الرئيسية/المقالات/حكم الاختلاط الذي يدعو إليه الكفار والمنافقون والذين يتبعون الشهوات
sharefile-pdf-ofile-word-o

حكم الاختلاط الذي يدعو إليه الكفار والمنافقون والذين يتبعون الشهوات

 

حكم الاختلاط الذي يدعو إليه الكفار والمنافقون والذين يتبعون الشهوات

 
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه، أمَّا بعد:
فإنّ هذه الدّنيا زاخرةٌ بالفتن التي يبتلي بها الخلقُ ليميزَ الله بها الخبيثَ مِن الطيب ويتبيَّن مَن يكون أحسن عملاً، ومِن الفتن: فتنُ الشَّهوات التي جُبِلَ النَّاسُ على محبَّتها، وأعظمها خطرًا على الرّجال فتنةُ النّساء؛ قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]
وفي الصَّحيح عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال:
(ما نزلتْ بعدي فتنةٌ أضرّ على الرّجالِ مِن النّساء) وقال: (فاتَّقوا الدّنيا واتّقوا النّساء فإنّ فتنةَ بني إسرائيل كانت في النّساء).
وغايةُ الرّجال مِن النّساء الاستمتاعُ منهن، وقد أباح الله مِن ذلك ما لابد منه لقيام أمر هذه الحياة ويحقق المصالح الدّينيَّة والدّنيويَّة كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] وقال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء:3]
وقال صلّى الله عليه وسلّم:
(يا معشرَ الشَّبابِ مَن استطاعَ منكمُ الباءَة فليتزوَّج فإنّه أغضُ للبصرِ وأحصنُ للفرج).
وقد حرَّمَ تعالى تجاوزَ ما أباح إلى ما حرم، فحرَّمَ الزّنا وأمر بحفظ الفروج؛ قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31]. وقال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. فنهى سبحانه عن قربان الزّنا، وهذا أبلغ مما لو قال "ولا تزنوا" والنَّهي عن قربان الزّنا نهيٌ عن طرقه ووسائله وأسبابه المفضية إليه، وغلَّظ سبحانه تحريمه بأن أخبر خبرًا مؤكدًا بأنّه فاحشة، وأن سبيله سبيل سوء، فدلَّت الآية على شدّة تحريم الزنا مِن أربعة أوجه:
1- النَّهي عن قربانه .
2-    وصفه "بالفاحشة" وهي الفَعْلة المتناهية بالقبح .
3-    تأكيد ذلك بقوله "إنّه كان" .
4-    وصفه بأنه "سبيلُ سوء" .
فدلّ ذلك أنّ الزّنا مِن كبائر الذّنوب كما يدلّ على ذلك ترتيب الحدّ عليه جلدًا أو رجمًا، كما دلّ على ذلك الكتاب والسّنّة.
وقد اشتملت الشَّريعةُ على جملة مِن الأحكام المتضمّنة لسدّ الطّرق المؤدّية إلى هذه الفاحشة؛ فأمر -سبحانه وتعالى- المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر، وأمر المؤمنات بستر زينتهن، وبضرب خمرهن على جيوبهن، ونهاهن أن يفعلن ما يُعلم به ما يخفين مِن زينتهن، قال تعالى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31].
وسمّى النَّبيُّ -صلّى الله ليه وسلّم- نظر العين، واستماع الأذن، وبطش اليد، ومشي الرّجل، سمى ذلك كله "زنا" لأنّه وسيلة إليه، قال صلّى الله عليه وسلّم:
(كُتِبَ على ابنِ آدم حظّه مِن الزّنا أدركَ ذلك لا محالة؛ فالعينُ تزني وزناهُ النَّظر، والأذنُ تزني وزناهُ الاستماعُ، واليدُ تزني وزناهُ البطشُ، والرّجلُ تزني وزناه المشي، والقلبُ يهوى ويتمنّى، والفرجُ يصدّقُ ذلك أو يكذبه).
وليس قوله -صلّى الله عليه وسلّم-
(كُتِبَ على ابن آدم حظّه مِن الزّنا أدركَ ذلك لا محالة) تقريرًا وإباحة، بل هو خبرٌ عن الواقع، كقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لتتبعنّ سَننَ مَن كانَ قبلكم). وقد سُمّيت هذه الأفعال "زناً" لأنّها تؤدي إليه. وقد أجمع العلماء على تحريمها.
 
ونهى الله نساءَ نبيّه عن الخضوع في القول، وهو تليينُه وترقيقُه في مخاطبة الرّجال، وأمرهن بالقرار في البيوت، ونهاهن عن التّبرّج تبرّج الجاهلية الأولى، قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:32-33] وحكمُ الآية يشملُ سائر نساء المؤمنين، فلفظُها خاصٌّ ومعناها عامّ .
ومِن الأحكام التي جاءت بها الشّريعة سدًا لذريعة الفاحشة: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبيّة؛ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم:
(ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشّيطانُ ثالثهما) وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا يبيتن رجلٌ عند امرأةٍ إلّا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم).
 ومِن هذه الأحكام: النَّهي عن سفر المرأة مِن غير محرم، كما ثبتَ في الصَّحيحين وغيرهما .
 وقد أخذ العلماء مِن هذه الأحكام: تحريم الاختلاط بين الرّجال والنّساء على وجه يتضمّن الوقوع في شيء مِن هذه المحرّمات؛ تحصيلاً لطهارة المجتمع المسلم وصيانته عن أن تشيع فيه الفاحشة وأسبابها.
وهذا الاختلاط المحرّم هو الذي يدعو إليه المستغربون والمتبعون للشّهوات الذين قال الله فيهم: وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27]
وكذلك "هيئة الأمم" و"هيئة حقوق الإنسان" التّابعة لها يطالبوننا بمعاملة المرأة المسلمة بما تُعامل به المرأة الغربيّة الكافرة مِن حيث حريّة التَّصرّف في نفسها بلا حدود ولا قيود، وهذه المطالبة في شأن المرأة مضمونها عدم إلزامها بالأحكام الشَّرعيّة في لباسها وفي عملها وفي علاقاتها ومدخلها ومخرجها، وفي قوامة الرّجل عليها، وهذا كلّه باسم حرية المرأة وحقوق المرأة، كما يزعمون.
ومِن المؤسف أن هذه الدّعوات والمطالبات قد حقَّقت قدرًا كبيرًا مِن أهدافها في بلاد الحرمين -المملكة حرسها الله- ولهذا صار الاختلاط المحرّم بين الرّجال والنّساء أمرًا مألوفًا في قطاعات كثيرة؛ كما في الصّحة، والإعلام، والخطوط الجويّة، وفي بعض قطاعات التّعليم، وحفلات التّخرج، وغيره. ومُهِّدَ له في قطاعات أخرى، وكذلك الشّركات والمؤسَّسات والبنوك في كثير منها قدر مِن الاختلاط، أو ما يُمهَّد له، ومِن أسوأ ذلك أماكن التّرفيه.

وما يحتجّ به دعاة الاختلاط أو المسوّغون له جهلاً أو مغالطة مِن الاختلاط في المسجد الحرام، فإنّ الأصل إفراد النّساء في مصلّيات خاصة بهنّ مِن المسجد، وطوافهن مِن وراء الرّجال، وما كان خلاف ذلك: فهو راجع إما إلى ضرورة كما في المواسم، وإما إلى سوء تصرف النّاس مِن الرّجال والنّساء، ولهذا يبذل القائمون على شؤون الحرم جهودًا في توجيه النَّاس وتخفيف مشاكل الاختلاط، والأمر يتطلّب جهودًا أكبر وعناية أكثر للقيام بالمزيد مما به صيانة المسجد الحرام عن المخالفات الشَّرعيّة بسبب الاختلاط أو غيره.
وأمّا الاختلاط في الأسواق: فغشيان الرّجال والنّساء لها لقضاء حوائجهم منها ليس للجلوس فيها، ومع ذلك يجبُ أن تصمم الأسواق والمحلات على صفة تمنع مِن مفاسد الاختلاط، كالتّزاحم، والخلوة مع الباعة، كما تجب مراقبة الأسواق لمنع ما يظهر فيها مِن منكرات، ومنع المتسيبين الفضوليين مِن الرّجال والنّساء. وهذه مسؤولية الحاكم الإداري والمحافظ وهيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر وأهل الغيرة النّاصحين.
فتبيَّن أنّ قياس الاختلاط الذي يُطالب به المنافقون والمستغربون وأصحاب الشّهوات على ما ذُكر في المسجد الحرام أو في الأسواق: قياسٌ فاسد، وهي مِن الشّبهات التي يتذرّع بها أصحاب الأهواء إلى ما يريدون.
وبعد؛ فيجبُ على ولاة الأمر الذين حملهم الله مسؤولية هذه الأمة أن يحموها مما يريده بها الأعداءُ في الدّاخل أو الخارج مِن المنافقين والكافرين، وقد قال تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ [البقرة:120]. وقال تعالى: وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27]
ومعلومٌ أنّ حفظ الدّين أوجبُ مِن حفظ النّفوس والأموال، نسأل الله أن يوفِّق ولاة أمورنا لِمَا يحبّ ويرضى، وأن ينصر بهم دينَه إنّه سميع الدّعاء. وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

قال ذلك:
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
في 20/جمادى الأولى/1429هـ