الرئيسية/المقالات/حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
sharefile-pdf-ofile-word-o

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور

حكمُ الصّلاة في المساجد التي فيها قبور
 

 الحمد لله، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
 فقد استفاضت سنّة الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- بالنّهي عن اتّخاذ القبور مساجد، وذلك بالصّلاة عندها، أو ببناء مسجد عليها، ومِن ذلك ما في الصّحيحين: عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال وهو في سياق الموت: (لعنةُ الله على اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد).
وفيهما أيضًا: أنّه -صلّى الله عليه وسلّم- قال لَمّا ذُكرتْ له كنيسةٌ مِن كنائس النّصارى بالحبشة وما فيها مِن الصّور، قال: (أولئكَ إذا ماتَ فيهم الرّجلُ الصّالحُ أو العبدُ الصّالحُ بنوا على قبرهِ مسجدًا، وصوّروا فيها تلكَ الصّورَ، أولئكَ شرارُ الخلقِ عندَ الله).
وفي صحيح مسلم: عن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقولُ قبلَ أن يموت بخمس: (ألّا إنّ مَن كانَ قبلكم كانوا يتّخذون قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، ألّا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإنّي أنهاكم عن ذلك).
قال الشّيخ محمّد بن عبدالوهّاب -رحمه الله- في كتاب التّوحيد: (باب ما جاءَ مِن التّغليظ في مَن عبدَ الله عندَ قبر رجلٍ صالح، فكيف إذا عبده؟!) وذكر أحاديثا، وقالَ بعد ذكره حديثَ "جندب": ( فقد نهى عنهُ في آخر حياتهِ، ثمّ إنّه لَعَنَ وهو في السّياق مَن فعلَهُ، والصّلاةُ عندها مِن ذلك، أي: مِن اتّخاذها مساجد، وإن لم يبن مسجد). وختمَ الباب بما رواه الإمام أحمد وأبو حاتم في صحيحه، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعا: (إنّ مِن شرارِ النّاس مَن تدركهم السّاعةُ وهم أحياء، والذين يتّخذون القبورَ مساجد).
فدلّت هذه الأحاديثُ على تحريم اتّخاذ القبور مساجد، سواء بالصّلاة عندها، أو ببناء مسجدٍ عليها، وقد شاعَ عند كثيرٍ مِن جهلة المسلمين الغلو في قبور الصّالحين، أو مَن يظنّون فيهم الصّلاح، وأوجبَ لهم ذلك الوقوع في أنواعٍ مِن الشّرك الأكبر والأصغر، فبنوا على تلك القبور المساجد والقباب، فانتشرت في كثير مِن بلاد المسلمين المساجد التي فيها قبور، وهي نوعان:  
النّوع الأوّل: مساجد أسّست -ابتداءً- تعظيمًا لصاحب القبر، ليُزار، ويُصلّى عنده، ويُطاف به. 
النّوع الثّاني: مساجد أسّست لإقامة الصّلوات الخمس، وإقامة الجُمع والجماعات فيها، فاعتدى بعضُ النّاس فدفنَ فيها معظَّمًا صَالحًا أو غير صالح، وغلبَ هذا الواقع، حتى صار كثيرٌ مِن المسلمين يجدون حرجًا؛ لأنّهم لا يجدون مسجدًا خاليًا عن تلك القبور، فهم بين أمرين: إمّا أن يتركوا حضورَ الجمعة والجماعة التي تقام في تلك المساجد، وإمّا أن يحضروا متأوّلين العذر لهم في ذلك، لهذا يجب أن يُعلم الفرق بين النّوع الأوّل والثّاني؛ فالمساجدُ المؤسّسة على الشّرك هي مِن جنس مسجد الضّرار، فيجبُ هدمها، ولا تصحّ الصّلاة فيها، ولو أدّى ذلك إلى ترك الجماعة.
وأمّا النّوع الثّاني: فهي مساجد محترمة، وحرمتها كحرمة غيرها مِن مساجد المسلمين، لا يُبطلُ حرمتها اعتداءُ مَن اعتدى بالدّفن فيها، وعليه: فلا حرج على مَن صلّى فيها، حتى ولو كانَ القبرُ في جهة القبلة، والغالبُ أن يكون دونه جدار، فلا يستقبل مباشرة، وأمّا قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا تصلّوا إلى القبور) فذلك في حال الاختيار.
بل لا يجوزُ ترك الجمعة والجماعة مِن أجل ما يُوجد في تلك المساجد مِن قبورٍ طارئة عليها، بل الواجب على مَن قدر أن ينبشَ هذه القبور ويخرجها؛ لأنّ وجودها في المسجد كان اعتداء.
وبهذا يتبيّن أنّ المعتبر في حكم الصّلاة في المساجد التي توجد فيها القبور: ما أُسّست عليه، فمَا أُسّس على الشّرك والبدعة فلا تجوز الصّلاة فيه؛ لأنّه لم يُؤسّس على تقوى، وما أُسّس لإقامة شرائع الله فهو المُؤسّس على التقوى، فيكون مِن بيوت الله التي أذنَ اللهُ أن تُرفعَ ويُذكرَ فيه اسمُهُ.
قال اللهُ لنبيّه في شأن مسجد الضّرار وما أشبهه، وفي شأن مسجده -صلّى الله عليه وسلّم: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}(التوبة:108) الآيات.
وإذا اشتبه الأمرُ على المسلم في مسجدٍ مِن تلك المساجد: فيبني على غالب ظنّه، ويستدلُّ على الواقع بالقرائن، وبسؤال أهل الخبرة مِن أهل السنّة في تلك البلد.
وأعظمُ دليلٍ على أنّ المسجد المؤسّس على تقوى مِن الله ورضوان لا يَمنع مِن الصّلاة فيه ولا غيرها مِن العبادات ما أُحدثَ فيه مِن منكر مِن شرك وما دونه؛ أقول أدلُّ دليلٍ على ذلك: ما عُلم مِن سيرته -صلّى الله عليه وسلّم- قبل الهجرة وبعدها مِن صلاته في المسجد الحرام، وطوافه بالبيت، مع ما كان في المسجد مِن الأصنام، ومِن ذلك: صلاتهُ وطوافُه في عمرة القضاء مدّة إقامته بمكة.
وقد ذكر هذا الاستدلال على المسألة الإمام ابن كثير في كتابه "الأحكام الكبير" فقال -رحمه الله- بعد كلام: "وكذلك كانَ -صلوات الله وسلامه عليه- يُصلِّي عند الكعبة قبل الهجرة، ويجعلُها بين يديه متوجِّهًا إلى بيت المقدس، وقد كان عندها مِن الأصنامِ المُشخَّصة شيءٌ كثير، حتَّى قيل: إنَّهُ كان حولَها ثلاثُمئةٍ وستون صنمًا، و"هُبَلُ" داخلُها، و"إساف ونائلة" تجاهها، ولكن لمْ يكنِ الحال يتمكنُ فيهِ مِن إزالتِها مِن عندها".
وكذلك كان بالكعبة في عمرة القضاء وحولها ما حولها ممَّا ذكرنا، والغالب أنَّه صلَّى عندَ المقام -وكان مُلصقاً بالبيتِ- ركعتي الطَّواف، فقد أقام هنالك ثلاثةَ أيام، يُصلِّي كلَّ يوم وليلة بأصحابه الصَّلوَات الخمس عندها، ثمَّ ترحَّلَ عنها، وتركها كذلك، حتَّى كان عامُ الفتح، وتمكَّنَ مِن إزالةِ ذلك، لمْ يدخلِ البيتَ حتَّى أُلقِيَت الصُّورُ المجسَّدةُ مِن هنالك، ومُحِيتِ الصُّورُ الممثَّلةُ مِن داخلِهِ وخارجِهِ، ورجع الحقُّ إلَى نصابه، وعاد شارد الدِّين بعد ذهابه، ودخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- البيت، وصلَّى داخل الكعبة ركعتين، كما سنذكره في استقبال القِبلة، إن شاء الله تعالَى، وهاهنا تنبيهٌ جيِّدٌ قويٌّ:
وهو أنَّهُ لمَّا كانَ أصلُ وضع الكعبة علَى اسم الله وحدَه لا شريكَ له، كما قالَ تعالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}(الحج:29)، وكذلك بيت المقدس وُضعَ بعده بأربعين سنة، كما في الصَّحيحين عن أبي ذرٍّ مرفوعًا، إلى أن قال ابنُ كثير -رحمه الله-: "والمقصودُ أنَّ كلَّ معبدٍ وُضعَ أوَّلاً علَى التَّوحيدِ فالصَّلاةُ فيهِ مشروعةٌ، ولا يضرُّ ما كان فيهِ مِن الأشياءِ المكروهة المنهيِّ عنها؛ لأنَّ المؤمنَ لا يلتفت إليها، وإنَّما قصدُهُ الصَّلاة في هذه البقعةِ المشروع الصَّلاة فيها بالأصل. فأماّ ما وُضعَ أوَّلاً علَى الشِّرك كالكنائسِ، والمعابد المتَّخذة أوَّلاً لغير مقصدٍ شرعيٍّ، فهذه لا يُصلَّى فيها، ولا يُقامُ فيها، كما قالَ تعالَى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}(التوبة:108) الآية. أهـ كلام ابن كثير.
وبهذا يُعلم أنّه لا أثرَ لإدخال حجرة عائشة -رضي الله عنها- في المسجد، وفي الحجرة قبرُه -صلى الله عليه وسلم-، لا أثر لذلك على فضيلة مسجده -صلّى الله عليه وسلّم-، ففضله بعد إدخال الحجرة فيه كفضله في حياته -صلّى الله عليه وسلّم-، وبعد وفاته، قبل إدخال الحجرة، فلم تزل الصّلاة فيه -ولا تزال- بألف صلاة فيما سواه، إلّا المسجد الحرام.
وبهذا يبطلُ احتجاج بعض القبوريين على صحّة الصّلاة في مساجدهم بوجود الحجرة التي فيها القبر الشّريف في مسجد الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم-، زاعمين أنّ هذا يقتضي أن يكون قبر النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في المسجد، والعلماء يقولون: إنّ إحاطةَ المسجدِ بالحجرةِ لا يلزمُ منهُ أن تكونَ البقعةُ التي فيها القبر مِن المسجد؛ ولو فُرِضَ أنّ البقعةَ صارت مِن المسجد، وصار القبرُ في المسجد، فهذا لا أثر له في حكم الصّلاة في مسجده -صلّى الله عليه وسلّم-؛ لأنّه مؤسَّس على التّقوى، فلا يضرّه ما أُحدث فيه، حتى ولو اعتدى ظالمٌ فدفن في مسجده -صلّى الله عليه وسلّم- ميتًا، فذلك لا يمنع من الصّلاة فيه، ولا يقدح في فضيلته،كما تقدّم بيانه، ووجههُ ظاهرٌ، كما في النّقل عن الإمام "ابن كثير"، والله أعلم. وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, حرر في: 1435/6/14 هـ

أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك