الحمد لله؛ مِن المعلوم أنّ القرآن حين أُنزِل على النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يتلقَّاه -عليه الصَّلاة والسَّلام عند الوحي به إليه بحرصٍ شديد ليحفظه، حتى كان يُحرّك لسانه استعجالًا لحفظه، فنهاه اللهُ عن ذلك: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16]، وقال سبحانه: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114].
وقد وعدهُ الله أن يجمعه في صدره، وأن يقرأه الملَك، فإذا قَضى الملَك: اتبعَ الرَّسولُ -صلّى الله عليه وسلّم- قراءته، وقد حفظ ما أُلقي إليه؛ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18]، ثم إنّ الله يُبين له معانيه: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19]، وبعد ذلك يقرؤه الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على مَن حضره مِن المسلمين ليأخذوه عنه ويهتدوا به، بل يقرؤه كذلك على مَن حضره مِن الكفار لينذرهم به، ويقيم الحجّة به عليهم.
وكان المسلمون بمكة يحفظون ما نزل مِن القرآن عن ظهر قلب في الغالب، وربما كتب بعضهم، وقد كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُملي على بعض أصحابه ما نزل، حتى يقول: (ضعْ هذه الآية في السّورة التي يذكر فيها كذا وكذا(.
فكان مِن الصَّحابة مَن عُرف بكتابة القرآن في مكة ثم في المدينة، كما كان منهم مَن عُرف بحفظ القرآن، وكلهم يتنافسون في حفظ القرآن وفهم معانيه.
ثم كان التَّابعون فتعلّموا القرآن مِن الصّحابة؛ ألفاظَه ومعانيَه، كما أخرج ابن جرير في تفسيره: عن أبي عبد الرحمن السّلمي قال: “حدّثنا الذين كانوا يُقْرؤوننا أنهم كانوا يستقرئون مِن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يُخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها مِن العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا”.
فمضى المسلمون جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر على الاجتهاد في حفظ القرآن؛ حفظًا في الصدور وكتابة في المصاحف، وكان حفظ القرآن أولَ علومهم، وأولَ ما يُعَلِّمون لصبيانهم، حتى وصل إلينا غضًّا طريًّا بريئًا مِن التَّحريف والتّبديل، مصداقًا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
وكانت وسيلتُهم في حفظ القرآن وصيانته عن النسيان: الإكثار مِن تلاوته ومدارسته، وبهذا يحصل تعاهد القرآن الذي أوصى به النَّبيُّ -صلّّى الله عليه وسلّّم- أمَّته بقوله: (تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصِّيا من الإبل من عقلها)، وكفى بهذا سببًا لثبات القرآن في صدور الحافظين شبابًا وشيبًا، رجالًا ونساءً، وقد أغنانا الله بما وصَّانا به نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم- عن كل ما يُخترع وسيلةً للحفظ بزعم الزاعمين.
وفي هذا العصر -خاصَّة- أفرط النّاسُ في ابتكار طرائق لتوضيح معاني الكلام، ومدارُها على الصّور التي يجعلونها ترمز إلى ما يتضمّنه الكلام، وجعلوا ذلك مِن وسائل التّعليم والتّفهيم، ثم جاء آخرون فتوسعوا في ذلك، وشملوا به ما يَرد في الدّروس والمواعظ مِن الآيات والأحاديث، فكأن هؤلاء -حسب ما صنعوه- لا يعقلون معاني ما يسمعون أو يقرؤون مِن الكلام إلا بهذه الرّسوم التي حقيقة الأمر فيها اللهو بها عن فهم مدلول العبارات والكلمات، بل فوق ذلك أنها كثيرًا ما تُفهِم النّاظر خلاف المراد من الكلام في نصوص الوعد والوعيد، إذن: فنتيجة هذه الرسوم عكسيّة، أي: عكس ما يزعمه المهتمون بها والمعظمون باتخاذها طريقًا للتّفهيم والتّعليم.
إذا علمتَ ما تقدَّم: فآخرُ ما بلَغنا مِن هذه الطرائق المحدثة ما سموه بـ “الخرائط الذهنيّة”، كما ورد في السؤال، وظاهر هذه التّسمية -خرائط ذهنية- أي: أنّ الحافظ يتخيّلها رسومًا محضة في ذهنه، وليس لها في الخارج حقيقة، وقد لوحظ في الأوراق المتضمّنة لشرح هذه الطّريقة أنّها قد رُسمت بخرائط حسيّة، ويُلاحظ في هذه الخرائط أنّ المربعات التي كتبت فيها أسماء السور وتتفرع منها الأغصان: قد اشتملت على أنواع مِن الصور، مِن صورة حيوان: كالعنكبوت في سورة العنكبوت، والنّملة في سورة النمل، ونبات في سورة النحل، وصورة إنسان في الأعراف وجزء عم، إلى غير ذلك.
ولا ندري لِمَ لمْ يلتزموا بمنهجهم؟! فلم يرسموا صورة بقرة في مربع سورة البقرة، ولا نحلةٍ في مربع سورة النحل، ولا إبلٍ وغنمٍ في مربع في سورة الأنعام، ولا مائدةٍ في سورة المائدة، إلى غير ذلك مما لم يطرد فيه منهجهم، وهو كثير، ولا ندري كيف يستحضر مَن يُلِمُّ بهذه الخرائط ما تشير إليه تلك الأغصان ذوات الألوان المختلفة التي جُعل كُل غصنٍ منها رمزًا لمجموعة مِن الآيات المتضمنة لموضوعات السّورة المختلفة، حسب تصور الرّسام وفهمه للآيات.
وكيف يكون ذلك وسيلة لحفظ القرآن؟ هل معنى ذلك أن يتوقف عند ابتداء كلّ سورة، فيفكر في تلك الخرائط وما ترمز إليه؟ عجبًا! كيف يكون التّوقف والتفكّر والتّخيل لهذه الخرائط سببًا لحفظ القرآن؟! بل الظّاهر والواقع أنّ ذلك عائق عن متابعة التّلاوة، فضلًا عن حفظ القرآن.
ولا نسهب في القول؛ فالذي ظهر لنا: أنّ هذه الخرائط الذّهنية لحفظ القرآن بدعةٌ منكرةٌ تشغلُ الفكرَ عن التّعبّد بالتّلاوة والتّدبّر للآيات، وتشغل الذّهن عن تذكر الآيات التي تنساق تترى في صدور الحافظين، وتجري على ألسنتهم في غاية اليُسر، قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان:58]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
ويُخشى إن تمادى الأمر بأصحاب الخرائط الذّهنيّة أن يطبعوا مصحفًا قد رُسمت بهوامشه هذه الخرائط، فتعظُم المفسدةُ، كما فعل بعضهم حين أصدر مصحفا ملوّنًا بألوان حسب الموضوعات، وقد كَتبتُ في ذلك فتوى بتحريمها صدرت في 22 ذي القعدة 1435هــ
وبعد؛ فاتقوا الله يا مَن تنتسبون إلى العناية بالقرآن حفظًا وتلاوة وتفسيرًا أنْ تغلوا فتستحسنوا ما يستحدثه بعضُ المتكلّفين والمتنطّعين مِن طرائق التّعليم، التي هي إلى الصدّ عن المقصود أقربُ منها لتحقيق المقصود، ومعلوم أنّه ليس كلّ جديد مفيدًا ولا محمودًا، وما حدا بأهل البدع في الدين إلا ما يرونه من التّجديد، لذلك كان تعلّقهم بما ابتدعوه أعظم من السنن التي ورثها المسلمون عن السلف الصالح.
هذا؛ ومما يزري بفكرة الخرائط الذّهنية ويزهد فيها: أن مخترعها نصرانيٌّ أو ملحد يُدعى “توني بوزان” إنجليزي الجنسيّة، فنحن في غنى هؤلاء، ومَن أراد حفظ كتاب الله: فليمض على ما جرت عليه الأمة من الإقبال على القرآن تلاوة ومراجعة ومدارسة وقراءة في الصلوات، كما تقدّمت الإشارة إليه. نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويهدينا سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
أملاه :
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك
في يوم الخميس السابع عشر من ذي الحجة 1436هــ