الحمدُ لله، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه، أمّا بعد:
فإنّ أشراط السّاعة التي أخبر بها النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- وأخبرَ أنّها تظهرُ قبل قيام السّاعة؛ كلّ ما يظهرُ منها يكون علمًا مِن أعلام نبوّته -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد وقعَ مِن ذلك في الماضي شيءٌ كثيرٌ، ولكن لا يَعرفُ ذلكَ إلّا مَن عرف هذه الأخبار، وعرفَ ما يصدقها مِن الواقع مما حدثَ ويحدثُ، والأحاديثُ الواردة في هذا الشّأن كثيرةٌ، وكثيرٌ منها في الصّحيحين وغيرهما مِن المصنّفات الحديثيّة، والمقصود مِن هذه الكتابة هو ذكرُ بعضِ ما يتعلّق بما وقع في هذا العصر، ومِن هذه الأحاديث:
1- ما رواه البخاريّ عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قاَل النّبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-: (إنّ بين يدي السّاعةِ أيامًا، يُرفَعُ فيها العلمُ، وينزلُ فيها الجهلُ، ويكثرُ الهرجُ) والهرج: القتل.
2- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (إنّ مِن أشراط السّاعة أن يُرفَعَ العلمُ، ويكثرَ الجهلُ، ويكثرَ الزّنا، ويكثرَ شربُ الخمر…) الحديث
3- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- : (صنفان مِن أهلِ النّار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقرِ يضربونَ بها النّاس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُـميلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسهنّ كأسنمةِ البختِ المائلة، لا يدخلن الجنّةَ، ولا يجدن ريحها، وإنّ ريحَها لتوجدُ مِن مسيرةِ كذا وكذا) رواه مسلم
4- وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (بين يدي السّاعة: يظهرُ الرّبا، والزّنا، والخمر)
5- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (والذي نفسي بيدهِ؛ لا تفنى هذه الأمّة حتى يقومَ الرّجلُ إلى المرأةِ، فيفترشها في الطّريق، فيكونُ خيارهم يومئذٍ مَن يقول: لو واريتها وراءَ هذا الحائط)
6- وعن ميمونة -رضي الله عنها- زوج النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قالت: سمعتُ رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (لا تزالُ أمّتي بخيرٍ ما لم يفشُ فيهم ولدُ الزّنى، فإذا فشا فيهم ولدُ الزّنى؛ فيوشكُ أن يعمّهم اللهُ عزّ وجلّ بعذاب)
7- وعن عبدالرحمن بن غنم الأشعري -رضي الله عنه- قال: حدّثني أبو عامر -أو: أبو مالك- الأشعري -رضي الله عنه- والله ما كذبني: سمعَ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (لَيكوننَّ مِن أمتي أقوامٌ يستحلّونَ الحرّ والحريرَ، والخمرَ والمعازف، ولينزلنّ أقوام إلى جنبِ عَلم، يروحُ عليهم بسارحةٍ لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيُبيّتهم الله، ويضع العَلَمَ، ويمسخُ آخرين قردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة)
8- وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قالَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لَيشربن ناسٌ مِن أمّتي الخمرَ يسمّونها بغيرِ اسمها)
9- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تقومُ السّاعةُ حتّى يتطاولَ النّاسُ في البنيان)
10- وعن أنس -رضي الله عنه- أنّ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تقومُ السّاعةُ حتّى يتباهى النّاس في المساجدِ)
11- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا تقومُ السّاعةُ حتّى يُقبَض العلمُ، ويتقارب الزّمانُ، وتكثر الزّلازلُ، وتظهر الفتنُ، ويكثر الهرجُ) قيل: الهرج ما هو يا رسول الله؟ قال: (القتل القتل)
وقد تضمّنت هذه الأحاديث جملةً مِن الأمور التي أخبر النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّها تقع في أخر الزّمان قبل قيام السّاعة، وقد وقعَ كثيرٌ منها في الزّمان الماضي، وهي تتجدد وتتكرر، والذي نقصدُ التّنبيه إليه: ما وقع في هذا العصر، وكثُر كثرةً لم يسبق لها نظيرٌ في القرون الماضية، وذلك لكثرة أسبابها، لذلك نخصّ بالذّكر والتّنبيه: خمسة أمور مما اشتملت عليه هذه الأحاديث وهي: القتلُ، والزنا، وشربُ الخمر، ورفعُ العلم، وكثرة الجهل.
أولاً– فأمّا القتل: فلا يخفى كثرةُ أسبابه التي أنتجتها حضارة هذا العصر، كالسيارات، والآليات، وأنواع أسلحة الحروب، وأسلحة الدّمار الشّامل، فمَن يُقتلُ بهذه الأسباب في كلّ يوم: هو أضعاف أضعاف مَن كان يُقتلُ بالأسباب العاديّة فيما مضى، ومَن يُقتلُ في الحروب في هذا العصر: أضعافُ أضعاف مَن كانَ يُقتَلُ في الحروب في الزّمن الماضي، فالقتلى في هذا العصر يُقدّرون بعشرات الألوف، ومئات الألوف، بل بالملايين.
ثانياً وثالثاً– وأمّا الزنا والخمر: فمِن المعلوم ما بينهما مِن اقتران في الواقع عند أصحاب الشّهوات وفعل الفواحش، ولا يخفى ما بين هاتين الفاحشتين مِن التّناسب، فشربُ الخمر مِن أعظم الدّواعي إلى الزّنا، ولذلك قرنَ بينهما النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث: (ليكوننّ مِن أمتي أقوام يستحلّون الحرَّ، والحريرَ، والخمرَ، والمعازفَ) والحِر: الفرج؛ كُنّي به عن الزّنا، وكذا في حديث: (ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر)
وكذلك نقول: كَثُر الزنا وظهر في هذا العصر، وكَثُر شرب الخمر؛ لكثرة أسبابهما، وتيسّر الطرق إليهما، وللحضارة المعاصرة أعظم الأثرِ في فشو الزّنا وشرب الخمر في غالب بلاد المسلمين، فقد أنتجت هذه الحضارةُ مِن وسائل الدّعاية إلى الفجور وشرب الخمور، ما لا ينجو منه إلا مَن اعتصم بالله، ووقرَ خوفُ الله في قلبه، كما هو معلومٌ ومشاهدٌ في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، في الإذاعات والقنوات والصّحف والمجلات؛ فإنّ هذه الوسائل إنّما تجتذب المشاهدين والمستمعين والقرّاء، وتنال رضاهم: بما يُعرضُ فيها مِن القصص الغراميّة، والتّمثيليّات الخليعة، والصّور الفاتنة، ودعاية إلى أوكار الفجور في البلاد السّياحيّة والإباحيّة، ومنها بعض البلاد العربية.
ومِن أعظم أسباب فشو الزّنا في المجتمعات الإسلاميّة: الاختلاط بين الرّجال والنّساء في الأعمال والتّعليم، ومِن أسوأ ذلك: ما يتم في برامج الإعلام، وأسوأ منه: ما يُعرضُ في دور السّينما مِن المشاهد الفاضحة، وما يكون فيها مِن الاختلاط وارتكاب الفواحش.
وما نشأ هذا الفساد العريض، وشاع في بلاد المسلمين إلّا حين احتلّ النّصارى كثيرًا مِن البلاد الإسلاميّة، وأعانهم على ذلك المنافقون والجهلةُ والفسقة مِن المسلمين، وهم الذين خلفوهم بعد رحليهم باستقلال البلادِ عن سلطانهم العسكري المباشر، ثم قام خلفاؤهم -بل حلفاؤهم- بتنفيذ خططهم.
وكما شاع في بلاد المسلمين المحتلّة مِن قبل الدّول النّصرانيّة -كفرنسا وبريطانيا- المسارح والمراقص التي يختلط فيها الرّجال والنّساء، وتُرتكبُ فيها الفواحشُ في لياليها، التي تسمّى الليالي الحمراء، فلهذه الأسباب استُبيحَ الزّنا وشُرْبُ الخمر، وكثُرَ ذلك وظهرَ، فكان مصداقًا لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ليكونن مِن أمتي أقوامٌ يستحلّون الحِرّ والحرير والخمر والمعازف)
وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ليشربن ناسٌ مِن أمتي الخمرَ، يسمّونها بغير اسمها)
وقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لا تقومُ السّاعةُ حتى يكثرَ الزنا وشربُ الخمر)
ولكثرة الزّنا: كَثُرَ اللقطاء، فلم يبقَ مما أخبر به النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلا أن يفترش الرجل المرأة في الطريق، فلا يُنكر عليه أحد، إلا مَن يقول: (لو واريتها وراء هذا الحائط) كما جاء في الحديث، وهذه أبشع صورة في الدّلالة على كثرة الزّنا واستحلاله.
والأحاديثُ في هذا المعنى إخبارٌ عمَّا يقع في هذه الأمة -أي: المسلمين- لا في الأمم الكافرة، فإنّهم لم يزالوا كالبهائم يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، حتى بلغ الأمرُ بالأمم التي تسمّى "المتحضّرة" مِن الكفر في هذا العصر أنّ شرعوا في قوانينهم الشّذوذ الجنسي "اللواط"، فهل بعد هذا انحطاط! وما دخل على المسلمين ما دخل مِن الفواحش والمنكرات إلا بتسببهم وعلى أيديهم، كما تقدم.
هذا؛ ويضاف إلى ما سبق مِن أسباب شيوع الزّنا: ما جاء به الطبّ الحديث الذي هو فرعٌ من فروع الحضارة المعاصرة -حضارة الأمم الكافرة-، فقد أفرز وسائل لمقاومة موانع الزّنا في المجتمعات المحافظة، التي أهمها خوف المرأة مِن الحمل، أو زوال البكارة، فجاء الطّب بأنواع مِن موانع الحمل: كالحبوب، واللولب، واللاصق، وغيرها، ومِن موانع الحمل ما يسمّى "بالواقي" في جانب الرّجل، وقد روَّجها المفسدون وغيرهم مِن الأطباء والتّجار، كما جاء الطب بعملية الرَّتْق لمقاومة المانع الثّاني مِن موانع الزنا، وكل هذا إمعانٌ في الفجور وإشاعة الفاحشة وتهوينِ أمر الزنا.
لم يبقَ إلا وازعُ الإيمان بالله والخوف مِن عذابه، وهو يزول عن صاحبه بفعل هذه الفواحش، ولا يعود إليه إلا بالتوبة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَزني الزّاني حينَ يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشربُ الخمرَ حينَ يشربها وهو مؤمنٌ)
وبعد؛ فإنّ مِن البلاء العظيم في هذا العصر أن تتيسّر طرقُ الوصول إلى ما حرّم الله مِن الشهوات؛ مِن شرب الخمر، وفعل الفواحش ودواعيها؛ مِن النّظر والسّماع والمحادثات, وطرقُ ذلك القنوات الفضائية وهواتفُ الجوال وشبكةُ النت، فكلّها تمكن من المشاهد المحرمة، وما يتبع ذلك من مسموعات وتواصل بين المتَّبعين للشهوات، فيتمنّون الوصول إلى ما يهوون، ثم يصدِّق ذلك أو يكذبه السّفرُ مِن بلاد العافية والمحافظة إلى بلاد الإباحية القريبة والبعيدة.
وقد تيسّرت أسباب السفر وخفَّت كُلَفُه، وانتشرت مكاتب شركات السفر والسياحة، ونشرت الدّعاية لذلك وهيئت الفنادق والحدائق للسياح مِن ذوي القلوب المريضة بالشهوات، مع توفير ما يطلبونه من ذلك؛ فعظُمت بذلك المحنة، واشتدّ البلاءُ، وكلّ ذلك جارٍ بقدر الله، ولحكمته البالغة في ابتلاء العباد، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم الله مَن يخافه بالغيب، فيكُفّ عن الحرام مع قدرته عليه، خوفًا من الله الذي يراه، لا تخفى عليه خافية.
وقد نبّه -سبحانه- إلى هذه الحكمة بتيسيره ما حرّمه مِن الصيد على المـُحْرِم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(المائدة:94)
ويحسنُ في هذا المقام: ذكرُ أحد السّبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ورجلٌ دعتهُ امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال إلى نفسها، فقال: إنّي أخافُ الله) فراقب ربّك أيّها المسلم، وجاهد نفسك، واذكر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(الحج:17)
رابعًا وخامسًا: "وأمّا رفعُ العِلم وثبوت الجهل" فهما ظاهران في هذا العصر، والمراد بالعلم: العلم الموروث عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وهو ما دلّ عليه القرآن، ودلّت عليه السنّة، مِن الاعتقادات والشّرائع المحكمات، فهو العلم الشّرعي علم الكتاب والسنّة، والجهل: هو الجهل بهما، وهذا العلم نورٌ وحياة لِمَن أخذ منه بنصيب، وهو الهدى لمن أراد السير على الطريق.
قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا(الشورى:52) فسَمّى القرآنَ "روحًا"؛ لتوقف الحياة عليه، وسمّاه "نورًا"؛ لتوقف الهداية عليه.
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ(التوبة:33) فالهدى: هو العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح، وأعظمُ النّاس أخذًا وحظًا مِن ذلك العلم هم الصّحابةُ -رضوان الله عليهم- والتّابعون لهم بإحسان.
ولم يزل هذا العلم الذي جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- موضع اهتمام المسلمين، يتنافسون فيه، فعنه يبحثون، وفيه يتذاكرون، وإليه يوجهون أولادهم، والعالم عند المسلمين هو مَن تمكّن فيه، وكان له منه حظّ وافر، فأيُّ آيةٍ وأيُّ حديث ورد في فضل العلم والعلماء فالمراد به ما ورّثه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الحديث: (والعلماءُ ورثةُ الأنبياء، وإنّ الأنبياءَ لم يُورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنّما ورّثوا العلمَ، فمَن أخذَ به أخذَ بحظٍّ وافر)
فيجبُ أن يعلمَ المسلمُ أنّ أهم العلوم وأنفعها في كلّ زمان ومكان في الدّنيا والآخرة: العلومُ الشّرعيّة المستمدّة مِن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولاسيما في هذا العصر الذي طغى فيه ما يسمى بعلم المادة -أي العلوم الدّنيويّة- التي غلبت على الناس، وسيطرت على أفكارهم واهتماماتهم.
فأكثرُ المسلمين اليوم غلبَ عليهم الاهتمام بالعلوم المادية الدّنيويّة، والزهد في العلوم الشرعيّة، مع أنّ الواجب على المسلم إذا وجد مِن نفسه محبةً للعلوم الشّرعيّة، ورغبةً فيها وفي تحصيلها مِن مصادرها، وتهيّأ له التّلقي مِن أحد مِن أهل العلم العاملين النّاصحين: فعليه أن يبادرَ لتحصيلها، ويحمد الله على هذه النّعمة؛ لأنَّ محبّة العلم الصّحيح -علم الكتاب والسنّة- والعلوم المستمدّة منهما: هي خيرٌ للعبد في العاجل والآجل، قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن يُردِ اللهُ به خيرًا يُفقّهُ في الدّين)
وبهذه العلوم: صلاحُ الدّنيا والآخرة، ولهذا كان اهتمام السّلف بهذه العلوم؛ واقرأ -إن شئت- تاريخ المسلمين لتعرف مَن العلماء -في عرف المسلمين في الصدر الأول والقرون الأولى- إذا ذُكِرَ "العلماء"؟ إنّهم العلماء بكتاب الله وسنّة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-، والعلماء بالعلوم المستمدّة مِن هذين الأصلين. والعلوم الشّرعية أنواع:
النوع الأول. علوم شرعيّة أساسيّة: وهي التي جاء بها الوحي، ومدار هذا النوع على ثلاثة أصول:
١- العلم بأسماء الله وصفاته، وهو العلم بالله.
٢- العلم بشرعه، وهو الأوامر والنواهي.
٣- العلم بالجزاء في الآخرة، وهو يتضمّن الإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه كلّ ما يكون بعد الموت؛ من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، والبعث والحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار، قال ابن القيم في الشافية الكافية "النّونيّة":
والعـلمُ أقـــسامٌ ثلاثَ مـا لها * مِن رابعٍ والحقّ ذو تبيانِ
عــلمٌ بأوصــافِ الله وفعلــهِ * وكذلك الأسماء للرحمنِ
والأمـرُ والنّهي الذي هو دينـه * وجزاؤه يوم المعاد الثانـي
فبالأول: معرفةُ الله، وبالثّاني: معرفةُ الطّريق الموصل إليه، وبالثّالث: معرفةُ ما أعدّ الله للعاملين في يوم المعاد.
النوع الثاني: ما يسمّى بعلوم الآلة، أي العلوم المُعينة: كعلوم اللغة، وعلوم الحديث، وأصول الفقه؛ وهي وسيلةٌ لتحصيل تلك العلوم الأساسيّة، ففهم القرآن وفهم السنّة يحتاج إلى وسائل وعلوم معينة على فهم كتاب الله وسنّة رسوله -صلّى الله عليه وسلّم-.
فالعلماءُ بهذه العلوم هم العلماءُ في مفهوم المسلمين الأوائل، وإلى عصور متأخرة، فالمحدِّثون والفقهاء واللغويون معدودون أيضًا في العلماء؛ لأنَّ اللغة العربيّة هي لغة الكتاب والسنّة، وهي وسيلة معينة لفهم الكتاب والسنّة.
أمّا الآن: فخرج اسمُ "العلماء" عن هذا الاختصاص وابتذل، وصار ينصرف في عُرفِ كثير من المسلمين إلى علماء العلوم المتنوّعة المختلفة الماديّة؛ ولهذا صار يقال الآن: علماء الغرب، وعلماء كذا، وعلماء كذا، فإذا جاء "علماء" بالإضافة تبيّنت المسألة: علماء الطب، علماء الكيمياء، إلخ، فالإضافة تعين المقصود.
لكن إطلاق "العلم" وإطلاق اسم "العلماء": هذا هو الذي فيه الخطأ، والأصل أنَّه اسمٌ لعلماء الشّريعة، فمفهوم "العالِم، والعلماء، والعلم، والترغيب في العلم، والحث على العلم: كله راجعٌ إلى العلم الشّرعي. فالشّيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لما قال في مطلع الأصول الثلاثة في المسائل الأربع "الأولى: العلم" فسّر هذا العلم: بأنَّه معرفة الله، ومعرفة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-، ومعرفة دين الإسلام بالأدلّة، فحاجة الإنسان إلى هذا العلم فوق كلّ حاجة، وضرورته إليه فوق كلّ ضرورة.
والعلمُ الشّرعيّ -علمُ الكتاب والسنّة- هو الذي تزكو به النّفوس، وتستنيرُ به البصائرُ، سمّاه الله "نورًا"، قال تعالى: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(التغابن:8)
وقال سبحانه: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(النساء:113)
الكتاب: القرآن، والحكمة: السنّة، فالقرآن والسنّة هما النّور، أما ما عداهما مِن العلوم فلا يسمّى نورًا؛ لأنَّها لا يحصل بها الاستبصار والفرقان بين الحقّ والباطل، والعلمُ المُنزل هو الذي يحصل به الفرقان بين الحقّ والباطل، ويحصل به التّبصير حتى يبصر الإنسان طريقه في الحياة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الحديد:28)
وهذا النّور هو الذي يحصلُ باتّباعه الفلاحُ، قال تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(الأعراف:157)
فالمقصود أنَّ العلمَ الشّرعي ضروري للإنسان، وهو نوعان:
– الأول: ما هو فرضٌ على الأعيان؛ وهو ما لا يقوم دينُ العبد إلّا به.
– الثاني: فرضُ كفاية يجب على الأمَّة الإسلاميّة أن يكون فيها مَن يَعلمهُ؛ ليبقى هذا الدّين والعلم الموروث عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- محفوظًا، وهذا محقّق لابدّ أن يكون فيها -ولله الحمد- للضمان الذي ذكره الله في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(الحِجر:9) وللخبر الصّادق عنه -صلّى الله عليه وسلّم- في قوله: (لا تزالُ طائفةٌ مِن أمّتي ظاهرين على الحقّ) لابدّ أن تكون قائمةً بالحقّ علمًا وعملًا؛ لأنَّ القيام بالدّين لا يتحقق إلا بالعلم والعمل جميعًا.
ولابدّ مِن تعليم الناس هذه العلوم الشرعية؛ لاسيما مع تقصير كثير مِن النّاس في العناية بالعلوم الشّرعيّة، بل أعرض أكثرُ المسلمين عن العناية بالعلوم الشّرعيّة تعلمًا أو تعليمًا، وأقبلوا على العلوم الدّنيويّة؛ إيثارًا للدّنيا على الآخرة.
ومِن آثار هذا الإعراض عن علوم الشّريعة والإقبال على العلوم الماديّة: ابتعاثُ مئات الألوف مِن شباب المسلمين رجالاً ونساءً إلى بلاد الكفار لأخذ علومهم الماديّة، مع أنهم -في حقيقة الأمر- لا يُمكّنون من العلوم المهمة.
فلذلك غلب على النّاس الجهلُ بما بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- مِن الهدى ودين الحقّ، وهذا نوعٌ مِن رفع العلم، لكن بتسبب مِن النّاس، ونوع أخر وهو ما يكون بسبب موت العلماء، كما في الحديث الصحيح: (إنّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعه مِن صدورِ الرّجال، ولكن بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالمًا، اتّخذ النّاسُ رؤوساً جهالًا، فسُئلوا، فأَفْتوا بغيرِ علمٍ، فضَلّوا وأضَلّوا)
وبكلّ حال: فما رُفِعَ في هذا العصر في أكثر البلاد الإسلاميّة من عِلم النبوّة المستمدّ مِن الكتاب والحكمة أعظمُ مما رُفِعَ قبل ذلك، وذلك لسبيبن: أولهما: الإعراض، وثانيهما: قبض العلماء.
- فأمّا الإعراض: فظاهرٌ كلّ الظهور لِمَن تدبّر الواقع، فالجامعات والمدارس الرسميّة الحكومية تخضع لمنظومة "اليونسكو" الأممية التي لا تعترف بالعلوم الشّرعيّة، بل أكثر الجامعات والمدارس الأهلية لا تُعنى إلّا بالعلوم الماديّة، اتّباعًا لمناهج الدول الغربيّة.
- وأما قبض العلماء: فمع قلّتهم يكون موت واحد أعظم نقصًا مِن موت عدد يوم كان العلماء كثيرين، فلذلك تعظمُ مصبيةُ المسلمين بموت واحد مِن العلماء فكيف إذا تتابعوا! وكلّ هذا مصداق لما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن رفع العلم وقبضِ العلم وثبوت الجهل، فكان ذلك عَلمًا مِن أعلام نبوّته -صلى الله عليه وسلم-.
يُضاف إلى ما تقدّم مِن أشراط السّاعة أمرٌ سادس: وهو فشو الرّبا، وقد أخبر به النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-، كما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (بين يدي السّاعة يظهرُ الرّبا، والزّنا، والخمر)
وقد ظهر الرّبا في هذا العصر أعظم ظهور، فقد انتشرت في العالم الإسلامي بنوك الرّبا المؤسَّسة على نظام البنوك في الدّول الغربيّة الكافرة، تلك الأنظمة التي وضعتها عقول يهوديّة قد أُشربتْ حبّ الرّبا، فصار أهمّ موارد تلك البنوك القرض بفائدة، فآل الأمرُ إلى أنّ أكثر الناس لا يمكنهم الاقتراض إلا بفائدة، أي: بربا، فبهذا ظهر الربا، وهذا مصداق ما أخبر به النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-.
وهذه المنكرات الثلاثة: (الرّبا، والزّنا، وشرب الخمر) مِن كبائر الذّنوب، وقد جاء "الزّنا" مقرونًا بالشرك وقتل النفس في كتاب الله، وجاء "الرّبا" مقرونًا بالشّرك وقتل النفس في حديث "السّبع الموبقات"، قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (اجتنبوا السّبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشّرك بالله، والسّحر، وقتلُ النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا..) الحديث [متفق عليه] وجاء "أكلُ الرّبا" مقرونًا بالزّنا وشرب الخمر في حديث ابن مسعود المتقدم.
ثم اعلموا أنّ هذه الأخبار سيقت مساق الذّم لهذه الأمور والتنفير عنها؛ فإنّها محرّمات دلّ على تحريمها الكتابُ والسّنّة وإجماعُ الأمة، فظهورها وكثرتها يدلّ على ضعف العلم والإيمان، ولذا قُرِنت برفع العلم وثبوت الجهل، فهي كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لتتبعنّ سننَ مَن كانَ قبلكم) فإنّ المراد منه تحذير الأمّة مِن اتّباع سنن اليهود والنّصارى، وذلك بالتّشبّه بهم في المنسوخ والمبدَّل مِن دينهم، أو في عوائدهم الخاصّة، فكلّ هذا منهيٌ عنه في شريعة الإسلام.
وهنا أربعة أمور أخبر النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- بوقوعها قبل قيام الساعة، ورد ذكرها في الأحاديث المتقدّمة، وقد وقعت كما أخبر النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- في قرون مضت، وهي في هذا العصر أكثر ظهُورًا، وهي: التّطاول في البنيان، والتّباهي في المساجد -أي التّفاخر بتشييدها وزخرفتها-، والنّساء الكاسيات العاريات، والرّجال الذين في أيديهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها الناس.
– فأمّا "التّطاول في البنيان" فشاهده مِن الواقع: التّنافس في بناء الأبراج العالية، التي تُكوّن مِن عشرات الطّوابق، بل قد تزيد على المئة، مضاهاة للكفار فيما يفعلونه من ذلك، ويسمّونها "ناطحات السحاب".
– وأما "المباهاة في المساجد" فمِن المشاهد: إفراطُ النّاس في بناء المساجد في رفعها وسعة مساحتها وزخرفتها وإضاءتها، ومكبرات الصوت، وتعدد المآذن وارتفاعها، كلّ ذلك فوق الحاجة، يفعلونه فخرًا ومباهاة، وفي ذلك -مع فساد القصد- تبذيرُ الأموال، والتّشبه بالنّصارى في كنائسهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى) أي معابدهم.
– وأما "النّساء الكاسيات العاريات": فينطبق على النّساء المفتونات بتقليد نساء الغرب الكافرات في العري والتهتك، فأحبّ الثياب إليهن القصيرُ والشّفاف والضّيق الرّقيق، فالمستور مِن أبدانهن أشدّ فتنة بهذه الملابس مِن المكشوف، فهذا المظهر عندهن هو الذّوق والتّحضر والتّحرر والجمال، فأصبحن بذلك فاتنات مفتونات، خلعن جلباب الحياء، فأشبهن العاهرات أو هنّ عاهرات.
– وأما "الرّجال الذين في أيديهم مثل أذناب البقر يضربون بها النّاس": فينطبق على الشُرط، أعوان الظّلمة الذين في أيديهم الهراوت والعصي الكهربائية يضربون بها النّاس بغير حقّ.
فهذه الأمور العشرة كلّ واحدٍ منها عَلمٌ مِن أعلام نبوّته -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد وقعت كلُّها في هذا العصر، وبأسوأ حالاتها، فلذلك كان هذا العصر عصر الجهل والفتن، فتن الحروب وفتن الشهوات والشّبهات، وكلّها من ورائها الكفرة مِن اليهود والنصارى والملحدين والمنافقين، ومصداق ذلك في قوله تعالى في المنافقين: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً(النساء:89)
وقال تعالى في اليهود: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ(البقرة:109)
وقال في المشركين: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا(البقرة:217)
وقال في الفسقة والكفرة: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(النساء:27)
ومِن الأمور الواقعة التي أخبر بها النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وأخبر عن استحلال بعض الأمّة لها: المعازف، وهي الغناء وآلات الغناء، وقد جاء مقرونًا بالزّنا وشرب الخمر في حديث أبي مالك الأشجعي -رضي الله عنه-: (ليكونن مِن أمتي أقوامٌ يستحلّون الحرّ، والحريرَ، والخمرَ، والمعازف)
ولا يخفى ما بين هذه الأمور الأربعة مِن التناسب، وكلّها ترجع لاتّباع الشّهوات، وما مرَّ زمان بالأمة فشت فيه المعازف ودخلت كلّ بيت -إلّا مِن رحم الله- مثلُ هذا الزمان، بسبب ما أنتجته الحضارة من آلات اللهو ووسائل البثّ مِن إذاعات وقنوات، فلا إله إلا الله الذي إليه المرجع والمئاب، وجامع الأوّلين والآخرين ليوم الحساب: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(النحل:111)
نسأله تعالى أن يعصمنا مِن مضلّات الفتن، ما ظهرَ منها وما بطن، وأن يثبّتنا على الإسلام حتى نلقاه به، وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه والتّابعين لهم بإحسان. حرر في: 1435/5/29 هـ
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك