الرئيسية/المقالات/الاختلاف بين الكفر والإيمان
sharefile-pdf-ofile-word-o

الاختلاف بين الكفر والإيمان

الاختلاف بين الكفر والإيمان
 
الحمد لله حمداً طيّباً كثيراً مباركاً فيه، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبدهِ ورسولِه، وعلى آلهِ وصحبهِ ومَن اهتدى بهداه أمّا بعد:
فقد قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك:1-2)
وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الكهف:7) وقال سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (هود:من الآية7) 
دلّت هذه الآيات على أنَّ مِن حكمته تعالى في خلقِ الوجود: ابتلاءُ العباد، أيّ اختيارهم، ليتبيّن المحسنُ مِن المسيء، بل ليظهر مَن هو أحسنُ عملاً،  فهذه الحياةُ ميدان ابتلاء، بدأت هذه الرّحلة -رحلة الابتلاء- منذُ ابتلى اللهُ آدم بإبليس، حين أبى أن يسجدَ له استكباراً وحسداً، فأسكنَ اللهُ الأبوين الجنّة ونهاهما عَن الأكل  مِن الشّجرة، وابتلاهما بإبليس فأغواهما وزيّن لهما الأكلّ مِن الشّجرة: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (الأعراف:22-23-24) 

فأهبط اللهُ آدم وزوجَه وإبليس إلى الأرض، وبدأت رحلةُ الابتلاء على ظهر الأرض، يبتلي اللهُ عبادَه بما آتاهم ، ويبتليهم بالخيرِ والشّر، ويبتلي بعضهم  ببعض، ويبتلي أولياءه بأعدائه، وأعداءه بأوليائه، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (الأنعام:53) يبتليهم بما أنزلَ اللهُ عليهم مِن الشّرائع المشتملة على الأوامر والنواهي. 
فبدأ آدمُ -عليه السّلام- وذريته هذا الطريق ومضوا، لكنهم مضوا على هدى الله وتوحيده، فمضى على ذلك عشرة قرون كلها على التوحيد، كما جاءَ عن ابن عباس -رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى: [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (البقرة:213)
فكان الناسُ أمّة واحدة كلّها على التّوحيد والإيمان، حتى حدث الشّركُ في قوم نوحٍ، فبعث الله نوحاً -عليه السلام- لينّذر قومَه الشّرك، ويحذِّرهم بأسَ الله، فلبثَ فيهم ألف سنّة إلاَّ خمسين عاماً، فآمن معه مَن شاءَ اللهُ مِن عباده، قال الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (هود:36)
فمِن ذلك التأريخ صار الناس فريقين: مؤمنين، وكافرين.
وكلّما بعثَ اللهُ نبيّاً انقسمَ النّاسُ أمام دعوته فريقين: مستجيبين مؤمنين، ومعارضين مكذّبين. 
هكذا تتابعت رحلة الدّعوة إلى الله، وقصّة الدعوة إلى الله، قال الله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (المؤمنون:42-44)
فالنّاس فريقان: مؤمن وكافر، مطيع وعاصي، برّ وفاجر، هم فريقان في الدّنيا، وهم فريقان في الآخرة، هذا الاختلاف الأعظم، الاختلاف بالإيمان  والكفر، والطّاعة والعصيان، والتقوى والفجور، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (التغابن:2)
وهذا واقع بمشيئة الله تعالى وتقديره، وله الحكمةُ البالغة، وهذا الاختلافُ ينشأ عنه تباغض واقتتال وتباين، لأنَّهُ اختلافٌ جذري، اختلافٌ بالإيمان والكفر، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (البقرة:253)
فهذا اختلافٌ قدّره الله وقضاه، ولا يزال النّاس مختلفين ذلك الاختلاف، كما قال تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] (هود:118-119)

وهذا يدلُ على استمرار هذا الاختلاف بين الحق والباطل، بين أولياء الله وأعداء الله، بين حزب الله وحزب الشّيطان، فهما حزبان مختلفان على ظهر هذه الأرض، فهذا اختلاف الحق فيه بيّن، الحقّ فيه ما عليه الرّسل وأتباعهم، فمَن أرادَ النّجاة والسّعادة والفلاح: فليكن في هذا الجانب، ومَن كانَ في الجانب الآخر فقد شاقّ اللهَ ورسوله كما قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (لأنفال:13)
فالخيرُ والصّلاح، والفوزُ والسّعادة في الدّنيا والآخرة، في سبيل الرّسل وأتباعهم، والشّر والشقاء، والضّلال البعيد لِمَن سلكَ سبيل الغاوين الحائدين الزّائغين عن سبيل المرسلين، قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام:153)
وأكثرُ الخلق هم في حزب الشّيطان، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (غافر: من الآية59) وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سـبأ:من الآية13)، وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (يوسف:من الآية38) وقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه (الأنعام:من الآية116) هذا هو حكمُ الله في هذا الخلاف وهذا الاختلاف، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (النساء:76) 
والله تعالى يُقيم الدّلائل على الحقّ، يُقيم المعالم التي يهتدي بها المهتدون، ينصر أولياءه، يُنجيهم مع قلتهم وضعفهم، ويخذل أعداءه ويخزيهم، وينُزل بهم النّكبات على كثرتهم، وفي هذا تبصير للمستبصرين، كما قال سبحانه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (لأنفال: من الآية42)
جاءت هذه الآية في قصة بدر، فبِنصره تعالى لنبيّه والمؤمنين وهم قلّة على أعدائهم، وهم كثرة  وذو عُدة وهالة: فيه آية يهتدي بها الموفّقون، ويعمي عنها المعرضون الهالكون. 
ثُمَّ إنَّ أعداءَ الرّسل بينهم اختلافات، ولكن هذه الاختلافات لا يخرجون بها عن دائرة الضلال والشفاء، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (البقرة:176)
وقال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (الذاريات:8-9)
كل ّهؤلاء المختلفين على باطل، فالاختلاف الأوّل بين الحق والباطل، وأهلُ الحقّ والباطل، فهذا الاختلاف يُحْمَد فيه أحدُ الفريقين ويُذَمّ الفريقُ الآخر. 
وأمّا الاختلاف بين مِلل الكفر وطرق الضّلال: فهذا لا يخرجها عن الذّم ، فكلّها باطلة، وكلّها مذمومة، وكلّها سُبلَ ضلالٍ، وإن كان بعضُها أبعد عن الحقّ مِن بعض، فتكتسبُ مزيداً مِن الذّم، ومزيداً مِن سوءِ المصير. وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. 

أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك