الرئيسية/فتاوى/حكم التعبد بتلاوة صحيح البخاري والاستسقاء بقراءته

حكم التعبد بتلاوة صحيح البخاري والاستسقاء بقراءته

السؤال :

أحسن الله إليكم، ما يذكره العلماءُ في الثَّناء على صحيح البخاري، كقول ابن كثير: "كتابه (الصَّحيح) يُستسقى بقراءته الغَمامُ، وأجمعَ على قبوله وصحَّة ما فيه أهلُ الإسلام"، وقول الذهبي في حوادث سنة (695هـ) لما وقعَ ما وقعَ مِن القحط والغلاء والفزع، ثم قال: "واجتمعنا لسماع (البخاريّ)، ففتحَ الله بنزول الغيث" اهـ، هل يعني ذلك أن في قراءة أحاديث النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بركة كبركة القرآن عند حلول المصائب ونزول الأوبئة؟ دفع الله عنا وعنكم كلَّ سوء .

 

الحمدُ لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على مَن لا نبي بعده، أمَّا بعد :

فلا بدَّ قبل الجواب مِن التَّذكير ببعض الأصول:

الأول: أنَّ مِن المعلوم أنَّ سنَّة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هي الوحيُ الثَّاني، وهي الحكمة المنزلة على الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113].

الثاني: أنَّ مِن المعلوم أيضًا أنَّ السُّنَّة تأتي في المرتبة الثَّانية مع القرآن، مِن حيث الرجوع إليها في مسائل الدين.

الثالث: أنَّ الصَّحابة أشدُّ النَّاس تعظيمًا لسنَّة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يكونوا يتعبَّدون بتلاوة الحديث إلا للحفظ والتَّبليغ، وهذا ممَّا تفارقُ به السُّنَّة القرآن، أعني التَّعبُّد بالتَّلاوة، كالإعجاز.

الرابع: أنَّ مِن هديه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه إذا حزبه أمرٌ فزعَ إلى الصَّلاة، ومِن ذلك ما أمرَ به مِن صلاة الكسوف، وما أرشدَ إليه مِن صلاة الاستسقاء.

الخامس: أنَّ مِن المعلوم أنَّ الله أرشدَ عباده في ضروراتهم وحاجاتهم إلى الدُّعاء، في قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقوله: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، وفيما قصَّه في سيرة أنبيائه نوح وأيوب وذي النون وزكريا، كما في سورة الأنبياء وغيرها. وهكذا كانَ هديُ نبينا -صلَّى الله عليه وسلَّم- فكان يرشدُ إلى الدعاء بفعله وقوله، فقال في الاستنصار: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ ومُجْرِيَ السَّحَابِ وهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»، وقال في الاستسقاء: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا».

السادس: أنَّ مِن المعلوم قطعًا أنَّ الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم يكن يأمر في شيء مِن هذه الأحوال بدفع الضّر أو جلب النَّفع أو مقاومة العدو بتلاوة القرآن، وإنَّما يأمرُ بالدُّعاء، وكذا هديُ صحابته مِن بعده رضي الله عنهم، فلم يكونوا يأمرون النَّاس بتلاوة القرآن إذا نزلت بهم ضرورة أو خافوا عدوًا، وقد نزلت بهم شدائد؛ مِن قحط، وطاعون، وغزو عدو، وإنَّما يلجؤون إلى الله في مثل هذه الأحوال بالدعاء.

السابع: أنَّ كلًّا يُؤخَذ مِن قوله ويُرَدّ إلَّا الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

إذا ثبتَ ما تقدَّم أقول: إنَّ التَّعبُّد بتلاوة صحيح البخاري لمجرد التّلاوة فضلًا عن التَّوسّل بذلك لجلب نفع أو دفع ضرٍّ، أقول: إنَّه بدعة، وإنْ فعلَه مَن فعلَه مِن الأعيان، فهؤلاء يُستدلّ لفعلهم لا يُستدلّ به، وما الذي خصَّ صحيح البخاري دون صحيح مسلم؟! وهو نظيره في الجملة، حتى اختلفَ النَّاس في المفاضلة بينهما.

والواجبُ لزوم هدي الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهدي الصَّحابة، وعدم الالتفات إلى ما خالفهما، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، وقال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة:100].

ثمَّ نقول: إنَّ مِن الضَّروريات في الدين أنَّ المقصود مِن كتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هو العمل بِمَا فيهما مِن الأوامر والنَّواهي، والإيمان بِمَا فيهما مِن الأخبار، وبذلك يحصلُ للعباد الخيرات وتندفع عنهم الشّرور والآفات، وليس المقصود مجرَّد تلاوتهما ألفاظًا، ولو للتَّعبُّد بذلك، نسألُ الله أن يقينا برحمته السيئات، إنَّه تعالى غفورٌ رحيمٌ جوادٌ كريم . 

 

أملاه :

عبد الرَّحمن بن ناصر البرَّاك