الرئيسية/فتاوى/حكم الترحم على الزمخشري والإفادة من تفسيره الكشاف
share

حكم الترحم على الزمخشري والإفادة من تفسيره الكشاف

السؤال :

يعلمُ فضيلتكم ما لتفسيرِ الكشَّاف  [1] مِن شهرة بين المفسِّرين، وأنَّ كثيرًا منهم يرجع إليه، كما لا يخفى عليكم عقيدةُ مؤلِّفِه الاعتزاليّة، وشدَّتِه على أهل السُّنَّةِ، حتى قال ابنُ حجرٍ الهيتمي  [2] : “الزَّمخشري حاملُ راية المعتزلةِ إلى النَّار”  [3] ، فهل ترون الترحُّمَ على الزّمخشري؟ وهل توصون بالرّجوع إلى الكشَّاف والإفادةِ منه، لا سيما في العربيَّة ؟

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1   المسمَّى بــ ” الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل”. نشرته “دار المعرفة” في لبنان عن نسخة مصورة، وعليها حاشية الجرجاني وابن المنيِّر، وإليها معظم إحالات الباحثين، وهناك نسخة أخرى نشرته “دار الكتاب العربي – بيروت” مذيلة بحاشية ابن المنير وتخريج أحاديث الكشاف للزيلعي بتحقيق الشيخ عبد الرزاق المهدي، وكلها مصورات عن طبعات قديمة، وصدرت طبعة أخرى أخرجتها مكتبة العبيكان بتحقيق الشيخين عادل عبد الموجود وعلي محمد معوض، في ستة مجلدات تمتاز بوضوح الخط.
2 ابن حجر الهيتمي – بالتاء المثنَّاة-: أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الشافعي المصري ثم المكي، أبو العباس، من كبار فقهاء الشافعية المتأخرين، له مؤلفات كثيرة منها: “الزواجر عن اقتراف الكبائر”، و”الصواعق المحرقة”، و”تحفة المنهاج شرح المنهاج” وغيرها، توفي سنة 973هـ. انظر في ترجمته: شذرات الذهب لابن العماد 10/542، والبدر الطالع للشوكاني 1/109
3 ينظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 1/ 167

الحمدُ لله وحده، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمَّد وصحبه، أمّا بعد:
فإنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّة والجماعة في الحكم على المقالات وأصحاب المقالات يقومُ على قولِه تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُو [الأنعام: 152]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون [المائدة: 8]
ولهذا فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ لا يقابلون طوائِفَ المبتدعةِ بالظّلمِ والعدوان، كما يفعلُ أولئك مع أهل السُّنَّة 
[1] ؛ عملًا بقوله تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُو [المائدة: 2]
وطائفةُ المعتزلة 
[2] هم ورثةُ الجهميّة  [3] حملوا عنهم بدعةَ التَّعطيلِ لصفاتِ الله، ونتجَ عن ذلك قولُهم بخلقِ القرآن، وهم مؤججو فتنة امتحان النَّاس بخلقِ القرآن، وبسببهم امتُحن أهلُ السُّنَّة، خاصةً الإمامُ أحمد  [4] ، فحازَ بسببِ صبره على المحنة لقبَ إمامِ أهلِ السُّنَّة، وقابلتِ المعتزلةُ الجهميَّةَ في باب القدر؛ فذهبوا إلى القول بنفي القدر، ونفي خلق أفعال العباد.
وهذا الشَّيخُ المسؤولُ عنه الزمخشري  
[5] عفا الله عنه، قد جمع بين البدعتين: التَّعطيل والقدر، أي نفي القدر، وقد أفرغَ في تفسيره “الكشاف” مضمونَ اعتقادِه؛ فأوَّلَ النّصوصَ المخالِفةَ له، أي نصوصَ الصّفاتِ ونصوصَ القدر، تأوَّلها بِمَا يتَّفق مع مذهبه في القضيتين  [6] ، مستعينًا بِمَا أوتي مِن براعةٍ في علوم اللسان العربي مِن نحوٍ وبلاغةٍ وعلمٍ بالمفردات  [7] ، وقد انصرفتْ عنايتُه في تفسيره مِن الجانب اللغوي إلى إبراز ما في القرآن مِن البلاغة مِن وجوه المعاني والبيان والبديع، وهذا أهم ما رفع مِن منزلة الكتاب، وصيَّره موردًا لكثير مِن المفسّرين مِن أهل السُّنَّة وغيرهم.  [8]
فعُلِم ممَّا تقدَّم أنَّ لتفسير “الكشَّاف” للشَّيخ محمود بن عمر الزَّمخشري وجهين: أحدُهما مُشرِقٌ، والآخرُ مُظلِمٌ، فالمشرِقُ ما فيه مِن بيانٍ لفصاحة القرآن وبلاغته، والمظلِمُ ما فيه مِن تحريف الآيات التي تُخالف مذهبَهُ في القدر والصّفات، وقد تعقبَّه في هذا بعضُ المخالفين له.  [9]
وقد ستر عيبَ هذا الكتاب أمران:
أحدُهما: قدرةُ المؤلِّف على التَّعبير الدَّقيق في تأويل النّصوص التي يَقصد إلى صرفها عن ظاهرها، فطوى تحت ذلك اعتزالياته في القدر والصّفات. 
[10]
 الثّاني: هو ما أُشير إليه مِن الوجه المشرق الذي جعل لتفسيره شهرةً بين كتب التَّفسير.
ومِن الإنصاف أن نعترف للزّمخشري في ثنائه على الصَّحابة خصوصًا أبا بكر وعائشة -رضي الله عنهما- 
[11] ، ورده على الرَّافضة في شأن عائشة، كما جاء ذلك في تفسير سورة النّور  [12] ، فعُلم مما تقدَّم أمورٌ: 
 1. أنَّ الزَّمخشري ليس مِن غلاة القدريَّة الذين كفَّرهم الأئمةُ.  [13]
2. أنَّه ليس مِن أهل الفجور، كبعض المعتزلة، بل هو ناسكٌ؛ لذلك آثر الجِوارَ عند البيت  [14] سنين، وفرح بذلك، وألَّف هناك تفسيره، كما نصَّ عليه في المقدّمة.  [15]
 3. أنَّه لم يُعرَف بمناوأة أحدٍ معيَّن ٍمِن أئمة السُّنَّة، فيما أعلم.
 4. أنَّه لا بأس بالرّجوع إلى تفسيره والإفادةِ منه فيما أجاد فيه، لكن لا ينبغي ذلك إلّا لِمَن له معرفة بعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، وخُبْرٌ بما تضمَّنه الكتابُ مِن مخالفات ليكون منها على حذر.
 5. جوازُ الترحُّمِ عليه ما لم يُظنُّ في ذلك تعظيمٌ له؛ لأنَّ مِن الدّعاء ما ينمُّ عن التَّعظيم، ولعلَّ الدّعاء بالعفو أبعد عن إفهامِ تعظيم الرّجل؛ فإنَّ الدّعاء بالعفو يُشعر بوجود مخالفات  [16] ؛ وبهذا يُعلم:
 6. أنَّ ما قاله ابنُ حجر الهيتمي في الزَّمخشري “أنَّه حاملُ لواء المعتزلة إلى النّار”، أن ذلك خطأ مِن الهيتمي عفا الله عنه، فإنَّ ذلك يتضمَّن الشَّهادةَ له بالنَّار، وأهلُ السُّنَّةِ لا يشهدون لمعيَّنٍ مِن أهل القبلة بجنَّةٍ ولا نارٍ، إلا مَن شهدَ له الله ورسولُه -صلّى الله عليه وسلّم-  [17] . عفا الله عن الهيتمي لهذه المقالة؛ فإنّها جرأةٌ على الغيب.
نسألُ اللهَ أن يهدينا صراطَهُ المستقيم، وأن يعصمنا مِن القول عليه بغيرِ علمٍ، إنَّه سبحانه سميعُ الدّعاء، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمَّد .

قال ذلك:
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
حرر في 13 جمادى الآخرة 1435هـ

 

 


الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 قال شيخ الإسلام ابن تيميـة: “والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم؛ كحال أهل البدع” منهاج السنة النبوية 4/ 337. وقـال الـذهـبـي فـي السير 8/448 “وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع”. وانظر كلامًا نفيسًا لشيخ الإسلام في درء التعارض 2/101 -103
2 المعتزلة: فرقة كلامية ظهرت في البصرة أول القرن الثاني على يد واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري؛ لابتداعه القول بأن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، مخالفًا بذلك قول الحسن وأهل السنة أنه مؤمن لكنه فاسق، وهم طوائف شتى يجمعهم: القول بنفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وأن العبد يخلق فعل نفسه، لهم أصول خمسة وهي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شرح هذه الأصول شيخهم القاضي عبد الجبار في كتابه: “شرح الأصول الخمسة”. ينظر: مقالات الإسلاميين 1/130، والملل والنحل 1/43، ومجموع الفتاوى 6/339 و13/97، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها 14 -19
3 الجهمية: هي طائفةٌ من المتكلمين، تُنسب إلى الجهم بن صفوان، نفت عن الله تعالى الأسماء والصفات وضلت في أبواب أخرى: كالقول بالجبر في القدر، والقول بفناء الجنة والنار، والزعم بأن الإيمان هو المعرفة فقط.. واشتهر إطلاق هذا الاسم على كل من عطّل صفات الرب سبحانه.  ينظر: مقالات الإسلاميين 1/219، ومجموع الفتاوى 3/354، وبيان تلبيس الجهمية 3/684 و5/365
4 ينظر في خبر المحنة: سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص 49 – 65 و84 – 95، وذكر محنة الإمام أحمد لابن عمه حنبل بن إسحاق ص33 وما بعده، وحلية الأولياء لأبي نعيم 9/ 196، ومحنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص5 وما بعده، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص416، والسير للذهبي 11/ 232، والبداية والنهاية لابن كثير 14/ 393، ولمدخل المفصل لبكر أبو زيد 1/374
5 الزمخشري: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي، كبير المعتزلة، صاحب المصنفات في التفسير والنحو واللغة وعلم البيان، منها: “الكشاف”، و”المفصل في النحو”، و”أساس البلاغة”، و”الفائق في غريب الحديث” وغيرها، ولد بزمخشر – قرية من عمل خوارزم – سنة 467 هـ، وسافر إلى مكة فجاور بها زمنًا فلقب بجار الله، ثم عاد إلى الجرجانية – من قرى خوارزم – فتوفي فيها سنة 538 هـ، وكان رأسًا في الاعتزال داعيةً إليه. انظر في ترجمته: وفيات الأعيان 5/ 168، وسير أعلام النبلاء 20/ 151
6 والمبتدع ليس له قصدٌ إلا تحريفَ الآيات وتسويتَها على مذهبه الفاسد بحيث إنَّه متى لاح له شاردةٌ من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعًا له فيه أدنى مجال سارع إليه. الإتقان للسيوطي 4/243
7 ينظر بيانُ منهجه في التفسير وتذرعه بالمعاني اللغوية لنصرة مذهبه الاعتزالي في: مجموع الفتاوى” 13 /386 – 387، ولسان الميزان 8/8، ومعيد النعم للسبكي ص66، ومناهل العرفان للزرقاني 2/70، والتفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي 1/304
8 ينظر دراسة وافية عن “الكشاف” وما كُتب حوله من شروح وحواشي ومختصرات وردود في: “كشف الظنون” لحاجي خليفة 2/ 1475. وينظر: ما طبع منها والنسخ الخطية لما لم يطبع في “تاريخ الأدب العربي” لكارل بروكلمان 5/ 217 – 224
9 كابن المنيّر، والجرجاني، والطيبي في حواشيهم على الكشاف، والبيضاوي والنسفي فيما جردوه في تفاسيرهم من اعتزالياته، وغيرهم، ويُلاحظ أن هؤلاء من جملة الأشاعرة والماتريدية، وهم موافقون للمعتزلة في بعض الأصول المشتركة كتعطيل الصفات؛ فلينتبه.  
10 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” ومن هؤلاء من يكون حَسَنَ العبارة، فصيحًا، ويدسُّ البِدَعَ في كلامه، وأكثرُ الناس لا يعلمون؛ كصاحب “الكشَّاف” ونحوه، حتى إنَّه يروج على خلقٍ كثيرٍ ممن لا يعتقدُ الباطِلَ من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله! وقد رأيتُ -من العلماء المفسِّرين وغيرِهم- مَن يذكُرُ في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافِقُ أصولَهُم التي يعلم أو يعتقد فسادَها ولا يهتدي لذلك! “. مقدمة التفسير ضمن مجموع الفتاوى 13/ 358. وقال البلقيني: “استخرجتُ من الكشاف اعتزالًا بالمناقيش من قول تعالى في تفسير: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]. “وأيُّ فوز أعظم من دخول الجنة” أشار به إلى عدم الرؤية. الإتقان 4/243.
11 ينظر: الكشاف 2/272، و3/217. والترضي عن الخلفاء الراشدين وأم المؤمنين عائشة – رضي الله عنهم- وموالاتهم هو مذهب المعتزلة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج؛ فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة، وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان، وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليًا .. ويعظِّمون الذنوب، فهم يتحرون الصدق كالخوارج، لا يختلقون الكذب كالرافضة، ولا يرون أيضًا اتخاذ دار غير دار الإسلام كالخوارج، ولهم كتب في تفسير القرآن ونصر الرسول، ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض..”. مجموع الفتاوى 13/97 – 98
12 ينظر: الكشاف 3/223
13 “وغلاة القدرية ينكرون علمه – سبحانه- المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهى وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أُنف: أي مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم؛ كما قال عبد الله بن عمر – لما أخبر عنهم -: إذا لقيت أولئك فأخبرهم: أني بريء منهم وأنهم برآء مني، وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون”. مجموع الفتاوى 8/450
14 البيت الحرام. وكان قد جاور بمكة زمانًا، فصار يقال له: جار الله. “وفيات الأعيان ” 5/ 169
15 الكشاف 1/3
16 ومن جنس ذلك ما قاله الذهبي في السير 20/156: “وكان داعية إلى الاعتزال، الله يسامحه”.
17 ينظر: مجموع الفتاوى 13/484 و23/345، وشرح الطحاوية لابن أبي العز 2/537، وشرح الطحاوية لشيخنا ص218 و264