الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فكلُّ مؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكتابه، عامِّيًّا كان أو متعلِّمًا، ينبغي له أن يفهم ما خُوطب به: أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وما أُنزل القرآن إلا لتدبُّره والعمل به واعتقاد ما دلَّ عليه، وذلك عامٌّ في المسائل العلميَّة والعمليَّة، ومن ذلك: ما أخبر الله به من أسمائه وصفاته، وما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بل العلم بذلك هو أجلُّ العلوم، فكيف يُحجب العامِّيُّ عن ذلك؟! وكيف يُحرَّم عليه السؤال عمَّا يعرف به ربَّه من معاني أسمائه وصفاته؟!
كيف يقال: لا يَسأل المسلمُ عن معنى استوائه تعالى على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة، ومجيئه يوم القيامة؟! وما أخبَر اللهُ بذلك وأخبر به رسوله إلا ليَعرف المؤمن ربَّه بمعرفةِ ما يجب له كصفاته الذَّاتيَّة، ويجوز له كصفاته الفعليَّة[2]، ويمتنع عليه كصفات النقص.
نعم؛ جاء عن الصحابة النهيُ عن تحديث الناس بما لا تطيقه عقولهم، وتقصر عنه أفهامهم، كما قال علي -رضي الله عنه-: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب اللهُ ورسولهُ؟!” رواه البخاري[3]، وفي مسلم[4] عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، ويمكن أن يمثَّل لهذا بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: “خلق الله آدم على صورته” الحديث[5]، [6].
وقد أمر الله المؤمنين بسؤال أهل العلم عمَّا أشكل عليهم، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]، وهذا عامٌّ في كلِّ ما أشكل على المؤمن من مسائل الاعتقاد، ومسائل الأحكام، وقوله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] عامٌّ في آيات الأحكام وآيات الصفات.
فعلم ممَّا تقدَّم أن ما ذُكر من عبارة المقدسيِّ[7] كلامٌ غير سديد، ولا يوافق عليه، عفا الله عنه، وظاهرٌ منه جنوحُه إلى التفويض في آيات الصفات[8]، وهو مخالفٌ لمذهب أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات[9]. والله أعلم.
أملاه:
عبدالرحمن بن ناصر البراك
حرر في 23 ذي القعدة 1446هـ
[1] مختصر منهاج القاصدين (ص177).
[2] ينظر: شرح العقيدة الطحاوية لشيخنا (ص56).
[3] برقم (127).
[4] في مقدمة صحيحه (1/9).
[5] أخرجه البخاري (6227)، ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] ينظر: الكشف عن أبواب ومسائل كتاب التوحيد لشيخنا (ص607).
[7] وهو نجم الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، كان مولده في سنة (651)، سمع من إبراهيم بن خليل وابن عبد الدائم ولم يحدِّث، وتفقه على والده، وولي القضاء في حياة والده بإشارته، وكان حسن السيرة في أحكامه، ذكيًّا، له قدرة على الحفظ، وله مشاركة جيدة في العلوم، وله شعر جيد وفضائل، توفي سنة (689). ينظر: تاريخ الإسلام (10/625)، والذيل على طبقات الحنابلة (4/231).
[8] وكلام المقدسي في “مختصر منهاج القاصدين” أصله من “منهاج القاصدين” لابن الجوزي (ص698). وابن الجوزي متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي -تأويلًا وتفويضًا- ولا على قدم الإثبات. ينظر: الانتصار لأهل الأثر (ص238)، والذيل على طبقات الحنابلة (2/487).
[9] ينظر التفصيل في إبطال مذهب المفوضة وبيان لازم مذهبهم في: التوضيحات الجلية في شرح الفتوى الحموية لشيخنا (ص248).