الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فيجب أن يُعلم أن الغيب نوعان: نسبي، وهو ما يعلمه بعض الناس دون بعض؛ فهو غيب بالنسبة لمن لا يعلمه، مثل المعادن التي في جَوْفِ الأرض لمن لا يعلم أدلتها وأماراتها التي ترشِد إليها حسب التجربة، وكأحوال الأجنَّة في بطون الإنسان والحيوان؛ فهي غيبٌ بالنسبة لمن لا خبرة له بالطب.
النوع الثاني من الغيب: هو الذي لا يعلمه إلا الله، فلا يعلمه ملَك ولا رسول إلا أن يُعلِمه الله كما قالت الملائكة: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة: 32]، وقال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26-27]، ومن ذلك آجال النفوس، وهو وقت موتها، وآجال الأمم وهو وقت فنائها، ومن ذلك معرفة أهل الجنة، وأهل النار بأعيانهم، ومن ذلك معرفة ما في نفوس العباد فإن ذلك مما اختص الله بعلمه؛ قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 235]، وقال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154]، ومن ذلك إحصاء قطرات المطر، ومن ذلك عدد الملائكة وغيرهم من جنود الله؛ قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31]، ونظائر ذلك كثير.
ثم إن الناس في الغيوب التي لا يعلمها إلا الله فريقان: فريق يدَّعي العلم بها، وهذا مفترٍ على الله، وقائل على الله ما لا يعلم، والفريق الآخر يجحد ما أخبر الله به من الغيوب؛ كالملائكة وأصنافهم وصفاتهم وأفعالهم، ومثل أحوال القيامة والجنة والنار، وهذا مكذِّب لله ورسله، وكِلا الفريقين كافرٌ، وأظهرهم كفرًا هو الجاحد المكذِّب لله ورسله وكتبه، ومن أنواع الغيب المطلق- أي: الذي لا يعلمه إلا الله- وقت قيام الساعة، ولهذا لما سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- جبريل عن الساعة؟ قال: “ما المسؤول عنها بأعلم من السائل”[1]، قال العلماء: معناه عِلمي وعلمك بها سواء[2]، ومن شواهد ذلك: قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187]، وقال في الآية الأخرى: إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [النازعات: 44]، أي: منتهى العلم بها[3].
وأما الذين لا يقرُّون إلا بالأدلة الحسية فهم خارجون عن فطرة الإنسان، وعن موجب العقول؛ فإن كثيرًا من القضايا العقلية لا يمكن إثباتها بأدلة حسية؛ كامتناع اجتماع الوجود والعدم، وانتفاء الوجود والعدم، فإن من البديهيات أن الشيء لا يكون موجودًا معدومًا في آن واحد، أو لا موجود ولا معدوم، فلا بد أن يكون الشيء إما موجودًا وإما معدومًا، وأيضًا: هذه الروح التي فينا، ولا حياة لنا إلا بها لا يمكن إثباتها بأدلة حسية مع أنها موجودة ولها حقيقة، ولهذا سأل الكفار النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الروح فأمره الله أن يقول لهم: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]،[4] [5]، هذا ومع تقدم الطب، والعلم بوسائل معرفة الأشياء الدقيقة والخفية لم يستطيعوا الكشف عن حقيقة الروح، فسبحان الذي خلقها، وهو العالم بحقيقتها، والعباد عاجزون عن تصوُّرها فضلًا عن رؤيتها، والله أعلم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في يوم الجمعة الخامس عشر من شهر شعبان من عام ستة وأربعين وأربعمئة وألف.
[1] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[2] ينظر: فتح الباري (1/121)، وعمدة القاري (1/293).
[3] ينظر: تفسير الطبري (24/100).
[4] أخرجه البخاري (125)، ومسلم (2794) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ينظر: أسباب النزول للواحدي (ص291).
[5] تفسير الروح بأرواح الحيوان: هو رواية عن ابن عباس، واستظهره الواحدي، ونسبه ابن عطية للجمهور. وقيل: الروح هو جبريل، وقيل: هو مَلَكٌ، وقيل غير ذلك. ينظر: تفسير الطبري (15/ 69 – 71)، والتفسير البسيط (13/ 462 – 464)، والمحرر الوجيز (5/ 535).