الرئيسية/فتاوى/الهدى والضلال في مباحث القدر
share

الهدى والضلال في مباحث القدر

السؤال :

فضيلة الشيخ: قال تعالى في سورة النساء: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:٨٨].

قالَ أحدُ المفسِّرين معلقًا على قوله: وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً: "وهذا الإضلالُ هو إضلالٌ جزائي، وليس إضلالًا ابتدائيًّا، وهو مبنيٌّ على ضلالهم الاختياري؛ كما في قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، أي: أنَّهم لما ضلّوا بعد أن عرفوا الحقَّ وأصرُّوا على الضَّلال، طبعَ اللهُ على قلوبهم جزاءً لهم؛ فمَن يهديهم إذًا؟!".

وقولُه هذا تكرر أيضًا في الآيات التالية: النساء:143، المائدة:41، الأنعام: 39، الأنعام:125، الأعراف:178، الأعراف:186، التوبة:115، الرعد:33، النحل:37، الإسراء:97، الزمر:23، غافر:34، الشورى:46، الجاثية:23.

وقد علَّق أحدُ الباحثين على هذا القول فقالَ: "هذا القولُ قولٌ خطأٌ؛ وهو معتقدُ كثيرٍ مِن الفرق الضَّالة، ومنهم المعتزلة، والصَّواب أن يُقال: وهذا الإضلالُ هو إضلالٌ جزائي وابتدائي، وهو مبنيٌّ على ضلالهم الاختياري؛ كما في قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، أي: أنَّهم لما ضلوا بعد أن عرفوا الحقَّ وأصرُّوا على الضَّلال، طبعَ الله على قلوبهم جزاءً لهم؛ فمَن يهديهم إذًا؟!".

فما رأي فضيلتكم في ذلك أفيدونا حفظكم الله؟

 

الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإنَّ إضافة الهدى والإضلال إلى الله كثيرٌ في القرآن، ومنه ما ذُكرَ في السؤال، مِن سورة النساء وغيرها، وهذه مسألة مِن المسائل الاعتقاديَّة التي اختلفت فيها أقوالُ الطَّوائف [1] ، وهي مِن المسائل المتفرعة عن القدر، فالمثبتون للقدر يُثبتون عموم المشيئة وعموم القدرة لله [2] ، وذلك يشملُ أفعاله تعالى وأفعال عباده [3] ، وشواهد ذلك في القرآن كثيرة، ومِن ذلك الهدى والإضلال، وهو سبحانه يهدي مَن يشاء ويُضلّ مَن يشاء، كما أنَّه تعالى يخلقُ ما يشاء، ويبسطُ الرزق لِمَن يشاء ويقدر، ويهبُ لِمَن يشاءُ إناثًا، ويهبُ لِمَن يشاءُ الذكور، ويؤتي الملك مَن يشاء، وينزعُ الملك ممَّن يشاءُ، ويعزُّ مَن يشاءُ، ويذلُّ مَن يشاءُ.

وقد جعلَ الله لأفعاله في عباده أسبابًا هي بمشيئته وقدرته، ومِن ذلك الهدى والإضلال [4] ، فإرسالُ الرّسل وإنزال الكتب أعظمُ سببٍ لهدى مَن شاء الله له الهداية، وإبليس وذريته أعظمُ سبب لإضلال مَن شاء الله إضلاله، ولهذا يضافُ الإضلال إلى الشيطان لأنه سبب الضلال، قال تعالى: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:60]، وأخبرَ عن الشيطان أنَّه قال: وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ[النساء: 119]، كما أضيف الهدى إلى سببه، وهو الرَّسول والقرآن، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]، وقال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، وقال: قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ [المائدة: 15-16]، وأخبر عن الجن أنهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: 2].

والآيات الواردة في الهدى والإضلال على نوعين:

أولهما: ما يدلُّ على أنَّ ذلك مردود إلى محض المشيئة، كقوله تعالى: يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [النحل: 93، فاطر: 8]، وقوله: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]، فمثلُ هذه الآيات ليس فيها الإحالة على سبب مِن العبد.

الثاني: ما رتبَ مِن الهدى والإضلال مِن الله على فعل العبد، مِن إعراضه وإصراره أو عناده، أو مبادرته إلى التكذيب، كقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110]، وقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، وقوله: ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم [التوبة: 127]، وقال في الهدى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17]، وقوله: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76]، فهذا الهدى والإضلال ظاهر أنّه على وجه المجازاة ثوابًا وعقابًا، ولهذا قال بعضُ السَّلف: "مِن ثواب الحسنة: الحسنةُ بعدها، ومِن عقوبة السيئة: السيئة بعدها"  [5] .

 ولكن مع ذلك لا نقول: إن كلَّ حسنةٍ ثوابٌ لحسنة قبلها، ولا كل سيئةٍ هي عقوبة على سيئة قبلها؛ فإنّ ذلك يحتاج إلى دليل يفيد هذا العموم والإطلاق، كذلك لا ينبغي أن يُدَّعى أنَّ كلَّ إضلال هو عقوبة على ضلال قبله، وكلَّ هدى مِن الله هو ثواب على اهتداء مِن العبد؛ فإنَّه تعالى يفعلُ ما يشاء بسبب وبغير سبب، وهو على كلّ شيء قدير، وقد حاول ابنُ القيم -رحمه الله- أن يجعلَ كلَّ إضلال هو جزاءً على سبب من العبد، وأطنبَ في ذلك، وعقد له فصلًا في كتابه "شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل" [6] ، وتعرَّض له أيضًا في كتابه "الصواعق المرسلة" [7] ، ولم يظهر لي ما حاول ابن القيم التوصل إليه، وكذا يظهر هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية [8] ، والمفسِّر المذكور في السؤال جرى على هذه الطريقة تأثرًا بهما تبعية، أو اتفاقًا. 

والذي أقوله: إنَّه لا أنفع للعبد في هذا المقام مِن التَّسليم لمشيئة الله وحكمته؛ فإنَّ مردَّ الأمرِ كلِّه في هذا الباب وغيره إلى الإيمان بمشيئة الله وقدرته وحكمته، وهي مدلول أسمائه تعالى الثلاثة: العليم، والحكيم، والقدير.

ولهذا يقول أهلُ السُّنَّة: إنَّ الله يهدي مَن يشاء بفضله وحكمته، ويضلُّ مَن يشاء بعدله وحكمته، وهو تعالى أعلمُ حيث يجعل فضله ويجعل عدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]، ومن الآيات المتضمّنة لهذا المعنى قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:68-69]، وقوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7-8]، وقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56].

وبعد؛ فأقول: إنَّ جميع الآيات الواردة في السؤال مما فيه إسناد الإضلال إلى الله ليس فيها ما يدلّ على أنَّ هذا الإضلال مجازاة؛ فالإضلال فيها محتمِلٌ أن يكون مجازاة أو غير مجازاة، فجزمُ صاحب التَّفسير أنَّ كلَّ هذه الآيات الإضلالُ فيها مجازاة يحتاجُ إلى دليل، كما تقدَّم، إلا أن يكون حمَل هذه الآيات المجملة على الآيات الأخرى التي وقع فيها التصريح بالمجازاة؛ كقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5].

وأما قول المعترض: إنَّ الإضلال في هذه الآيات هو إضلال جزائي وابتدائي، فهو أقرب إلى دلالة لفظ الآيات؛ لما فيها مِن الإجمال، لما تقدَّم، ولكن يبقى الحكم بين المفسر والمعترض، وهذا لا يتأتى إلا بعد تحرير القول في إضلال الله لِمَن شاء؛ هل يكون ابتداء بمحض المشيئة، أو لا يكون إلا مجازاة بمشيئته سبحانه، وهذا ما سبقت الإشارة إليه في كلام ابن القيم وشيخ الإسلام، وأنَّ الإضلال مِن الله لا يكون إلا جزاء على فعل مِن العبد كان سببًا في إضلاله، وما ظهر لي جليًّا ما حاول ابن القيم وشيخُه تقريره، كما أشرت إلى ذلك فيما سبق.

وعندي أنَّه يرد أمران على قول مَن قال: "إنَّ كلَّ إضلال مِن الله هو عقوبةٌ مِن الله على سبب مِن العبد على ضلال العبد":

الأول: أنَّه يلزم مِن ذلك أنَّ الله يعاقبُ العبد على لازم عقوبته.

الثاني: ألا يكون لأول إضلال سبب مِن فعل العبد، فلا يكون عقوبة، وقد حاول الإمامان الجواب عن هذا الإشكال، ولم يتعرضا للإشكال الأول، وإليك نصَّ كلامهما في هذا الإشكال.

قال ابنُ القيم بعدما ذكر أنَّ كلّ إضلال هو عقوبة على ذنب: "بقي أن يقال في الكلام: فالذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ فيقال: هو عقوبة أيضًا على عدم ما خلق له وفطر عليه؛ فإن اللّه سبحانه خلَقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطَره على محبته وتألهه والإنابة إليه…، فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة اللّه وعبوديته والإنابة إليه، عوقب على ذلك بأن زَيَّن له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي" [9] ، إلى أن قال: "فإن قلت: فذلك العدم من خلَقه فيه؟ قلت: هذا سؤال فاسد، فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به؛ فإن عدم الفعل ليس أمرًا وجوديًا حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الرب تبارك وتعالى، كما قال النبي -صلى اللّه عليه وسلم- في حديث الاستفتاح: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك [10] »" [11] ، إلى أن قال: "فإن قلت: هذا الترك إن كان أمرًا وجوديًا عاد السؤال؛ وإن كان أمرًا عدميا فكيف يعاقب على العدم؟ قلت: ليس هنا تركٌ هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه، فهذا قد يقال: إنه أمر وجودي، وإنما هنا عدم خلو عن أسباب الخير، وهذا العدم ليس بكف للنفس ومنع لها عمَّا تريده وتحبه، بل هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها. والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل" [12] ، إلى أن قال: "فإن قلت: هل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده، من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له، أو ذلك محضُ جَعْلِه في قلوبهم؟ قلت: لا، بل هو محض منته وفعله [كذا، ولعلها: فضله]، وهو من أعظم الخير الذي هو في يده، والخير كله في يديه، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه. فإن قلت: فإذا لم يَخلق ذلك في قلوبهم، ولم يوفقوا له، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم، عاد السؤال: وكان منعهم منه ظلمًا، ولزمك القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، قيل: لا يكون بمنعه سبحانه لهم من ذلك ظالمًا، وإنما يكون المانع ظالمًا إذا منع غيره حقًا لذلك الغير عليه؛ وهذا هو الذي حرَّمه الرب على نفسه، وأما إذا منع غيره ما ليس حقًّا له، بل محضُ فضلِه ومنته عليه، لم يكن ظالمًا بمنعه" [13] .

وقالَ شيخُ الإسلام: "وما ذكرنا يوجبُ أن يكون الله خالقُ كلّ شيء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدمُ لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركًا، والشيطان مسلَّط عليه، ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل، ولهذا يقول تعالى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 105]"  [14] .  

وحاصلُ ما تضمَّنه كلامُ الشيخين أن كلَّ ذنب هو عقوبة على ذنب قبله، لكن يبقى الذَّنب الأول، فقالا: إنَّه عقوبة على أمر عدمي، وهو عدم قيام المكلَّف بما تقتضيه الفطرة من التوحيد والإخلاص، فتسلَّط عليه الشيطان لعدم إخلاصه، وإنما يعصم الله مِنْ تسلَّط الشيطان مَنْ أخلص له، كما قال في شأن يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ [يوسف: 24]، بكسر الصاد، على قراءة ابن كثير وغيره. [15]

وقد أخبرَ تعالى عن إبليس أنه توعّد بني آدم بالإغواء إلا عباد الله المخلِصين، وأورد الشيخان على هذا العدم سؤالًا عن فاعل هذا العدم؛ فقال في الجواب: إن هذا سؤال فاسد؛ لأنَّ العدم كاسمه ليس بشيء؛ فلا يتعلق به فعل، وعليه فهذا العدم لا يضاف إلى الله فعلًا، لكن سبب هذا العدم عدم تفضله تعالى بالتوفيق للعبد بقبول الحق والعمل بموجب الفطرة، وهذا التوفيق فضله تعالى يؤتيه من يشاء، وليس حقًّا للعبد على الله، بل هو محض الفضل منه تعالى، فلم يعاقَب المكلَّف على ما فعل من أفعاله التي خلق الله تعالى، وانتهى كلام الشيخين في تعليل ضلال الإنسان إلى هذه الغاية، وهي حرمان التوفيق، فيما وقفنا عليه.

ومع ما للشيخين من منزلة العلم والتَّحقيق فإنه لا يمتنع أن يورد عليهما أنَّ عدم التوفيق الذي هو فضل الله يعتبر سببًا في كل ذنب، كما يرد عليهما ما تقدَّم مِن العقوبة على العقوبة.

هذا، وقد جاءت آيات تدلّ على أنَّ أصلَ الهدى والإضلال هو سبْقُ كلمة الله في القدر السابق، فمَن سبقت له مِن الله كلمة الهداية اهتدى لدعوة الرسل، وانتفع بالآيات الكونية، ومَن سبقت له الكلمة مِن الله بالضلال لم يهتد ولم يؤمن، ولم تغن عنه الآيات؛ فمن النوع الأول قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101]، وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-173].

ومن النوع الثاني: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ[يونس: 96-97]، وقوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [يس: 7-10]، فظهرَ مِن هذه الآيات أنَّ مَن أراد الله هدايته فشرح صدره للإسلام، فهو الذي سبقت له مِن الله كلمته الحسنى، ومَن أراد إضلاله فجعل صدره ضيقًا حرجًا فهو الذي حقَّ عليه القول في سابق علم الله وكتابه أنَّه لا يؤمن، فتبيَّن أنَّ أصل الهدى والاهتداء والضَّلال والإضلال هو حكم الله وقضاؤه السابق، وإن ترتبت هذه الأمور على أسباب، كما تقدَّم في سبب الهدى والضلال، ولابدَّ في ذلك كله مِن الإيمان بحكمته تعالى في جميع أحكامه الكونيَّة والشرعيَّة، لا معقّب لحكمه ولا راد لقضائه، وبذلك تحصل السلامة، ويتحقق التسليم والتعظيم لربّ العالمين، إنَّ الله حكيم عليم، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]. هذا ما تيسر في الجواب، والله أعلم بالصَّواب، ونسأله تعالى أن يهدينا لما اختلف فيه مِن الحق بإذنه؛ إنَّه يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أملاه :

عبد الرَّحمن بن ناصر البراك

في يوم الإثنين 10 رمضان 1441 هـ

 


 

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 ينظر: شفاء العليل (ص169) ، و(ص181) ط. دار التراث.
2 ينظر: المصدر السابق ص63، وما بعدها.
3 ينظر: مجموع الفتاوى (8/11) وما بعدها.  
4 ينظر: مجموع الفتاوى (8/68) وما بعدها.
5 ذكره ابن كثير في مواضع من تفسيره (2/146) و(4/192) و(7/204) و(8/417)، وكرره ابن القيم في كثير من كتبه. ينظر: الداء والدواء (ص139)، وطريق الهجرتين (ص486)، وضمّنه كلامه في مدارج السالكين (1/ 184)، والفوائد (35)، ونسبه شيخ الإِسلام في مجموع الفتاوى (10/ 11) إلى سعيد بن جبير. وينظر: مجموع الفتاوى (15/246)، و(18/177).
6 ينظر: شفاء العليل (ص181).
7 ينظر: مختصر الصواعق (ص600) وما بعدها، ط. أضواء السلف.
8 ينظر: مجموع الفتاوى (8/222)، (18/177) وما بعدها.
9 مختصر الصواعق (2/602).
10 أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء، في صلاة الليل وقيامه رقم (771) من حديث علي رضي الله عنه.
11 مختصر الصواعق (2/603).
12 المصدر السابق (2/605).
13 المصدر السابق (2/605).
14 مجموع الفتاوى (8/223).
15 ينظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (2/ 295).