ولا يَستحضرونَ فضلَ اللهِ عليهم، الحمدُ لله، الحمدُ لله على نِعَمِهِ، يمكن بعضُ الناسِ ما يتصوَّرُ النِّعَمَ إلا ما يتعلَّقُ بالمأكولِ والمشروبِ -أو ما أشبهَ ذلكَ- أو المركوب، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} تضمَّنَتْ هذهِ الآيةُ: توحيدَ الربوبيةِ وتوحيدَ العبادةِ، {ذَلِكُمُ} هذا الذي أخبرَ اللهُ بما فعلَهُ {رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} خالقُكُم وخالقُ كلِّ شيءٍ، كلِّ شيءٍ، كلِّ شيءٍ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
{لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا يستحقُّ العبادةَ غيرُهُ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} مع هذا كيفَ تُصْرَفُونَ؟! كيف تُصْرَفُونَ عن عبادةِ اللهِ؟! كيف تُصْرَفُونَ عن عبادتِه إلى عبادةِ غيرِه؟!
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الذين يُكذبون بِآيَاتِ اللَّهِ يُعاقَبُونَ بأنْ يُصْرَفُوا عَن الهُدى ولا يُوَفَّقُوا، {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
ثم ذكرَ أيضاً أمورًا أخرى مِن آياتِه ونِعَمِهِ: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} مِّنَ الطَّيِّبَاتِ بأنواعِها الكثيرةِ: مِن المآكلِ والمشاربِ والملابسِ، رزقٌ، واللهُ يُعَدِّدُ ويُفَصِّلُ هذا في آياتٍ أخرى، {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ}.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أيضاً هو {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، وهو الذي {صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:40] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ} تَبَارَكَ يعني: تَعَالَى وتَقَدَّسَ سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ والـمُشركون عُلُوًا كبيرًا، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} هو رَبُّ الْعَالَمِينَ، رَبُّ العوالمِ كلِّها، السمواتُ والأرضُ ومَن فِيهِنَّ، لا إله إلا الله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
{هُوَ الْحَيُّ} هذا مِن أسمائِهِ: "الْحَيُّ"، والحَيُّ صِفتُهُ، فهو الْحَيُّ الذي لا يموتُ، وهو الْحَيُّ الذي لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ، {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}.
{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا داخلٌ في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} داخلٌ في قولِه، هو يقولُ لنا في هذه الآية: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ} اعْبُدُوهُ وسَلُوهُ {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لَهُ الحمدُ كلُّهُ ولَهُ الملكُ كلُّهُ سبحانه وتعالى، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيها الدَّلالَةُ على عمومِ ربوبيتِهِ لجميعِ العوالِم {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، تجدُ هذه المعاني العظيمة تُثَنَّى يعني تُكرَّرُ وتُذكَرُ بألفاظٍ وأساليبَ مختلفةٍ؛ لِتَرْسِيخِ هذه المعاني في نفوسِ العبادِ المؤمنينَ بآياتِ اللهِ الـمُتَدَبِّرِينَ لآياتِ اللهِ، {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
(تفسيرُ السعديّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمه الله تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآيات.
هَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَنِعْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ، حَيْثُ دَعَاهُمْ إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِدُعَائِهِ دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَدُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ، وَتَوَعَّدَ مَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهَا فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أَيْ: ذَلِيلِينَ حَقِيرِينَ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَالْإِهَانَةُ؛
– الشيخ : أعوذُ بالله
– القارئ : جَزَاءً عَلَى اسْتِكْبَارِهِمْ.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} الآيات.
تَدَبَّرْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَزِيلِ فَضْلِهِ وَوُجُوبِ شُكْرِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ وَعُمُومِ خَلْقِهِ
– الشيخ : لا إله إلا الله، الحمدُ لله -يا إخوان- الحمدُ للهِ أنْ جعلَنَا مسلمين، الحمد للهِ، لا إله إلا الله.
– القارئ : وَعُمُومِ خَلْقِهِ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكَمَالِ حَيَاتِهِ، وَاتِّصَافِهِ بِالْحَمْدِ عَلَى كُلِّ مَا اتُّصِفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ، وَمَا فَعَلَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَتَمَامِ رُبُوبِيَّتِهِ وَانْفِرَادِهِ فِيهَا، وَأَنَّ جَمِيعَ التَّدْبِيرِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فِي مَاضِي الْأَوْقَاتِ وَحَاضِرِهَا، وَمُسْتَقْبَلِهَا بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ،
– الشيخ : لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
– القارئ : وَلَا مِنَ الْقُدْرَةِ شَيْءٌ، فَيَنْتُجُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ شَيْئًا، كَمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ شَيْئًا، وَيَنْتُجُ مِنْ ذَلِكَ امْتِلَاءُ الْقُلُوبِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ -وَهَمَا مَعْرِفَتُهُ وَعِبَادَتُهُ- هُمَا اللَّذَانِ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ لِأَجْلِهِمَا، وَهُمَا الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَهُمَا الْمُوَصِّلَانِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَفَلَاحٍ وَصَلَاحٍ، وَسَعَادَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ هُمَا أَشْرَفُ عَطَايَا الْكَرِيمِ لِعِبَادِهِ، وَهُمَا أَشْرَفُ اللَّذَّاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُمَا اللَّذَانِ إِنْ فَاتَا فَاتَ كُلُّ خَيْرٍ، وَحَضَرَ كُلُّ شَرٍّ.
فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَمْلَأَ قُلُوبَنَا بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ حَرَكَاتِنَا الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ خَالِصَةً لِوَجْهِهِ، تَابِعَةً لِأَمْرِهِ، إِنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ سُؤَالٌ، وَلَا يُحْفِيهِ نَوَالٌ.
– الشيخ : اللهمَّ اهدِنا، اللهمَّ اهدِنا، لا حول ولا قوة إلا بالله.
– القارئ : فقولُهُ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} أَيْ: لِأَجَلِكُمْ جَعَلَ اللَّهُ اللَّيْلَ مُظْلِمًا، {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} مِنْ حَرَكَاتِكُمُ، الَّتِي لَوِ اسْتَمَرَّتْ لَضَرَّتْ، فَتَأْوُونَ إِلَى فُرُشِكُمْ، وَيُلْقِي اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّوْمَ الَّذِي يَسْتَرِيحُ بِهِ الْقَلْبُ وَالْبَدَنُ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْآدَمِيِّ لَا يَعِيشُ بِدُونِهِ، وَيَسْكُنُ فيهِ أَيْضًا كُلُّ حَبِيبٍ إِلَى حَبِيبِهِ، وَيَجْتَمِعُ الْفِكْرُ وَتَقِلُّ الشَّوَاغِلُ.
{و} جَعَلَ تَعَالَى {النَّهَارَ مُبْصِرًا} مُنِيرًا بِالشَّمْسِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الْفَلَكِ، فَتَقُومُونَ مِنْ فُرُشِكُمْ إِلَى أَشْغَالِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ،
– الشيخ : لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
– القارئ : هَذَا لِذِكْرِهِ وَقِرَاءَتِهِ، وَهَذَا لِصَلَاتِهِ، وَهَذَا لِطَلَبِهِ الْعِلْمِ وَدِرَاسَتِهِ، وَهَذَا لِبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، وَهَذَا لِبِنَائِهِ أَوْ حِدَادَتِهِ، أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الصِّنَاعَاتِ، وَهَذَا لِسَفْرِهِ بَرًّا وَبَحْرًا، وَهَذَا لِفِلَاحَتِهِ، وَهَذَا لِتَصْلِيحِ حَيَوَانَاتِهِ.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} أَيْ: عَظِيمٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّنْكِيرُ {عَلَى النَّاسِ} حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ وَغَيْرِهَا وَصَرَفَ عَنْهُمُ النِّقَمَ، وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ تَمَامَ شُكْرِهِ وَذِكْرِهِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، وَيَخْضَعُونَ لِلَّهِ وَيُحِبُّونَهُ، وَيَصْرِفُونَهَا فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُمْ وَرِضَاهُ.
{ذَلِكُمُ} الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ {اللَّهُ رَبُّكُمْ} أَيِ: الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْمُنْفَرِدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِهَذِهِ النِّعَمِ، مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ، وَإِيجَابُهَا لِلشُّكْرِ، مِنْ أُلُوهِيَّتِهِ، {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} تَقْرِيرٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} تَقْرِيرٌ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ،
ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ فَقَالَ: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ: كَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بَعْدَ مَا أَبَانَ لَكُمُ الدَّلِيلَ، وَأَنَارَ لَكُمُ السَّبِيلَ!
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أَيْ: عُقُوبَةٌ عَلَى جَحْدِهِمْ لِآيَاتِ اللَّهِ، وَتَعَدِّيهِمْ عَلَى رُسُلِهِ، صُرِفُوا عَنِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127]
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} أَيْ: قَارَّةً سَاكِنَةً، مُهَيَّأَةً لِكُلِّ مَصَالِحِكُمْ، تَتَمَكَّنُونَ مِنْ حَرْثِهَا وَغَرْسِهَا، وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} سَقْفًا لِلْأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْوَارِ، وَالْعَلَامَاتِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} فَلَيْسَ فِي جِنْسِ الْحَيَوَانَاتِ أَحْسَنُ صُورَةً مِنْ بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ حُسَنَ الْآدَمِيِّ وَكَمَالَ حِكْمَةِ اللهِ
– الشيخ : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وللدَّلَالةِ ولإقامةِ الدليلِ على كمالِ قدرتِهِ يَخلقُ بعضَ الناسِ ويُصَوّرُ بعضَ الناسَ صورًا ليسَتْ مِن الصورِ الحَسَنَةِ، تكونُ صوراً دَمِيْمَةً صوراً كَرِيهَةً فهذا ابتلاءٌ مِن وجهٍ، وللدَّلالةِ على قدرتِهِ سبحانه، ولهذا في آيةِ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آل عمران:6] {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} يُصَوِّرُهُمْ كَيْفَ يَشَاء، يُصَوِّرُ بعضًا بِصُورٍ حسنةٍ، ويُصَوِّرُ بعضًا بِصُورٍ أخرى، والله الـمُستعان، لا إله إلا الله.
– القارئ : وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ حُسَنَ الْآدَمِيِّ وَكَمَالَ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَانْظُرْ إِلَيْهِ عُضْوًا عُضْوًا، هَلْ تَجِدُ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ يَلِيقُ بِهِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؟ وَانْظُرْ أَيْضًا إِلَى الْمَيْلِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هَلْ تَجِدُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ؟ وَانْظُرْ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ الْمُنَاسِبَةِ لِأَجْمَلِ الصُّوَرِ.
– الشيخ : لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن هذهِ الصورُ الحَسَنَةُ إذا فَقَدَ صاحبُها الإيمانَ كانَ قبيحًا في حقيقتِهِ وإنْ كانَتْ صورتُهُ الظاهرةُ حَسَنَةً، فمَنْ فَقَدَ حُسْنَ البَاطِنِ وجمالَ الباطِنِ لا ينفعُهُ جمالُ وحُسْنُ الظاهرِ -نسأل الله العافية- ولهذا شبَّهَ اللهُ الكافرينَ بالبهائِمِ، الله أكبر، الله أكبر.
– القارئ : {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وَهَذَا شَامِلٌ لِكُلِّ طَيِّبٍ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَنْكَحٍ وَمَلْبَسٍ وَمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يَسَّرَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَيَسَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَهَا، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْخَبَائِثِ الَّتِي تُضَادُّهَا وَتَضُرُّ أَبْدَانَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ، {ذَلِكُمُ} الَّذِي دَبَّرَ الْأُمُورَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ {اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: تَعَاظَمَ وَكَثُرَ خَيْرُهُ وَإِحْسَانُهُ، الْمُرَبِّي جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ.
{هُوَ الْحَيُّ} الَّذِي لَهُ الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ التَّامَّةُ، الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ، الَّتِي لَا تَتِمُّ حَيَّاتُهُ إِلَّا بِهَا، كَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْكَلَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا وَجْهُهُ الْكَرِيمُ. {فَادْعُوهُ} وَهَذَا شَامِلٌ لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ، وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيِ: اقْصُدُوا بِكُلِّ عِبَادَةٍ وَدُعَاءٍ وَعَمَلٍ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالْمَدَائِحِ وَالثَّنَاءِ بِالْقَوْلِ: كَنُطْقِ الْخَلْقِ بِذِكْرِهِ، وَالْفِعْلِ: كَعِبَادَتِهِمْ لَهُ، كُلُّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لِكَمَالِهِ فِي أَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَمَامِ نِعَمِهِ.
انتهى