(23) الودود

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (فَتحُ الرَّحيمِ الملكِ العَلاَّمِ في عِلمِ العقَائِدِ وَالتَّوحيْدِ وَالأخْلاَقِ وَالأحكامِ المُستنَبَطةِ مِن القرآنِ)
للشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصرالسّعدي
الدَّرس الثَّالث والعشرون

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. اللهمَّ اغفرْ لشيخِنا وللحاضرِين والـمُستمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ بن ناصر السَّعدي -رحمَهُ الله تعالى وأسكنَهُ في فسيحِ جنانِهِ- في كتابه "فتحُ الرحيمِ الملكِ العَلَّامِ في علمِ العقائدِ والتوحيدِ والأخلاقِ والأحكامِ الـمُستنبطةِ مِن القرآنِ" قال رحمه الله:
"الوَدُوْدُ"

– الشيخ: "الوَدُوْدُ" اسمٌ مِن أسماءِ الله، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14] فعولٌ مِن الـمَوَدَّةِ وهي: المحبةُ، واللهُ يُحبُّ مَن يشاءُ، يحبُّ أولياءَه، يحبُّ المتقينَ، والتَّوَّابينَ، والـمُتَطهِّرين، والصابرينَ، وهِيَ صيغةٌ تدلُّ على كمالِ محبتِهِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فهو يُحِبُّ ويُحَبُّ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]
وقالَ بعضُهم: أنَّ معنى وَدُوْدُ أيْ: مَوْدُودٌ، يعني أنَّهُ محبوبٌ يحبُّهُ أولياؤُه.
وكلُّ مِن المعنيينِ حَقٌّ، لكن الأولُ أرجحُ، وإلا كلٌّ منه..، فهو يُحِبُّ ويُحَبُّ، فهو يُحِبُّ أولياءَهُ، ويُحِبُّهُ أولياؤُهُ.
 

– القارئ: أي: الـمُتَوَدِّدُ إلى خَلْقِهِ بنعوتِهِ الجميلةِ، وآلائِهِ الواسعةِ، وألطافِهِ الخفيةِ، ونِعَمِهِ الخفيةِ والجليَّةِ، فهو الوَدُوْدُ بمعنى: الوَادِّ، وبمعنى: الـمَوْدُود، يحبُّ أولياءَه وأصفياءَه ويحبونَهُ، فهو الذي أحبَّهُم وجعلَ في قلوبِهِم المحبةَ، فلمّا أحبُّوهُ أحبَّهُم حُبًا آخرَ؛ جزاءً لهمْ على حبِّهِم.
فالفضلُ كلُّهُ راجعٌ إليهِ، فهو الذي وضعَ كلَّ سببٍ يَتَوَدَّدُهُم بِه، ويجلبُ ويجذبُ قلوبَهُم إلى وُدِّهِ، تَودَّدَ إليهِم بذِكرِ ما لَه مِن النعوتِ الواسعةِ العظيمةِ الجميلةِ، الجاذبةِ للقلوبِ السليمةِ والأفئدةِ المستقيمةِ، فإنَّ القلوبَ والأرواحَ الصحيحةَ مجبولةٌ على محبةِ الكمالِ.
واللهُ تعالى لَهُ الكمالُ التامُّ المطلقُ، فكلُّ وصفٍ مِن صفاتِهِ لَه خاصيةٌ في العبوديةِ، وانجذابُ القلوبِ إلى مَولاها، ثمَّ تودَّدَ لهمْ بآلائِهِ ونعمِهِ العظيمةِ التي بها أوجدَهم، وبها أبقاهُم وأحياهُم، وبها أصلحَهُم، وبها أتمَّ لهمُ الأمورَ، وبها كَمَّلَ لهمُ الضرورياتِ والحاجياتِ والكمالياتِ، وبها هداهُم للإيمانِ والإسلامِ، وبها هداهُم لحقائقِ الإحسانِ، وبها يسّرَ لهم الأمورَ، وبها فرّجَ عنهم الكُرُبَاتِ وأزالَ المشقاتِ، وبها شرعَ لهم الشرائعَ ويَسَّرَهَا ونَفَى عنهم الحرجَ، وبها بيّنَ لهم الصراطَ المستقيمَ وأعمالَهُ وأقوالَهُ، وبها يَسَّرَ لهم سلوكَهُ وأعانَهُم على ذلكَ شرعًا وقَدَرًا، وبها دفعَ عنهم المكارهَ والمضارَّ كما جَلَبَ لهم المنافعَ والمسارَّ، وبها لَطَفَ بهم ألطافًا شاهدُوا بعضَها وما خفيَ عليهم منها أعظمُ.
فجميعُ ما فيهِ الخليقةُ مِن محبوباتِ القلوبِ والأرواحِ والأبدانِ الداخليةِ والخارجيةِ الظاهرةِ والباطنةِ، فإنَّها مِن كرمِهِ وجُودِهِ، يَتودَّدُ بِها إليهِم، فإنَّ القلوبَ مجبولةٌ على محبةِ المحسنِ إليها، فأيُّ إحسانٍ أعظمُ مِن هذا الإحسانِ الذي يَتعذَّرُ إحصاءُ أجناسِهِ فضلاً عَن أنواعِهِ، فضلاً عَن أفرادِهِ؟ وكلُّ نعمةٍ منه تَطلبُ مِن العبادِ أنْ تمتلئَ قلوبُهم مِن مودتِهِ وحمدِهِ وشكرِهِ والثناءِ عليهِ.
ومِن تودُّدِهِ أنَّ العبدَ يشردُ عنه فيتجرأُ على المحرِّماتِ، ويُقصِّرُ في الواجباتِ، واللهُ يسترُهُ ويحلمُ عنه، ويمدُّهُ بالنِّعَمِ، ولا يقطعُ عنه منها شيئًا، ثمَّ يُقيّضُ له مِن الأسبابِ والتذكيراتِ والمواعظِ والإرشاداتِ ما يجلبُهُ إليهِ، فيتوبُ إليهِ وينيبُ، فيغفرُ له تلكَ الجرائمَ، ويمحو عنه ما أسلفَهُ مِن الذنوبِ العظائمِ، ويعيدُ عليهِ وُدَّهُ وحُبَّهُ. ولعلَّ هذا -واللهُ أعلم- سِرُّ اقترانِ الودودِ بالغفورِ في قولِهِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ.
– الشيخ: لا إله إلا الله.
– القارئ: ومِن كمالِ مودتِهِ للتائبينَ: أنَّه يفرحُ بتوبتِهم أعظمَ فرحٍ يُقَدَّرُ، وأنَّه أرحمُ بهِم مِن والديهِم وأولادِهم والناسِ أجمعينَ، وأنَّ مَن أحبّهُ مِن أوليائِهِ كانَ معَه وسدَّدَهُ في حركاتِهِ وسكناتِهِ، وجعلَهُ مُجَابَ الدعوةِ وجيهًا عندَهُ، كما في الحديثِ القُدسي:
(لا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قبضِ نفسِ عبدي المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).
وآثارُ حُبِّهِ لأوليائِهِ وأصفيائِهِ عليهِم لا تخطرُ ببالٍ، ولا تحصيهَا الأقلامُ.
وأما مودةُ أوليائِهِ لَه فهي رُوْحُهم ورَوْحُهم وحياتُهم وسرورُهم، وبها فلاحُهم وسعادُتهم، بها قامُوا بعبوديتِهِ، وبها حمدوهُ وشكروهُ، وبها لهجَتْ ألسنتُهم بذكرِهِ،

– الشيخ: سبحان الله، سبحان الله.
– القارئ: وسعَتْ جوارحُهم لخدمتِهِ، وبها قامُوا بما عليهِم مِن الحقوقِ المتنوعةِ، وبها كفُّوا قلوبَهم عَن التعلُّقِ بغيرِهِ وخوفِهِ ورجائِهِ، وجوارحَهُم عَن مخالفتِهِ، وبها صارَتْ جميعُ محابِّهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعًا لهذهِ المحبةِ.
أمَّا الدينيةُ فإنَّهم لـمَّا أحبُّوا ربَّهم أحبُّوا أنبياءَه ورسلَه وأولياءَه، وأحبَّوا كلَّ عملٍ يُقرِّبُ إليهِ، وأحبّوا ما أحبَّهُ مِن زمانٍ ومكانٍ، وعملٍ وعاملٍ.
وأمَّا المحبةُ الطبيعيةُ فإنَّهم تناولُوا شهواتِهِم التي جُبِلَتْ النفوسُ على محبتِها مِن مأكلٍ ومشربٍ، وملبسٍ وراحةٍ على وجهِ الاستعانةِ بها على ما يحبُّهُ مولاهُم.

– الشيخ: الله الـمُستعان.
– القارئ: وأيضًا فكما قصدُوا بها هذهِ الغايةَ الجليلةَ، فإنَّهم تناولوهَا بحكمِ امتثالِ الأوامرِ المطلقةِ في مثلِ قولِهِ: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ [الأعراف:31]، ونحوِها مِن الأوامرِ والترغيباتِ المتعلقةِ بالمباحاتِ والرَّاحاتِ، فصارَ السببُ الحاملُ لها امتثالَ الأمرِ، والغايةُ التي قصدَتْ لها الاستعانةَ بها على محبوباتِ الرَّبِّ، فصارتْ عاداتُهم عباداتٌ، وصارتْ أوقاتُهم كلُّها مشغولةً بالتقرّبِ إلى محبوبِهم.
وكلُّ هذه الآثارِ الجميلةِ الجليلةِ مِن آثارِ المحبةِ التي تفضّلَ بها عليهِم محبوبُهم، وتقوى هذه الأمورُ بحسبِ ما في القلبِ من الحبِّ الذي هو روحُ الإيمانِ، وحقيقةُ التوحيدِ وعينُ التعبُّدِ، وأساسُ التقرُّبِ.
فكما أنَّ اللهَ ليسَ لَهُ مثيلٌ في ذاتِهِ وأوصافِهِ، فمحبتُهُ في القلوبِ أوليائِهِ ليسَ لها مثيلٌ ولا نظيرٌ في أسبابِها وغاياتِها، ولا في قَدْرِها وآثارِها، ولا في لذتِها وسرورِها، وفي بقائِها ودوامِها، ولا في سلامتِها مِن الـمُنكِّداتِ والـمُكدِّراتِ مِن كلِّ وجهٍ. واللهُ أعلمُ.

– الشيخ: رحمَه الله، أبدعَ وبسطَ وفصَّلَ، رحمَه الله، نسألُ اللهَ أنْ يمنَّ علينا، اللهمَّ ارزقْنَا حُبَّكَ وحُبَّ مَن يُحبُّكَ، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزَيِّنْهُ في قلوبِنا.
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة