الرئيسية/فتاوى/مقولة أنه لم يتصد للفلسفة سوى الغزالي وابن تيمية
share

مقولة أنه لم يتصد للفلسفة سوى الغزالي وابن تيمية

السؤال :

ما مدى صحّة القول بأنّه لم يتصدَّ للفلسفة ولم ينتقدها ويقف منها موقفًا مضادًا سوى "الغزالي وابن تيمية" رحمهما الله؟ ولِمَ اشتهرَ هذان العَلمان في هذا المجال؟ وهل كان للمنطق والفلسفة اليونانيّة أثر في إضعاف الخرافة والدّجل التي وجدت عند بعض المسلمين؟

الحمدُ لله والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمّا بعد:
فالأغلب أن يُراد بالفلسفة -عند الإطلاق- الفلسفة اليونانيّة؛ لأنّها التي انتقلت إلى المسلمين بترجمة كتب أعلامهم، ومِن أشهرهم: "سقراط، وجالينوس، وبطليموس، وفيثاغورس، وأفلاطون، وأرسطو، وأفلاطين" والفلاسفة الإسلاميون يسمّون أرسطو "المعلم الأوّل".
وأصل معنى الفلسفة: محبّة الحكمة، والفيلسوف: محبّ الحكمة، ومدار الفلسفة اليونانّية على ثلاثة أنواع: الفلسفة الرياضيّة، والأخلاقيّة، والإلهية، ويسمَّى الخائضون في الفلسفة الإلهّية: "الإلهيين"، ويذكر ابن القيم -رحمه الله- أنّ الفلاسفة فرق، وأن المعتنين بمقالات النّاس أحصوا منهم اثنتي عشرة فِرقةً.
وأقول: إنّه تولّد عن الفلسفة علمُ الكلام الذي انتحله كثير مِن فرق المسلمين، فخلطوا بين الأصول الفلسفيّة والأصول الشّرعيّة، ولاسيما في العلم الإلهي المتعلّق بذات الربّ وصفاته؛ فنشأ عن ذلك مذهب "المعطّلة" مِن الجهميَّة والمعتزلة ومَن تبعهم، واشتهر عن أئمة السّلف الرّد على هؤلاء؛ لأنّ هذه المذاهب الكلاميّة هي التي اشتهرت في وقتهم، وأقوال الأئمة ومصنفاتهم في الرّد على "المعطّلة" مشهورة، ومِن أشهر الكتب في ذلك: كتابا عثمان بن سعيد الدارمي، وهما: "الرّد على الجهميّة، والرّد على بشر المريسي"، ومنها: ردّ الإمام أحمد على الجهميّة والزّنادقة.
ومع تأثّر المتكلّمين ببعض أصول الفلاسفة فإنّهم يردّون عليهم فيما خالفوهم فيه؛ كقولهم بقدم العالم، وإنكار بعث الأجساد، وزعمهم أنّ البعث روحاني، وأشهر مَن عُرف بالرّد على الفلاسفة مِن أهل الكلام: أبو حامد الغزالي، المعروف "بحجّة الإسلام"، في كتاب سمَّاه "تهافت الفلاسفة"، ومما قصد الرّد عليه كتاب "الشفاء" لابن سينا، ولكن الغزالي -رحمه الله- لم ينجح في هذا الرّد، ولم يسلم مِن التّأثر بهم، لذلك ردَّ عليه ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت"، وقيل عن أبي حامد: "أمرضه الشفاء"، وقال تلميذه أبو بكر بن العربي: "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر".
وأقول: إنّه ذُكر عن أبي حامد أنّه رجع في آخر عمره عن النّظر في هذه العلوم، وأقبل على علم الحديث، حتى قيل: إنّه مات وصحيح البخاري على صدره، وذكر ابن كثير في ترجمته في "البداية والنهاية" أنّ أبا حامد عاد إلى بلده "طوس" فأقام بها وابتنى رباطًا، واتخذ دارًا حسنة، وغرس فيها بستانًا أنيقًا، وأقبل على تلاوة القرآن، وحفظ الأحاديث الصّحاح.
وقد انتحل الفلسفة اليونانية طائفتان مِن الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام؛ إحداهما: مِن باطنية الشّيعة، وإمامها الرّئيس أبو علي ابن سينا، والثّانية: طائفة الاتحاديّة مِن ملاحدة الصّوفيّة، وزعيمها ابن عربي صاحب "فصوص الحكم"، وقد عظمت الفتنةُ بهاتين الطّائفتين، وصار لإماميهما أتباعٌ ومعظّمون مِن أهل نحلتهم وغيرهم.
ولكن مِن رحمة الله بهذه الأمة، وتحقيقا لِمَا وعد به مِن حفظ دينه وكتابه: أن قيّضَ اللهُ في القرن السّادس والسّابع الإمام ابن تيمية، وقد حباه الله مِن الذكاء والفطنة والعقل الكبير مع سعة الاطلاع وقوة الحافظة ما عرفَ به حقيقةَ هذه المذاهب الكلاميّة والفلسفيّة والصّوفيّة، إضافة إلى ما أكرمه الله به مِن معرفة حقيقة الإسلام الذي بعث الله به محمدًا -صلّى الله عليه وسلّم-، ومعرفة ما مضى عليه السّلف الصّالح والتّابعون وأئمة الهدى مِن هذه الأمة، فشمَّر الشّيخ للرّد على تلك المذاهب الباطلة بالحجج العقليّة والنقليّة، وميَّز بين المحققين مِن شيوخ هذه المذاهب في مذاهبهم وبين المخلّطين، وميَّز ما عند كلّ فريق مِن حقّ وباطل، مع العدل والإنصاف، ومما برز فيه -رحمه الله- في ردوده: أن ضرب بعضهم ببعض؛ فردَّ على كلّ طائفة بما ترد به على مخالفيها، وبما عند كلّ طائفة أو عَلَم منهم مِن التّناقض، فأوجب ذلك أن يُشهَد له بأن ليس له نظير في الرّد على تلك المذاهب، مع الاعتصام بالكتاب والسّنّة، والسّير على جادة السّلف الصّالح.
وقد تصدَّى له خصوم مِن أتباع هذه المذاهب، فردوا عليه وخاصموه لدى السّلاطين والأمراء، ووشوا به عندهم، فلم يظفروا بمطلوبهم، وأظهره الله عليهم، وجعل الله محبته في قلوب المؤمنين، ولم تظهر بعده حركة تجديد للدّين إلا ولعلمه الذي ورثَّه في مؤلفاته أثرٌ فيها، وأبرزُ حركات الإصلاح تأثرًا بمؤلفات الإمام ابن تيمية: دعوةُ الإصلاح التي قام بها الشّيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في القرن الثاني عشر، وفي هذا مصداق قوله -صلّى الله عليه وسلّم:
(إنّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمّة على رأسِ كلّ مائةِ سنة مَن يُجددُ لها دينَها) "رواه أبو داود من حديث أبي هريرة".
فعُلم مما تقدم أنّ أشهر مَن ردَّ على الفلاسفة هما العَلَمان: الغزالي وابن تيميَّة، لكن مع البون الشّاسع بين الرَّجلين في التّحقيق وفي العلم بالشّريعة وبالمذاهب، بل الغزالي هو ممن ردَّ عليهم ابنُ تيمية، وبيَّن ما في بعض كتبه مِن الأغلاط والأباطيل، وكلام الشّيخ عنه كثير، ومنه قوله: "أبو حامد كلامه برزخٌ بين المسلمين وبين الفلاسفة؛ ففيه فلسفة مشوبة بإسلام، وإسلامٌ مشوبٌ بفلسفة…، وكان يُعظِّم الزّهد جدًّا، ويعتني به أعظم مِن اعتنائه بالتّوحيد الذي جاءت به الرّسل" (كتاب النبوات 1/382)، وتقَدم ذكر ردّ ابن رشد على الغزالي، وما قاله ابن العربي عنه، وقول بعضهم فيه: "إنّه أمرضه الشفاء".
وأمّا ما سألتَ عنه -أيّها السائل- مِن إضعاف الفلسفةِ الخرافةَ والدّجلَ عند المسلمين: فهذا يُنظر فيه مِن جانبين؛ مِن جانب الواقع، ومِن جانب النّظر، فأمّا مِن جهة الواقع فالفلسفة والمنطق لم تضعف ما عند عوام المنتسبين إلى الإسلام مِن الخرافات العمليّة والظّنيّة، كخرافات الصّوفيّة مِن القبوريين وغيرهم، وكذلك الرّافضة، بل الفلسفة اليونانيّة جاءت وفي ضمنها خرافات عقليّة؛ فإنّهم يزعمون في كثير ِمن الأحيان أمورًا يدعونها معقولات، وهي جهليات مشبَّهة بالمعقولات، فإن نقلوا أحدًا مِن الخرافات السّائدة: نقلوه إلى نوع آخر مِن الخرافة، بل ربما رسَّخوا خرافة القبوريّة ببعض نظرياتهم الفلسفيّة.
وقد ذكر ابنُ القيم عن ابن سينا والفارابي وغيرهما مِن الفلاسفة في "إغاثة اللهفان" فلسلفة أثر الزّيارة الشّركية للقبور على الزائر، وأنّهم شرطوا للانتفاع بهذه الزّيارة أن يُقبل الزّائرُ بكلّيَّته على المزور المعظَّم، قال ابن القيم رحمه الله: "قالوا: الميت المعظَّم الذي لروحه قربٌ ومزيَّة عند الله، لا تزال تأتيه الألطاف مِن الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علّق الزائرُ روحه به، وأدناها منه، فاضَ مِن روح المزور على روح الزائر مِن تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشّعاع من المرآة الصّافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمامُ الزيارة: أن يتوجّه الزائر بروحه وقلْبه إلى الميت، ويعكُف بهمَّته عليه، ويُوجِّه قصده كلّه وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفاتٌ إلى غيره، وكلما كان جمعُ الهمّة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به". ثم قال ابن القيم: "وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه: ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرّح بها عُبّاد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النّفس النّاطقة بالأرواح العلويّة فاض عليها منها النّور، وبهذا السّر عُبدت الكواكب، واتُّخذت لها الهياكل، وصُنّفت لها الدعوات" اهـ مِن إغاثة اللهفان (1/393) ط. عالم الفوائد.
أمّا مِن الجانب النّظري: فقد يُظنّ أنّ الفلسفة تقاومُ الخرافة السّائدة عند الصّوفية والرّافضة ونحوهم؛ لأنّ المظنون أنّ الفلسفة تعتمد نظر العقل، وأنّ الخرافة مبناها على الوهم والتّقليد؛ كما قال تعالى في المشركين: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ، وقال: وإِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ [الزخرف:23]، وقد تقدّم أنّ الفلسفة قد تنقلهم مِن نوع مِن الخرافة إلى نوع آخر، نعوذ بالله مِن الخذلان، ونسأله العافية في الدّنيا والآخرة. 

أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك

في: 28 ربيع الثاني 1438هـ