الرئيسية/المقالات/عرض أعمال الأحياء على الأموات

عرض أعمال الأحياء على الأموات

عرض أعمال الأحياء على الأموات
 
الحمد لله، وبعد:
الأموات في عالم البرزخ -وهو ما بين الدنيا والآخرة مِن الموت إلى البعث-: فلهم في هذه الدّار أحوال، وهم على منازلهم ومراتبهم مِن الخير والشّر، قد دلّتِ النّصوص مِن الكتابِ والسّنّة على جملة ذلك: فدلّت على أنّ الأمواتَ إمّا في نعيمٍ وإمّا في عذابٍ، وهذا ممّا يجبُ الإيمانُ به، وهو مِن الإيمانِ بالغيب الذي أثنى الله به على المتّقين.
والعبادُ في هذه الدّنيا لا يعلمون مِن أحوال أهلِ القبور شيئاً إلا النّادر ممّا قد يُكشف لبعضِ النّاس، كما جاء في أخبار وروايات كثيرة، منها الصّحيح وغير الصّحيح، وكذلك الأموات: الأصلُ أنّهم لا يعلمون مِن أحوال أهلِ الدّنيا شيئاً؛ لأنّهم غائبون عنها، فلا يجوز أنْ نُثبتَ اطّلاعهم على شيءٍ مِن أحوالِ أهلِ الدّنيا إلّا بدليلٍ.
وقد جاءت آثارٌ وروايات تدلّ على أنّ بعض الأموات يشعرُ بأحوال أهلهِ، وما يكون منهم، ولا أعلم شيئاً عَن صحّة هذه الآثار، وقد أوردها العلّامة ابنُ القيّم في كتابه المعروف كتاب "الرّوح"، ومِن أصحّ ما ورَدَ -مما يتعلّق بهذا المعنى- حديث: (إنّ الميت ليعذّب ببكاءِ أهلهِ عليه) رواه البخاري (1286) ومسلم (928) مِن حديث ابن عمر –رضي الله عنهما.
كذلك ثبتَ أنّ الرّسولَ –صلّى اللهُ عليه وسلّم- تُعرضُ عليهِ صلاةُ أمّتهِ وسلامُهم عليهِ – صلّى الله عليه وسلّم-. انظر ما رواه أبو داود (1047-1531) والنسائي (1374) وابن ماجة (1636) مِن حديث أوس بن أوس -رضي الله عنه-. 
 
وأمّا مسألة تزاور الأموات: فهو مِن جنس ما قبله، تُذكرُ فيه آثار، وقد أوردهُ ابنُ القيّم في نفس الكتاب، ولا أذكرُ شيئاً ممّا يُعوّل عليه لإثبات هذه الحال، ولكن نعلمُ أنّ أرواحَ المؤمنين مع بعضها في الجملة، وكذلك أرواحُ الكافرين، والله أعلم بالغيب. 
وممّا يتعلّق بمسألة "عرض أعمال الأحياء على الأموات أو شعورهم بشيء عنها": مسألةُ سماعِ الموتى، وقد دلّ القرآن على أنّ الأمواتَ لا يسمعون، كما قال –سبحانه وتعالى-: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(النمل:80) وقال –سبحانه وتعالى-: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور(فاطر:22)
لكن وردَ أنّ الميت إذا وضِعَ في قبرهِ وتولّى عنه أصحابُه إنّه ليسمعُ قرعَ نعالهم، انظر ما رواه البخاري(1338) ومسلم(2870) مِن حديث أنس –رضي الله عنه-
وما صحّ مِن الأحاديث في زيارة القبور والسّلام على أهلها يأخذُ منه بعضُ أهلِ العلمِ أنّهم يسمعونَ كلام المُسلِّم عليهم بدليل التوجّه إليهم بالخطاب، وأضف على ذلك ما روي مِن قوله –صلى الله عليه وسلّم-: (ما مِن رجلٍ يَمرُّ على قبرِ أخٍ لهُ كانَ يعرفهُ في الدّنيا فيُسلِّمُ عليهِ إلّا ردَّ اللهُ عليهِ روحَهُ فيردّ عليهِ السّلام)، أو كما جاء في الحديث، انظر العلل المتناهية(1523) ومعجم الشيوخ(333)
وهذه الأحاديث: لا يصحّ الاستدلالُ بها على أنّ الأمواتَ يسمعونَ كلّ ما يُقالُ عندَ قبورهم فضلاً عمّا بعُدَ عنهم، فيجب الاقتصار على ما وردَ به الدليل.

فنقول: الأصلُ أنّ الأمواتَ لا يسمعونَ شيئاً مِن أقوالِ الأحياء إلاّ ما دلَّ عليهِ الدّليلُ، ولا يسمعونَ مَن يناديهم ليخبرهم بشيءٍ مِن الأمور، فضلاً أن يسمعوا مَن يناديهم يستغيثُ بهم، ويطلبُ منهم الشّفاعة عندَ الله، ولو كانَ ذلكَ قريباً مِن قبورهم، فضلاً عمّن يكون بعيداً عنهم، ومع إثبات ما وردَ مِن السّماع فإنّنا لا نثبتهُ إلا على الإطلاق، لا نشهدُ لمعيّن بأنّه يسمعُ سَلامَ المُسلِّم عليه أو يسمعُ مشيَ المشيِّعين له عند الانصراف عنه؛ لكن نُثبتُ ذلك على وجهِ الإجمال والإطلاق، وقوفاً على حدّ ما يقتضيه الدّليل، والدّليل جاءَ مطلقاً ليسَ فيه تعيينٌ لِمَن يحصلُ له ذلك، وإنّما جاء مطلقاً عامّاً، فيجبُ الوقوف مع دلالته دونَ زيادة.
وبهذا يُعلم أنّ ما يفعله القبوريون عندَ قبورِ مَن يُعظّمونه -مِن دعائهم والاستغاثة بهم، أو دعاء الله عند قبورهم أنّ ذلك دائرٌ بين البدعة والشّرك، فيجبُ الوقوف عندَ حدود الله في زيارة القبور وغيرها، فإنّ زيارةَ القبور إنّما شرّعت: إحساناً للموتى بالدّعاء لهم، وانتفاعاً للحيّ بتذكر الآخرة، نسألُ اللهَ البصيرةَ في الدّين والفرقان المبين.

 
أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك