هذا الكلام المنسوب إلى صاحب تحفة الأحوذي[2] –عفا الله عنه– تضمَّن حكاية مذاهب الناس في حديث النزول، وفيما تضمَّنه من الخبر عن نزول الله إلى السماء الدنيا، وأسوأُ ما في كلامه قوله: “فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبِّهة، تعالى الله عن قولهم” اهـ، والذين يثبتونه على ظاهره وحقيقته على ما يليق بالله، هم أهل السنة والجماعة، وهم عند المعطلة نفاة الصفات والأفعال مشبِّهةٌ، أمَّا من يثبت نزول الله على ما يليق بالمخلوق فهم المشبِّهة على الحقيقة.
ومن أسوأ ما فيه أيضًا قوله: “ومنهم من أجراه على ما ورد، مؤمنًا به على طريق الإجمال”، ثم قال: “وهم جمهور السلف” اهـ، ومضمون هذا: أن السلف يثبتون النزول لفظًا؛ لورود الحديث به، ولا يثبتونه فِعلا للرَّبِّ تعالى، فأمَّا الجهمية[3] والمعتزلة[4] فلأنهم ينفون جميع الصفات الفعليَّة والذاتيَّة، وأمَّا الأشاعرة فيوافقونهم على نفي الصِّفات الفعليَّة؛ وكثير من الصِّفات، لأن الصِّفات الفعليَّة عندهم تستلزم حدوث الحوادث في ذات الرَّبِّ؛ لأنها تحدُث بمشيئته[5]، ومنها: النزول والاستواء والمجيء[6]، وليس الأمر كما ذكر المباركفوري: مِن أن الإيمان بالنزول إجمالًا هو مذهب السلف، بل مذهب السلف هو إثبات النزول فعلا للرَّبِّ حقيقةً، على ما يليق به، كسائر صفاته تعالى.
ومن المذاهب الباطلة: مذهبُ أهل التأويل الذين يؤوِّلون نصوص الصِّفات بصرفها عن ظاهرها إلى معانٍ تخالف ظاهرها بغير حجة توجب ذلك؛ كتأويل من أوَّل النزول الإلهي بنزول مَلَك، أو نزول الرحمة، وفي الحديث ما يبطل هذا التأويل؛ فإنه من الممتنع أن يقول الملَك: مَن يدعوني؟ مَن يسألني؟ مَن يستغفرني؟[7]
وتحرير مذهب أهل السنة في نزول الله أنه نزولٌ حقيقيٌّ، يدلُّ على قربٍ، ودُنُوٍّ مِن عُلوٍ، وهو تعالى يقرب ممَّن شاءـ من خلقه، كيف شاء، ومن ذلك نزوله تعالى كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ودُنوُّه تعالى من أهل الموقف، حين يباهي بهم الملائكة[8].
وهم – أعني أهل السنة – في ذلك كلِّه ينزهون الله تعالى عن مماثلة المخلوقات في شيء من صفاته، على حدِّ قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، فبَرِئَ مذهبُهم من التعطيل والتشبيه والتكييف والتأويل، وغيرها من سائر الأباطيل. والله أعلم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 29 رجب 1446 هـ
[1] أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وهو في الترمذي بهذا السياق (446).
[2] تحفة الأحوذي (2/431)، وهو من فتح الباري (3/30) بتصرف يسير. وينظر تعليق الشيخ ابن باز على هذا الموضع.
[3] ينظر: الفرق بين الفرق (ص199).
[4] ينظر: مقالات الإسلاميين (1/130).
[5] ينظر: أبكار الأفكار (2/20)، وأولى شيخ الإسلام هذا الأصل عند المتكلمين عناية خاصة، وناقشه بتوسع في جل كتبه. ينظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/384).
[6] تنظر طريقة الحائدين عن سبيل الرسل في وصف الله تعالى والرد عليهم في: شرح العقيدة التدمرية (ص131) وما بعدها.
[7] ينظر إبطال تحريف صفة النزول في: شرح حديث النزول (ص138-149)، (ص233-236)، ومختصر الصواعق (3/1100) وما بعدها.
[8] أي موقف عرفة؛ ويشير شيخنا -حفظه الله- لما أخرجه مسلم (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من يوم أكثر مِن أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء”.